قانون السلطة لا سلطة القانون… كلّ ما ازداد نصّ إلّا وازداد لصّ

الأنظمة السياسية في جل الأقطار العربية تعيد إنتاج نفسها، بشكل غيّب تماما أي مؤشرات للتحديث السياسي، باعتباره المدخل الحقيقي لأي تحديث آخر. ومن السهل استحداث أحكام تشريعية، وتطويع القوانين لخدمة مصلحة النظام، ومأسسة العقيدة السلطوية الجديدة، كي تصبح جزءا لا يتجزأ من أجهزة الدولة، التي يسهل عليها تطويق أطياف المجتمع، تحت مجهر الرقابة والإشراف، واتباع استراتيجية تعميم إعلامية مقرفة تبرر كل أفعال الرئيس وتجعله «المعبود الطيب» بالاصطلاح الفرعوني القديم.
ومحاصرة حق المواطن في الاختيار الحر، وتأبيد حالة الأسر المجتمعي، ورفض الرؤى البديلة، وتكبيل الفضاء العام، وإجهاض أحلام الناس وآمالهم في أوطان حرة ومواطنة كريمة، هي غيض من فيضِ خيبات النُظم السياسية العربية، التي بقيت محكومة بهواجسها الأمنية بعد أن راكمتها لعقود. ومثل هذه الأجسام السياسية المريضة، في أكثر من قطر عربي، أساءت استخدام السلطة، وغيّبت الأخلاقيات العامة، وفاقمت فساد البيروقراطية، التي أصبحت بمثابة «سلطة بدون هوية سياسية» عبّرت بشكل واضح عن التنظيم اللاعقلاني للحياة الاجتماعية. وبهذا المعنى أضحت الحياة السياسية بمثابة المنفى الداخلي، وشُلّت الفاعليات المدنية، وإن حدث انفتاح ديمقراطي، فإنّ النظام الحاكم يفعل كل ما يستطيع لإعادة الوضع إلى مناخ يُبيح المحاكمات العسكرية، ويستسيغ القمع والتسلّط بقوانين الإرهاب وحالة الطوارئ المؤبدة للحالة العربية.
وهي واقعية مستهجنة تبعث بإشارات الرفض تجاه سياسات الإجحاف، وتغييب المشاريع الإصلاحية والتحديثية. وعندما يؤولُ الأمر إلى احتباس ديمقراطي، فإنه يترك حالات الإرباك قائمة في كل حين. وهو الوضع الأكثر خطورة ضمن ديناميكية حياة الشعوب، التي كشفت تحرّكاتها الاحتجاجية عن أنظمة حكم متشابهة، تقمع الحريات العامة وتتجاهل حقوق الإنسان. ولا يُسمح بالحديث عن الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، إذ لا تتحمل السلطوية الحاكمة أي تصريح أو تلميح عن مظالمها وانتهاكاتها وفشلها الذريع، الذي أفضى إلى تكريس الاستقطاب الطبقي والاجتماعي والسياسي. ولا قيمة للكم الهائل من النصوص القانونية التي تشير إلى العدالة والمساواة. فالمساواة القانونية من دون سياسات اجتماعية لصالح الفئات المستضعفة تكرّس الفجوة الاجتماعية ولا تردمها. ما بالك إذا كانت هذه النصوص مجرد فصول ورقية، لا تتم ترجمتها ماديا.. ولا يتعدّى تكديسها مراكمة سياسات التمويه والمراوغة والاستفراد بالسلطة. وليس بيّنا أن الأنظمة السلطوية في معظم الدول العربية تحرص على ضمان مجتمع يسوده الوفاق، ضمن الحدّ الأدنى من القواسم المشتركة، أو تدفع نحو استيعاب دولة المواطنة في إطار من التجانس والوحدة الوطنية. انحراف أنظمة الحكم، وتحوّلها إلى جهاز خاضع لإرادة المستبد، جعل المؤسسات الاقتصادية والبيروقراطية الإدارية، قوة سياسية غير قانونية، تخدم الدولة المُشخصنة لا دولة المواطنة، ويغدو تفاعل الحكومات مع عملية التحول الاجتماعي محدودا بمحدودية رؤية نخبها السياسية، لواجبات العمل الوطني وأولوياته. الأمر الذي أضر بالتماسك الاجتماعي، وأنتج دولا ضعيفة غير متجانسة، استسلمت لإرادة الهيمنة، وأدبيات التطويع والإخضاع. وهذا المسار التاريخي، الذي يختزنه عقل كلّ إنسان عاش قمع الأنظمة الشمولية وطغيان الأيديولوجيات، يشير بوضوح إلى مشاكل الشرعية، وأزمة الثقة بين الحاكم والمحكوم. ومعظم البلدان العربية تفتقد إلى الشروط الأشد جوهرية للسلم والتقدم الاجتماعي، وإلى المعايير الإنسانية التي تحترم الفرد، وتحدّ من قيام مصالح غير خاضعة للمساءلة. والحكومات التي تصم آذانها عن أصوات الناس وصرخات الشعوب، وتتجاهل المطالب المشروعة تفتح الباب لمزيد من الغضب والاحتجاجات، وجمودها يمهّد طريق الإطاحة بها، لكونها أنظمة فاشلة، وتفتقد المشروعية الشعبية، راكمت الفساد، وظنت أنها ستحكم إقطاعيات، ولن يزيحها من على كراسيها أحد، ولن يحمّلها أي كان أعباء فشلها في إدارة موارد الدولة، وإهدار ثرواتها، وعدم الاستفادة منها في تحسين أوضاع المواطنين، وإدراك أولوياتهم.

الحكّام العرب لم يبنوا دولا حقيقية تبقى قوية، وهاجسهم الوحيد هو بناء السلطة، وإحكام قبضتها على الناس، وفرض هيمنتها على المجتمع

الحكّام العرب لم يبنوا دولا حقيقية تبقى قوية، وقادرة على حماية نفسها والحفاظ على مكتسباتها، حتى عندما تنهار السلطة. وعوض بناء دولة متماسكة ذات سيادة كان هاجسهم الوحيد على الدوام هو بناء السلطة، وإحكام قبضتها على الناس، وفرض هيمنتها على المجتمع. ومثل هذا النظام السلطوي استنفد مبررات وجوده، بعد أن حوّل دولة الاستقلال إلى دولة قامعة في الداخل، وتابعة للخارج، إلى حد أصبحت معه عملية الإصلاح الجذري، وما يرتبط بها من الذود عن حرية الرأي والتعبير، والسيادة وحق المواطنة الحرة، والعيش الكريم، مسألة حتمية، ومشروع نضال مركزي لا رجعة فيه بالنسبة للفئات الواسعة من الشعب العربي وقواه الحرة التي تعبئ حركتها ضد أوبئة حقيقية جاثمة على صدورها منذ عقود.
وسيفشلون مجددا في عسكرة المجتمع، وتملّك الفضاء العام، وتدجين الشعوب ومنع المواطنة التشاركية. وستمضي القوى الحية في طرح القضايا العامة للمجتمع، وستدفع نحو إيجاد أنساق تفتح الباب للديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتضامن الوطني. على أن يتم التركيز على المضمون والمعايير الموضوعية في العملية الديمقراطية، لأنّها أكثر أهمية من المؤشرات الإجرائية، بمعنى أن المسألة ليست مجرد إجراءات شكلية، ولكنها ترتبط بالقيم والمثل العليا والمبادئ الإنسانية. والتفكير في الديمقراطية من خلال مظاهرها وتجلياتها الواقعية، مسألة ضرورية، على اعتبار أنها مفهوم خلافي بالضرورة، مفاهيمها السائدة اليوم تختلف عن الرؤى السابقة، وجميعها قابلة للتطور، من خلال التشاور الجمعي، والاحتكام إلى التشاركية الواعية بمطالب المجتمع والدولة، بعيدا عن أشكال الإقصاء والتفرقة وشق الصف الوطني.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الشرقاوي:

    الديمقراطية والعدالة الاجتماعية هما من الاساسايات لبناء المجتمعات من الداخل، حينما يكون هذا الداخل متحرّرا من الاحتلال ومن سيطرة الخارج. لكن عندما تكون الشعوب خاضعة للاستبداد والطغيان والاحتلال أو السيطرة الخارجية، فإنّ مفاهيم ووسائل تطبيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية تكون فقط بما يتناسب مع مصالح المستبد الحاكم أو المسيطر. وهو ما يدعو الى ضرورة التحرر منه ومن نفوذه المباشر. نتمنى أن تتحرر الشعوب العربية من سيطرة مثل هذه الأنظمة.
    مقال جريئ . شكرا للقدس العربي.

  2. يقول مصطفى:

    ما العلاقة بين حرية الوطن وبين حرية المواطنين؟ وكيف يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كل بلد؟ وهل طريق الديمقراطية يمرّ بتجزئة الكيانات واخضاعها للسيطرة الأجنبية؟ ثم كيف السبيل إلى التحرر من الاستبداد وبناء الأوطان دون فوضى؟
    الواقع العربي الراهن تختلط فيه مفاهيم كثيرة لم تحسم بعد فكريا وسياسيا. من جهة الحركة والتنظيم والأساليب. ومن حيث الأفكار والغايات والأهداف.

  3. يقول Joseph:

    بوادر الأزمات الإجتماعية المستعصية والتراجعات الاقتصادية الشاملة باتجاه تعزيز أشكال طفيلية من النشاط الاقتصادي ليست إلا نتيجة مباشرة لسلطة مطلقة نخبوية استمدت شرعيتها لبعض الوقت من زعمها ريادة مشروع نخبوي حداثي أو تحديثي قام على تغول السلطة على المجتمع وانتهى بشكل منطقي إلى دكتاتورية فاسدة عاجزة تقوم بنهب هذا المجتمع كشكل وحيد للحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
    مقال ثري وعميق بأفكاره ومخزوناته. شكرا أ. العبيدي وتحية اكبار للقدس العربي

إشترك في قائمتنا البريدية