دولة القانون وعالم «طيور الظلام»

حجم الخط
0

«القانون زي ما بيخدم الحق بيخدم الباطل واحنا ناس الباطل بتاعهم لازم يكون قانون…»، هكذا تحدث عادل أمام بوصفه فتحي نوفل المحامي القريب من السلطة في فيلم «طيور الظلام»، وهو يحاول إقناع الوزير بالزواج عرفيا من الفتاة التي تعمل في خدمة أجندته. محاولة نوفل تأمين نفسه قانونيا لم تختلف عن علي الزناتي، محامي الجماعات الإسلامية، وكل منهما يؤكد أن طريقه قادر على تحقيق منافع أكبر. وبينهما محسن، رمز التمسك بالقيم والمبادئ، فهو المواطن المهتم والمبتعد اختيارا عن ساحات الصراع، مكتفيا بمتابعة الأخبار، وهو جالس في المقهى مع الجريدة والشيشة.
لقطات كثيرة يمكن استحضارها من عالم «طيور الظلام» في الفيلم لطيور الظلام في الواقع، ولكن في تلك اللحظة حيث الحديث عن حكم البراءة من جرائم قتل المتظاهرين في ثورة 25 يناير التي تجاوزت مبارك كما كان متوقعا، إلى وزير داخليته حبيب العادلي ومساعديه، بالإضافة للحديث عن قانون تجريم إهانة ثورتي 25 يناير و30 يونيو، وحديث الرئيس عبد الفتاح السيسي، عن ان ما حدث هو نتاج لرغبته في تحقيق دولة القانــــون، وتكـــرار الحديث عن احترام أحكام القضـــاء والفصل بين السلطات، كلها تعيد الفيلم إلى الواجهة، ومعه سؤال مهم يطرحه المحقق علي نوفل، وهو يطالب بتطبيق القــــانون أثناء التحقيق معه في الكسب غير المشروع، عن القـــانون الذي يرغب في تطبيقه ليؤكد نوفل أنه القانون الذي يطبق على الناس.. ولكن هل يطبق القانون على الناس حقاً بالتساوي، وإن كان النص واحدا فهل الظروف واحدة، هل المستندات التي تقدم والفرص التي تتاح واحدة. هل دولة القانون هي دولة نوفل والزناتي، وكل من يملك في لحظة أن يغير اتجاه البوصلة، فيطبق القانون – شكلا- وتغيب العدالة، أم أنها دولة القانون التي تتحقق منها وفيها روح العدالة؟
في الفيلم يؤكد من خرج من قضية الفساد الكبيرة أنه يحتفل لأن «العدالة لسه بخير». حديث عن العدالة في حضور من قام بالبحث عن ثغرات القانون، لتأكيد أن البراءة ليست لها علاقة بحدوث الفساد من عدمه، فالمحكمة، كما أكد نوفل، تحكم وفقا للأوراق. ما لدينا أوراق وحكم قد يتماشى معها، ولكن هل تحققت العدالة في التعامل مع المتهمين والشهود، وفي توجيه الاتهامات التي تتناسب مع الأحداث والجرائم التي حدثت في حق الوطن، وهل تحققت في زمن التقاضي وإصلاح القوانين، التي كانت في وجودها وآليات تنفيذها جزءا أساسيا من حديث الظلم وفعل الثورة واستمرار الغضب. فكرة يكررها نوفل عندما يطالب الزناتي بالمشاركة معه في وجبه الكباب، أتعاب الترافع عن البطلة في قضية آداب. وعندما يعترض الزناتي لأنها أموال «بغايا»، يؤكد نوفل أن البراءة بحكم المحكمة، وانه «طازه كما هو حال الكباب نفسه..». 
لقطات تستحضرها وأنت تتابع الأحاديث التالية لأحكام البراءة عن الحق في العودة للمشهد السياسي، وترشح مبارك الابن للانتخابات، والمطالبة بتعويض ورد شرف للمتهمين. رغم أن الفارق كبير بين حكم البراءة القانوني وما يفترض أن يكون التعامل معه، وبين تحقق العدالة، وما دامت العدالة لم تتحقق، فالتعامل مع الحكم هو جزء من الالتباس الذي تعيشه مصر، بما فيه العبارة الخالدة الت تمثل حقا يراد به باطل، وهي عدم التعليق على أحكام القضاء، وكأن الاحتفاء ليس نوعا من التعليق.
والغريب أن محاولة ابتعاد السلطة عن تداعيات براءة مبارك، لم تصل للنتائج المطلوبة. فتأكيد الرئيس أنه لم يتخذ إجراءات استثنائية، رغم قدرته على هذا وقناعته بدعم الناس لرغبته في تأكيد دولة القانون، هو حديث غير مباشر عن خطورة التفويض الذي يحصل عليه بشكل مباشر وغير مباشر، لدرجة القناعة بقدرته على تمرير أوضاع استثنائية، رغم أنها جزء من أسباب الغضب على مرسي، يضاف له خبر لم يتم نفيه عن حزنه من رد الفعل الشعبي على البراءة، وحديثه عن إحساسه بالجرح واستعداده للرحيل، إن وجد الناس من هو أفضل منه. ويبدو أن من نشر أراد المزيد من التفويض للرئيس على طريقه ناصر، وهو يتنحى تاركا الوطن وحيدا.. فالشعب الذي طالب بالترشح وفوض بدون برنامج مسؤول عن ضبط النفس والالتزام بما قاله الرئيس من أن يشد الحزام وهو مبتسم.. ولأن مصر خالية من البدائل وتواجه مؤامرة كونية، فالشعب عليه أن يمارس الغضب بالمزيد من الرقة، وأن ينجرح بدون أن ينزف دما، وأن يبكي بدل الدموع عطرا!
