نيو يورك ـ «القدس العربي»: سيذكر التاريخ يوم 6 كانون الثاني/يناير 2021 بكونه اليوم الذي حاول رئيس أمريكي منتخب أن يعتدي على الآلية التي أوصلته إلى كرسي الرئاسة. أنه اليوم الذي اختار فيه ترامب أن ينهي فترة رئاسته الأولى والأخيرة بالسقوط في الهاوية، وهو اليوم الذي تخلى عنه أقرب المقربين إليه بمن فيهم نائبه.
صفحة هذا الرئيس الأغرب والأجهل والأكثر ديماغوغية، كما وصفه الكثيرون، ستنطوي وهي في أسوأ حالاتها دون أن يجد أحدا يذكره بالخير. حتى أنصاره من الرعاع سيتفرقون في كل الاتجاهات ولن تقوم لهم قائمة. هذه الحادثة أنهت فرصته أن يظل عائما على سقف الأحداث وأن يحاول أن يعود إلى المسرح بطريقة أو بأخرى بما في ذلك الترشح للرئاسة سنة 2024. لقد اقتنعت الغالبية الساحقة من أعضاء الحزب الجمهوري أن ترامب عبء ثقيل عليهم ويجب الابتعاد عنه والتخلص منه. ولا أستبعد أن تقام عليه العديد من الدعاوى القضائية وينتهي به الأمر إلى السجن أو العزلة.
صحيح أن أكثر من 70 مليون أمريكي صوتوا لصالح ترامب، لكن جموع الرعاع الذين أثاروا الفوضى واقتحموا مبنى الكونغرس يوم الأربعاء لا يمكن أن يمثلوا الملايين السبعين. فبعض الذين صوتوا له لأسباب اقتصادية أو منفعية أو حتى دينية، سينفضون عنه وعن أسلوبه غير المقبول بعد اختفائه عن المسرح. كنا نتوقع أن تستمر ظاهرة ترامب ويحاول أن يستثمرها لصالحه الشخصي ويقوم بتشكيل تيار قوي داخل الحزب الجمهوري يتجه به نحو اليمين، أو أن يشكل حزبا جديدا ويشق الحزب الجمهوري بين المدرسة الكلاسيكية القديمة حيث تخلى رموزها عنه، وبين جموع الشعبويين والعنصريين المتعصبين للعرق الأبيض والمتدينين الأنجليكيين وكبار الأثرياء. لكن سقوط ترامب المريع يوم الأربعاء وما بعدها سيقفل هذه الصفحة مختومة بختم العار في أحسن الحالات أو بإجراءات الإدانة والطرد إذا لاحق الديمقراطيون تهديداتهم التي نسمعها الآن.
أولويات بايدن على المستوى الداخلي
نعتقد أن إدارة بايدن-هاريس ستركز في الشهور الأولى على ثلاث قضايا لا تحتمل التأجيل:
أولا – إعادة اللحمة للشعب الأمريكي بعد الشرخ الذي أحدثه ترامب في الوحدة الداخلية طولا وعرضا ووضع البلاد وكأنها على حافة حرب أهلية نتيجة حملته الشعبوية حول تزوير الانتخابات والتي أطلق فيها العنان للرعاع بعد خطاباته وتغريداته غير المسؤولة القائمة على التحريض والعنصرية.
ثانيا – احتواء وباء كورونا وبسرعة مطلقة وخاصة أن اللقاح أصبح الآن متوفرا وهذا يتطلب توزيعها بسرعة على كافة البلاد بدءا بالطواقم الطبية مرورا بكبار السن وصولا إلى القاعدة العريضة.
وثالثا- إنعاش الاقتصاد وإعادة عجلة الإنتاج ودعم الأعمال الصغيرة وخلق وظائف بوتيرة عالية لإعادة الملايين الذين فقدوا وظائفهم وأعمالهم ويقدرون بعشرين مليون أمريكي عاد بعضهم لكن الغالبية ما زالت تعيش على شيكات البطالة التي تقدمها وزارة العمل من الميزانية الفيدرالية.
هذه الأولويات الثلاث متشابكة ومترابطة تشد بعضها بعضا. فإنعاش الاقتصاد يعيد الحياة الطبيعية للبلاد ويغلق ملف البطالة الحاد ويعزز من وحدة البلاد. الأمريكي بطبعه ينظر إلى الأمور من عدسة حياته اليومية ودخله ومسكنه وتأمينه الصحي وبعد ذلك فكل شيء ثانوي. قد يطلق رزمة تحفيزية لإعطاء جرعة إنعاش للاقتصاد وسيحاول أن يجمع حول برنامجه الإنعاشي أكبر قدر من التأييد في الكونغرس الذي يسيطر الحزب الديمقراطي على مجلسيه النواب والشيوخ. وهذه فرصة نادرة عندما يسطير حزب واحد على المجلسين والبيت الأبيض في نفس الوقت وهو ما يمكن الرئيس أن يمرر كثيرا من برامجه لتصبح تشريعات نافذة.
سياسة بايدن الخارجية
بشكل عام إدارة بايدن ستعيد الاحترام للمؤسسة الرئاسية وسيعود الرئيس الجديد إلى السياسة الهادئة الصادرة عن رأي جماعي بعيدا عن المواقف الانفعالية والمتسرعة والمزاجية. لقد تميزت سنوات ترامب بالقرارات المتسرعة النابعة من شخص لا يثق بأحد ومن يختلف معه يطرده فورا بتغريدة على تويتر. سياسة الولايات المتحدة لن تدار عن طريق التغريدات بل ستعود للمؤسسات وإعطاء مساحة واسعة للوزراء والمختصين والمؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية ودور البحث والخبراء والمستشارين. ستكون هناك مشاورات عميقة قبل الإقدام على خطوات مهمة خاصة فيما يتعلق بالأمن ومناطق النزاع والخلافات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين.
في أيامه الأولى سيلغي بايدن قرار حظر المهاجرين من الدول الإسلامية ويتواصل أولا مع الجارين كندا والمكسيك ليهدئ من روعهما ويؤكد على عمق العلاقات وضرورة طي صفحة ترامب وأساليبه العليائية. بعدها سينتقل لتصحيح العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ودول الناتو والشركاء الاستراتيجيين مثل اليابان والهند. وسيعطي نصيبا من اهتماماته للقارة الأفريقية التي لم يزرها ترامب ولا مرة واحدة خلال سنواته الأربع.
ونعتقد أن إدارة بايدن ستركز أكثر على منطقة شرقي آسيا وروسيا أكثر من أي منطقة أخرى. ستعيد الإدارة ترتيب الأولويات حسب مصالح الولايات المتحدة أولا في مجالات التجارة والدفاع والأمن وليس حسب مصالح الكيان الصهيوني، كما فعل ترامب. وسيعطي بايدن القارة الأفريقية جزءا من اهتمامه ولا أدل على ذلك من تعيين سفيرة من أصول أفريقية في الأمم المتحدة هي ليندا توماس غرينفيلد، المتخصصة في الشؤون الأفريقية.
أما عن الشرق الأوسط فبالتأكيد ستطرأ تغييرات أساسية في السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط وخاصة ما يتعلق بالاتفاقية النووية مع إيران، والتي كان بايدن أحد مهندسيها خلال إدارة باراك أوباما. نتوقع أن يعود بايدن إلى الاتفاقية مع بعض الضمانات الإضافية حول أساليب ودقة التفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية إضافة إلى موضوع الصواريخ البالستية بعيدة المدى والتي لا تشملها الاتفاقية النووية. إيران لن تعود للتفاوض حول الاتفاقية وبنودها ولكنها على استعداد أن تضيف بعض الضمانات لتطمين الأطراف المعنية بعدم اجتياز الخطوط الحمراء التي اتفق عليها في “خطة العمل الشاملة المشتركة”. إدارة بايدن ستعيد نسج العلاقات مع الدول العربية بطريقة عقلانية أكثر. صحيح ستبقى إسرائيل حليفا استراتيجيا لا يصل إلى مستواه بلد آخر، لكن هناك ودا مقطوعا بين بايدن ونتنياهو ولذلك لن تغالي هذه الإدارة في تدليل إسرائيل كالإدارة السابقة. نتوقع تغييرا أساسيا سيطرأ على التعامل مع السعودية والإمارات خاصة أن هناك ضغوطا حزبية لفتح ملف حقوق الإنسان وحربي اليمن وليبيا كعاملين أساسيين في ترتيب العلاقات مع هذه الدول. وسيعطي بايدن اهتماما خاصا للملف السوري والعمل مع الأوروبيين والاتحاد الروسي وتركيا للخروج من حالة الجمود.
ستعيد إدارة بايدن التعامل مع السلطة الفلسطينية وتمويلها وفتح مكتب الممثلية الفلسطينية في واشنطن وربما إعادة فتح القنصلية في القدس الشرقية، وتعيد تمويل وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” ومن المتوقع أن تحاول إدارة بايدن تحريك عجلة المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين المتوقفة منذ زمن بعيد، ليس بالضرورة على أرضية “صفقة القرن” بل على صيغة معدلة قريبة ربما من رؤية بيل كلنتون وحل الدولتين مع بعض التعديلات الجذرية المتعلقة بضم المستوطنات الكبرى لإسرائيل وإبقاء نوع من التواصل بين الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية وفتح ممر إلى قطاع غزة. وقد يكون هذا الحل أكثر قبولا لسلطة محمود عباس التي تمر في أضعف حالاتها دوليا وعربيا وفلسطينيا.
أما عن قطار التطبيع فربما سيكون بطيئا في سيره لكنه لن يتوقف تماما. حيث ستوكل مهمة التطبيع لدولة الإمارات، الوكيل الحصري للكيان الصهيوني في المنطقة العربية، والتي لعبت دورا أساسيا في اتفاقيتي التطبيع السوداني والمغربي. لكن بالتأكيد الأمور ستختلف كثيرا وخاصة أن إدارة نتنياهو الآن قد تنهار نهائيا أو تضعف كثيرا بعد انشقاق حزب الليكود الأخير وحل الكنيست والتوجه لانتخابات جديدة. لكن التطبيع ليس من أولويات بايدين فلديه الكثير لإصلاحه من تركة ترامب المرة.
المنظمات الدولية والعمل الجماعي
ستحاول إدارة بايدن من اليوم الأول إصلاح بعض ما أفسده ترامب في العلاقات الدولية حتى مع أقرب حلفاء الولايات المتحدة. وسيعلن بايدن في البداية العودة لاتفاقية باريس للمناخ 2015. وستعود الولايات المتحدة إلى منظمة الصحة العالمية وربما لمنظمة اليونسكو. لكن العودة لمجلس حقوق الإنسان قد تتأخر أو لا تأتي أبدا بسبب الضغوط الصهيونية. ونعتقد أنه سيلغي القرارات المتعلقة بمنع قضاة المحكمة الجنائية الدولية من دخول الولايات المتحدة. كما سيعيد بناء الجسور مع القارة الأفريقية وقد يقوم بزيارة لإحدى الدول الأفريقية المهمة مثل إثيوبيا، مقر الاتحاد الأفريقي، أو جنوب أفريقيا التي ترأس الاتحاد. ستحاول السفيرة الأمريكية الجديدة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، الخروج من العزلة التي يعيشها وفد الولايات المتحدة في المنظمة الدولية، ففي العديد من المواقف والتصويت كانت لا تجد الولايات المتحدة من يقف معها إلا إسرائيل وحفنة من الدول الميكروسكوبية في أواسط المحيط الهادي.
سياسة بايدن بشكل عام ستبنى على التوازن وترميم الخراب الذي تركه ترامب والانطلاق نحو دور قيادي عالمي يقوم على العمل الجماعي والتشاور ودفع المصالح الأمريكية إلى الإمام لا على حساب الأصدقاء والحلفاء بل بالتعاون معهم والتكامل مع أدوارهم والاستفادة من خبراتهم.
يبدو بالفعل أن مكافحة الوباء هي أولوية أولويات الرئيس بايدن التي، كما ذكر المقال، يتوقف عليها رهان الاقلاع الاقتصادي ولمّ شمل المجتمع بعد عاصفة ترامب. أما في ما يخص المنطقة العربية، ليست هناك مؤشرات على تبنيه سياسة مغايرة لما انتهجته إدارة أوباما، والتي كانت حصيلتها كارثية، حتى في ما يخص القضية الفلسطينية. لقد أعلن بايدن نيته الإبقاء على قرارات ترامب التي تخص إسرائيل، بما في ذلك القدس والجولان، ويتوقع أن يكشر عن أنيابه الصهيونية، خاصة وأن لدى نائبته هاريس رغبة في تبنى اسرائيل مثلما تبنت أبناء زوجها اليهودي. وحتى إن عاد الديموقراطيون إلى أسطوانة “حل الدولتين” فهذا لا يعني الدفع بإسرائيل لتغيير سياساتها نحو هذا الاتجاه، وإنما مساعدتها على تحقيق مخططاتها الاستيطانية التوسعية، عبر مشروع سلام آخر يُربحها المزيد من الوقت. الحقيقية أن الحكومات الإسرائيلية هي التي تفرض سياساتها على أمريكا وليس العكس، وأن الديمقراطيين لا يقلون سوءًا عن الجمهوريين حين يتعلق الامر بالسياسات الامريكية الخارجية.