العراق: إدارة الدولة والعبث

في العام 2020 يصدر محافظ البنك المركزي العراقي السابق (ترك موقعه في منتصف أيلول/ سبتمبر 2020)، تقريرا لا يزال موجودا على الموقع الرسمي للبنك، تحت عنوان: «تخفيض سعر صرف الدينار العراقي : المحددات والبدائل»، وأهم ما جاء في هذا التقرير هو الهدف الرئيسي من تخفيض سعر صرف الدينار العراقي وهو «تخفيف عجز الموازنة العامة (من خلال شراء الدولار من وزارة المالية بسعر صرف أعلى)، وهو امر تتم معالجته أولا من خلال إصلاحات هيكلية تهدف إلى زيادة إيرادات الدولة، والسيطرة على النفقات غير المنتجة، ومعالجة العديد من أوجه الخلل والقصور في السياسات العامة (الاقتصادية، التجارية، المالية، والاستثمارية) قبل اللجوء إلى تخفيض قيمة الدينار العراقي».
ويؤكد التقرير أن تأثير التخفيض على التنافسية المفترضة للسلع المحلية سيكون محدودا جدا؛ فصادرات العراق غير النفطية محدودة جدا، وعليه لن يؤثر تخفيض العملة عليها، ولن تتحقق قيمة إضافية يعتد بها من جهة، ومن جهة أخرى فان المنتجات المحلية ضعيفة جدا وغير قادرة على تعويض المستوردات. كما يشدد التقرير على تأثير هذا الانخفاض على القدرة الشرائية للفئات الواسعة التي تعتمد دخولا محددة. لينتهي التقرير إلى أن «تخفيض قيمة الدينار العراقي في الوقت الحاضر لا يبدو ضرورة ملحة».
بعد ثلاثة أشهر تقرر الحكومة/ وزارة المالية/ البنك المركزي، تخفيض قيمة الدينار العراقي بما يزيد عن 21.8٪، في سياق فوضى في الصلاحيات الدستورية والقانونية والتي أصبحت جزءا من التقاليد الراسخة للدولة العراقية! إذ يفترض أن تكون السياسة النقدية صلاحية حصرية للبنك المستقل، إذ تقرر المادة 4 من قانون البنك المركزي العراقي أن من مهام البنك «صياغة السياسة النقدية وتنفيذها في العراق، بما في ذلك سياسة الصرف الأجنبي»، لكن وزير المالية ضرب عرض الحائط هذا النص، وقرر تخفيض سعر الصرف، مع محاولات ساذجة لتسويق فكرة أن تحديد سعر الصرف هو من صلاحية وزارة المالية وليس البنك المركزي، وهذه الفكرة المتوهمة تطيح بمبادئ السياسة النقدية ومفاهيمها بالكامل! والمضحك هنا أن نجد محافظ البنك المركزي نفسه، يصرح بأن تحديد سعر الصرف كان بطلب من وزارة المالية!

لم يكن تغليب التفكير السياسي، وأولوية السياسة على مبادئ الاقتصاد، والخلط بين السياستين المالية والنقدية، وهي السلبيات التي شخصها بيان البنك المركزي العراقي على الحكومات السابقة، بعيدا، هذه المرة أيضا، عن القرار الارتجال لتخفيض الدينار العراقي، فكل ذلك هو محاولة للتغطية على عجز الموازنة

بالعودة إلى بيان البنك المركزي الذي قرر فيه تخفيض سعر صرف الدينار العراقي، لا نجد في هذا البيان أي إشارة إلى وزارة المالية، بل سنجد مجلس إدارة البنك المركزي، يقدم نقدا لاذعا لما سمّاه: التشوهات الهيكلية في الاقتصاد العراقي التي أفقرت المالية العامة وقيدت قدرة الإصلاح، وإلى تغليب التفكير السياسي وأولويات السياسيين على الفكر الاقتصادي وأولويات التنمية، والأهم تغليبها على قواعد العلاقة بين السياستين المالية والنقدية! ليقرر في النهاية «تعديل سعر صرف العملة الأجنبية» لمرة واحدة فقط ولن يتكرر لغرض «دفع الرواتب وتلبية الاحتياجات الانفاقية الأخرى المتعلقة بالخدمات المقدمة للمواطنين» من جهة، و»حرصا على تفادي استنزاف الاحتياطي النقدي للبنك»! كما يخبرنا البيان أن سعر صرف الدينار العراقي السابق «أصبح يشكل عائق كبير لإجراء التنمية الحقيقية وتعزيز التنافسية للإنتاج المحلي»!
وفي سياق هذا العبث لم يخبرنا أحد ما الذي تغير خلال هذه الأشهر الثلاثة بين تقرير محافظ البنك المركزي العراقي السابق، وبيان مجلس إدارة البنك نفسه الذي كان قائما في ظل المحافظ السابق، ليتغير تقييم البنك للإنتاج المحلي وقدرته المفترضة على التنافس والتي اعاقها سعر الصرف بحسب المجلس؟
وفي سياق هذا العبث أيضا، لم يخبرنا أحد لماذا انتهك رئيس مجلس الوزراء نصا قانونيا صريحا ورد في قانون التعديل الأول لقانون البنك المركزي العراقي رقم 63 لسنة 2007 ، والذي نصّ على أن «يعين محافظ البنك المركزي العراقي بدرجة وزير باقتراح رئيس مجلس الوزراء ومصادقة مجلس النواب وأن يكون من ذوي الخبرة والاختصاص في الشؤون الصيرفية او المالية او الاقتصادية». وهذا لا ينطبق بالمطلق على الرجل! ليقوم بتعيين شخص لا يمتلك أيا من هذه المؤهلات محافظا للبنك المركزي، فالرجل كما تقول سيرته الذاتية خريج كلية القانون، وحاصل على شهادة ماجستير في القانون أيضا، في العام 2019!
ولم يسأل أحد عن العلاقة بين عجز الموازنة واستنزاف الاحتياطي النقدي للبنك، خاصة إذا علمنا أن قانون البنك المركزي لا يتيح له إقراض الحكومة من الأصل.
ولم يشرح لنا أحد كذلك ما الذي سيترتب على هذا التخفيض من تبعات تتعلق بالفئات الهشة اقتصاديا جراء التضخم الحتمي، فبموجب دراسة أجرتها وزارة التخطيط العراقية، مع البنك الدولي، أعلنت نتائجها في تشرين الأول/ أكتوبر 2020 بلغت نسبة الفقر في العراق 31.7 ٪ من مجموع السكان، وهؤلاء جميعا فقدوا 21.8 من دخلهم عمليا!
ولن يخبرنا أحدٌ بطبيعة الحال لماذا عمدت الحكومة إلى اقتراض ما يزيد على 27.8 مليار دولار في العام 2020 عبر قانونين للاقتراض الخارجي والمحلي، ولماذا طلبت مبلغ 35.2 مليار دولار في مشروع القانون الذي قدم في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2020 من الأصل، وما يعنيه ذلك من أن قرار تخفيض العملة لم يكن سوى قرارا ارتجاليا بعد فشل الحكومة في استحصال موافقة البرلمان على هذا القرض وتخفيضه إلى ما دون الثلث؟
لم يكن تغليب التفكير السياسي، وأولوية السياسة على مبادئ الاقتصاد، والخلط بين السياستين المالية والنقدية، وهي السلبيات التي شخصها بيان البنك المركزي العراقي على الحكومات السابقة، بعيدا، هذه المرة أيضا، عن القرار الارتجال لتخفيض الدينار العراقي، فكل ذلك هو محاولة للتغطية على عجز الموازنة أكثر منه خيارا مدروسا ومبنيا على أسس علمية !

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول هوزان هكاري:

    تخفيض قيمة الدينار مقابل الدولار يعني تخفيض
    قيمته مقابل العملات الاخرى.الاجراء هذا لايغير
    من المعادلة الاقتصادية في العراق. حسب اعتقاد
    الذين روّجوا لهذا القرار واتخاذه سوف يخدم
    الاقتصاد العراقي وينقذه من الانهيار وهذا هو
    عين الخطا.

  2. يقول هوزان هكاري:

    سلبيات تخفيض قيمة الدينار مقابل الدولار:
    – ارتفاع اسعار السلع لان معظمها مستورده
    -ارتفاع تكاليف استيراد السلع الانشائية
    -انخفاض الطلب على العقارات وابطاء عملية
    البناء وفقدان الالاف من فرص العمل
    – خسارة كبيرة لذوي الدخل المحدود

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    بدلاً من تخفيض الدينار, عليهم بتخفيض الرواتب الوهمية بهذه الدولة الهلامية!
    نصف الرواتب تُصرف بدون وجه حق!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول S.S.Abdullah:

    على أرض الواقع، زاوية رؤية الموظف، تختلف عن زاوية رؤية منتج منتجات ذات عائد إقتصادي في أجواء سوق العولمة، حيث لا شفاعة ولا محسوبية ولا واسطة لتحقيق أي عملية تجارية مع أي زبون حضر إلى السوق بواسطة الآلة التي بيد الإنسان والأسرة والشركة قبل أو أثناء أو بعد كورونا في عام 2020،

    هو أول ما خطر لي عند قراءة ما ورد فيما نشره (د يحيى الكبيسي) تحت عنوان (العراق: إدارة الدولة والعبث) في موقع جريدة القدس العربي، بعد إتمام اتفاق بريكست بين بريطانيا والاتحاد الأوربي، والأهم لماذا أو ما الدليل على اختلاف الرؤية؟!

    لأن أولوية أي موظف، تختلف عن أولويات أي مُنتِج للمُنتجات، في رؤيته الزمن، وعلاقته بتكاليف الإنتاج، حتى يستطيع المنافسة بالسعر، مع أي منتج آخر ويعرض بضاعته في السوق،

    بينما الموظف، رؤيته الزمن، لها علاقة بموعد تسليم الراتب، وكيف يمنع أن يكون هناك أي نقص به، إن لم يكن هناك امكانية لزيادته،

    ومن هذه الزاوية أختلف مع كل تحليل، ورد بخصوص عملية تخفيض قيمة العملة، وفي موضوع فرض الضرائب، بداية من الموظف أولاً، حتى يترك عقلية الموظف،

    علّ وعسى يتوجه إلى عقلية الإنتاج، فيساهم في رفد الإقتصاد، عن بُعد، أو عن قُرب، وجها لوجه على أرض الواقع، لا أن يكون عالة عليه، كما هو حاله الآن.??
    ??????

  5. يقول ابن بغداد:

    قامت قيامة كتابنا عندما قام البنك المركزي العراقي بتخفيض العملة العراقية تجاه الدولار الامريكي بما قيمته ٢١٪؜ حيث تمر البلاد بازمة اقتصادية حادة لاسباب اهمها تضخم الدولة بعدد هائل من الموظفين لا طائل لوجودهم بالاظافة للفساد المستشري في جميع مفاصل الدولة وانعدام الانتاج الصناعي واعتماد المجتمع على الاستهلاك والاستهلاك فقط… ولكن ما استغرب له هو قول البعض “هذا ما حصلنا عليه من حكومات ما بعد ٢٠٠٣”!!! … دعوني اذكر نسبة تخفيض وانخفاض قيمة الدينار في زمن حكم صدام والبعث عندما كان اغلب الكتاب الاشاوس يصفق ويمجد لحكم تلك الحقبة!! كانت قيمة الدينار ٦ر٣ دولار امريكي لتنخفض بسبب حرب ايران وحرب الكويت والحروب الداخلية الى ٣٦٠٠ دينار مقابل الدولار! اي انه انخفض بنسبة ٠٠٠ر١٠٠٪؜ (مئة الف بالمائة)! … وبدووون تعليق!

إشترك في قائمتنا البريدية