تبدو دولة القانون غائبة والقانون انتقائيا، فقضية مبارك ومن معه امتدت لسنوات تغير فيها المزاج العام، ووجهت الاتهامات لثورة يناير، وتم الربط بينها وبين كل شرور نظامه، كما حمل حكم مرسي بغيرها من الشرور القائمة والمحتملة لتغسل عيوب الماضي والحاضر. كما تم استحضار مبارك ونقل تصوراته عن حلول للوطن الذي حكمه وأفسده مرارا. مع تربية التعاطف معه بالحديث المتكرر عن مرضه ووفاته، وتهميش التضحيات والمعاناة التي حدثت خلال حكمه. وفي وسط أحكام البراءة يتم حبس أعداد متزايدة بسبب قانون التظاهر، ويتم الحكم على 188 فردا في قضية كرداسة بالإعدام في جلسة واحدة، ويظل التساؤل عن ارتياح المحكمة لمسؤولية هذا العدد عما حدث مطروحا، أما وقت التقاضي والفرص التي قدمت للمتهمين وللمحامين وغيرها من التفاصيل فتبدو غائبة مقارنة بمشاهد محاكمة القرن.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه الرئيس عن دولة القانون والفصل بين السلطات، يأتي طلبه إرجاع مذيعة لعملها بعد أن تم وقفها لتعليقها على براءة مبارك.. يتوقف البعض للإشادة بالموقف وسرعة استجابة اتحاد الإذاعة والتلفزيون، ولكن تظل الاسئلة المهمة هي سبب الإيقاف وطبيعة التدخل وسبب الاستجابة. فإن كان هناك ظلم وحاجة لتدخل رئاسي للتعامل معه، فهل تلك دولة. وهل نحتاج دوما لتدخل وتوجيهات من شخص ما لإرجاع الحقوق، وان لم يكن لدى المظلوم طريقة وصول، كيف تتحقق العدالة أو يتم الالتزام بروح القانون؟ سؤال مهم تضاف له مخاطر أخرى تغيب أو يتم تغييبها في الحديث عن اقتراح قانون تجريم إهانه ثورتي يناير ويونيو.. فهل هي عدالة ودولة قانون حقاً أم مجرد درجة أخرى من درجات الظلام المحتملة؟
يطالب البعض بتجاهل يناير لأنها ماتت، والتركيز على تحصين يونيو والجيش. أما العبارات الفضفاضة المطروحة مثل، تجريم وإهانة وإساءه فتفتح المجال واسعا للبلاغات ضد ما يقال، بما يعني تقييد حرية الحديث باسم دولة القانون، التي تبقي نفسها محل نقاش. وضع لا يفيد يناير ولا الحرية، خاصة أن يناير تمت الإساءة إليها وتشويهها بكل الصور، أما محاولات الاستخدام الايجابي فتقوم على ضمها مع يونيو في كلمة الثورة ومع يوليو في كلمة ثورة الجيش والأهداف الممتدة منذ 1952 كما ظهر في أحاديث السيسي. وهو ما يعني أن تجريم انتقاد يناير لن يغير تلك الوقائع، ولكن يساعد على تجريم الحديث عن ثورة يونيو. 
ولهذا سارع بعض منتقدي يناير إلى التمييز بين الاعتراف بأنها ثورة، والتنديد بما ارتبط بها من مؤامرة حاولت الإيقاع بمصر – وفقا لهم- ووجود بعض الثوار والكثير من المتآمرين، مع الـــتأكيد على ضرورة تجريم من يهين ثورة يونيو. هنا تبدو المخاطرة واضحة ما بين يناير التي شوهت ويتم التعامـــل معها كماض، ويونــــيو التي نعيشها ويرغب البعض في تحصينــها من النقد. 
مثل هذا القانون – إن تم- يضيق مساحات أخرى من المجال العام، ويقيد الاعتــــراض على المسار الحالي، كما أنه يفتح الباب أمام المزيد من المفاهيم المحصـــنة في المستقبل.
يصبح من الصعب في دولة القانون تلك أن تنتقد أخطاء يناير أو احساس الإحباط الشخصي منها، وأن تنتقد اللحظة وطريق المستقبل. وأن تم تجاوز الحديث السلبي عن يناير، فلن يتجاوز الحديث عن يونيو وما رتبته وترتب عليها. يصبح عليك أن تراجع مواقع شاشات الرصد التي تسجل كل شيء وتقلق من أن يطلع أحد على أحلامك لعله يعرف أنك تحلم بوطن مختلف عن وطن مبارك ووطن «1984». وأنك تحلم بوطن لا يقوم على الاختيار في مباراة صفرية بين الأمن والحياة، ولا ينتهي بشبه حياة لا يمكن فيها أن ترى الوطن أفضل إلا من أعلى، كما رآه نوفل بعد الاقتراب من الضوء الذي يتمتع به «طيور الظلام» فيما يمنعونه عن الوطن باسم الوطن نفسه.

٭ كاتبة مصرية

عبير ياسين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية