اللاجئ والتنازع على الألم

حجم الخط
0

في مرحلة الطفولة يشيّد الطفل عالمه من خلال ما يعبره من الكلمات والصور والروائح والوجوه، التي تواجهه بتكوينها البكر لتتحول إلى علامات كونها تمثل اختزالاً لمفاهيم، تنهض على التجربة الأولى، غير أن هذه المكونات للأشياء غالباً ما يصحبها قلق وانزياح عن مدلولاتها الحقيقية لقصور عقل الطفل، وعدم قدرته على الإحاطة بكل ما هو حوله. ففي الطفولة نسعى إلى خلق مفاهيم وتعميمات، تطال كل ما يردنا من العالم المحيط، إذ ان كل العجائز يشبهون جارنا صاحب البقالة الذي يجلس على كرسي من القش، يعقد خيوطاً – لا أعلم إلى الآن ما حاجاته لها- والفرح يعني العيد والأرجوحة، وفلسطين هي متوالية من كلمات منها اليهودي، و«البلاد» كما يلفظها الآباء والأقارب، إذ نادراً ما كان يقال فلسطين بل «البلاد»، كما تبدو جميلة في المتلفظ الحكائي لعالم الكبار، وفي سياق هذه المتوالية كانت ترد كلمات منها لاجئ، ونازح، ومع ما يشوب هاتين الكلمتين من تشويش نظراً للمدلولات غير المنجزة في ذهن الطفل، غير أنني استطعت أن أقيم رابطاً بين هاتين الكلمتين، وبين اسم فلسطين، أو البلاد، وتحديداً حين أدركت بأنني فلسطيني، إلا انني أدركت كذلك بأنه يجب أن أكون إما لاجئاً، أو نازحاً. الطريف في الأمر بأنه خلال سنوات طفولتي كنت على قناعة تامة، بأن كلمة لاجئ تعني الفلسطيني بكل بساطة، أي أنها كلمة رديفة للفلسطيني، أو بوصفها اسم علم، أي أن اللاجئ اسم علم يطلق على الفلسطينيين فقط، ولا يمكن لهذه الكلمة أن تحمل أي مدلول سوى أنها تعني الفلسطيني، وحين كبرت قليلاً أدركت أنها صفة (مؤقتة) للفلسطينيين…
ومع ذلك لم يفارقني ذلك الإحساس بأن هذه الصفة لا تنطبق إلا على الفلسطيني، وأي خروج عن تعالقها البنيوي مع الفلسطيني، فإنها سوف تغدو بلا دلالة، وبلا قيمة فاعلة.
يعرف «قاموس أكسفورد» اللاجئ بأنه الشخص الذي أجبر أو أكره على مغادرة وطنه خوفاً من الحرب، أو الاضطهاد أو نتيجة كارثة طبيعية. وفي «لسان العرب» تتسم الكلمة بنزعتها نحو توضيح سياق الاضطرار، حيث جاء «واَلْجَأَه إِلى الشيءِ: اضْطَرَّه إِليه. وأَلْجَأَه عَصَمه. أي لَجَأَ إِلى الشيء أو الـمَكان. وهكذا أمسى مكان اللجوء الذي اضطر له الفلسطيني باعتباره ملاذاً للأمن والطمأنينة، ونأياً عن أجواء الموت والحزن والفقر والتشرد والجوع والحرمان… ومع أن هذا الوعي الذهني أو المعرفي لمفهوم اللاجئ، قد نضج مع الزمن، ليتحدد بوصفه مصطلحاً سياسياً أو أنثروبولوجياً أو قانونياً، إلا أن هنالك منطقة في ذهني، ما زالت تأبى أن تتخيل كلمة لاجئ بمعزل عن الفلسطيني، وكأني لا أرغب بأن يسرق هذا الامتياز من الفلسطيني كونه أشهر، وأهم لاجئ في التاريخ الحديث… فكلمة لاجئ بمعزل عن الفلسطيني لا تعبر حقيقة عن معناها، إلا بذلك التجاور اللفظي، ولهذا تبدو كلمة لاجئ ملفقة ومخترعة، بل تكاد تفقد كثيرا من حرارتها ودفئها، وحتى سحرها وجمالها – إذا ما شئنا أن نتلمس لها صيغة رومانسية- فاللجوء هو صنعة فلسطينية بامتياز، والفلسطيني هو الأقدر على أن يعبر عن أزمة اللجوء، بل والتمثيل عنها بالمعني الخطابي تبعاً لهذا الكم الأكبر من العذابات البشرية… كما هو النازح الذي يجسد المؤقت والطارئ والحائر، والألم المتقطع للخروج والعودة، وكما اللاجئ (المطلق) كونه ذلك الفعل الديمومي من الإرجاء للذات، ولكن عبر زمن غير مكتمل.
ومع أن مفردة لاجئ لم تبرح ذاكرتي، إلا بوصفها كلمة مقصورة على الفلسطيني، أو اسم علم للفلسطيني يمكن أن يحل بديلاً لكلمة الفلسطيني، إلا أن هذا الزمن جعل من كلمة لاجئ، وثقافة اللجوء منسحبة على العربي عامة، إذ هو يتنازع الفلسطيني على المفهوم والممارسة، بل تكاد الحالة العربية أن تسلب اللاجئ الفلسطيني كلاسيكية الاسم وتقاليده، ولاسيما في العقود الأخيرة… قياساً على مخلفات الحروب في لبنان والصومال والسودان والعراق واليمن وليبيا وسوريا، وحتى في بعض دول المغرب العربي، وهكذا باتت هنالك مخيماـــت لجـــوء ولكن لغير الفلسطيــني، وأصبح معنى التهجير والمهاجرين، والباحثين عن أوطان بديــلة لا يعني الفلسطيني الذي بات يخجل، أو يخشى التعبير عن مأساة لجوئه، وحتى.. أن يسرد قصته، فهنالك من يزاحمه على سرد المأساة إنشائياً، وكما أيضاً في التمثيل الخطابي لثقافة الصورة التي اعتدنا أن نراها عبر مشهــد الخيــام الفلسطينية….
ولهذا حين أرى مخيمات اللاجئين العرب الجدد، أجد أنها غير حقيقية مزيفة، بل أقرب إلى نسخة مشوهة مصطنعة عن الأصل. ما من شك بأن تلك الارتحالات الجمعية للإنسان العربي غدت ثقافة، خاصة مع ذلك الانفجار للخروج والهروب من الأوطان المهدمة والفاشلة، بل ان صنع الألم واختباره، بات قيمة يتشاركها جميع العرب، لا الفلسطيني وحده… لاريب أن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، لم تعد بذات الزخم، ولاسيما حين نواجه ملايين من اللبنانيين والعراقيين والصوماليين والسوريين والليبيين والتونسيين والجزائريين والمصريين يعيشون خارج أوطانهم هرباً من موت، أو من جوع، أو بحثاً عن شيء من الكرامة والحرية. وهكذا لم تعد الخيمة واللجوء ثقافة فلسطينية، بل تراجعت أيقونة اللاجئ الفلسطيني.
ومع كل ما سبق، ينبغي لنا أن نستذكر أن معنى اللجوء معجمياً، ولاسيما في «لسان العرب» يعني مكاناً يمثل عصمة من الأذى، غير أن الإنسان والمكان الملتجأ اليه، بات يتقدم على الفلسطيني بعذاباته، بل طور ذلك (الملتجأ) إليه (الإنسان) آليات للبحث عن ملجأ آخر، كما نرى في موجات الارتحال العربي بكافة أطيافه إلى الغرب، وكأن الهم والألم، باتا محل تنازع بين اللاجئين العرب بمن فيهم الفلسطيني، بل ان حصة الفلسطيني للتعبير عن ألمه تراجعت، علاوة على أن بحث الفلسطيني عن حلول لمأساته في تراجع. غير أن الطريف بالأمر أن اللجوء الفلسطيني كان صنيع القدر والتاريخ…
بيد أن اللجوء العربي هو صنيع الذات العربية..! ولهذا اسمحوا لي بأن أنوه بخصوصية اللاجئ الفلسطيني، وأقول بأن الطقوس والتقاليد الفلسطينية للجوء هي الشكل الأكثر أناقةً وأصالة، بل هي النموذج المعياري للألم والمعاناة والحقيقة، كون الفلسطيني يمتلك تجربة وخبرة، تفوق معظم تجارب اللجوء، خاصة في كيفية التعامل مع إشكاليات اللجوء وتداعياته وحوائجه من الموت… والحزن… والحنين… والذكريات…
* كاتب فلسطيني ـ الأردن

رامي أبو شهاب*

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية