البسي شالك الأخضر وتعالي

غوته: لا يسافر المرء لكي يصل، بل لكي يسافر.
أنا رجل يهوى السفر كثيراً، ولا أطيق أن يكون رسغي مغلولاً إلى صخرة مدينتي زمناً طويلاً. ما إن أُصغي إلى قلقلة القيود، فجأة تنبت لي أجنحة، فأطير إلى موطئ أرض في مدينة قريبة أو بعيدة، أو حتى لو بتّ في البراري. لا يهمّ. كلّ ما في الأمر أنّي أريد أن أجد نفسي أسير في شارع جديد، وأمضي الليل تحت سماء تختلف. يتحدث أندريه جيد عن الجنود الذين كانوا يضيعون في صحراء الجزائر: «ونحن على مائدة العشاء حدثني النقيب عن الدوار الغريب الذي يجعلهم يشعرون، بلا نهاية، بالأرض وهي تميد تحت أقدامهم الحافية. وحتى عندما يتوقفون ويبقون واقفين، فإن الترنح يستمر فتبدو الأرض كأنها تهرب. وأحياناً يصادفون، وهم وسط الرمال المضنية، قطعة صغيرة من الكلس، لا مثيل لها في التكوم والصلابة، لكنها بالاتساع الذي يمكن كلّ جنديّ، بشكل دوري، من وضع رجليه لمدة قصيرة فيستعيد توازنه فوق تلك القطعة الصغيرة الصلبة».
يهديني السفر إلى أن تستقرّ قدماي فوق قطعة أرض تعيد إليّ توازن أفكاري. ليس هناك أماكنُ معينة تجتذبني. بالعكس، البلد غير المرغوب فيه من قبل الآخرين أحاول أن أتلمّسه أكثر. القرى القصيّة التي يعجن وجوه ساكنيها الفقر أُفضّلها كثيراً على المدن. أن يسافر المرء يعني أنه يتأهّب أن يرى ما يجري له مرويًّا في كتاب. كي تسافر مفعَمًا بالأمل، أفضل من أن تصل… في ذلك اليوم كنت في مدينة «خانقين» أتمشّى في درب غارق في خضرة أشجار الكالبتوس والسّدر. الفصل هو الصّيف. الوقت هو الفجر، والطّير الأوّل غادر وكْنه، مثلي. لم يكن في الشّارع أحد، عدا الهرّ الأسود الذي صاحبني المسيرَ بضعة أمتار، وكان منفوش الذّيل، مستنفراً، يبحث عن صيده. البيوت تصطفّ على جانب الطريق، ساكنة، كأنها فارغة من ساكنيها. من أحد الأبواب ظهرت امرأة ترشّ الرّصيف بالماء، وكان الباب يُفتح قليلاً، ثم يُوصد. الحياة التي لا نتوقّعها بين أشياء أُخَر، جميلة. شممتُ رائحة الرخام الذي فُرش به الرّصيف، ورائحة الفجر، وومض ضوءٌ أخضرُ أمام عينيّ، وأطلّت المرأة. لمحتُ شالها الأخضر، وكذلك بان عنقها، بياض ناصع وبه قدر من الطّول. ما إن هجستْ خطواتي، أغلقت الباب، وعاد كل شيء في الشارع إلى مكانه.
هل عاد كل شيء فعلاً إلى مكانه؟
كنّا، أنا والمرأة، بعيدَيْن تماماً، وقريبَيْن. هل كنّا على موعدٍ؟ المرأة مثل الوردة، تكبر الدنيا معها، وتتّسع الدّقائق وتصير أزليّة. أكملت طريقي في الدرب الذي بدأ يستدير. من خلال صفّ الأشجار رأيت النّهر صافي الماء، سريعاً، وفي الجوّ رطوبةُ صيف تَلُفّ الهواءَ على الماء، وفي عمق الهدوء كانت تهدل حمائمُ عاشقةٌ. ثم هجستُ أن أحداً يتابع خطوتي. هل كانت المرأة ذات الشّال، تتأمّلني من شبّاك غرفتها؟ لم أكن أعرف شيئاً عن داخل البيت، لكنّي كنت أتحسّسه، وأشعر بوجودي ضمنه. أكيد أنها هي، وقد خلعت شالها، وتاج شعرها الآن يجمّلها. ولأنّي لم أرَ وجهَ امرأتي، بدأتُ أكوّنه، أشكّله على هواي، وأمنحه الصّورة. كلّ ما غاب عني تجمّع أمامي في الخيال. أنا واثق أنّها تفعل الآن مثلي، بل تتفوّق عليّ. حزر المرأة أكثر دقة بكثير من يقين الرّجل، كما يقول كيبلنغ. كنّا، أنا والمرأة نحاول أن نكون ثانية. النّهر الذي يستدير مع الشارع كان هادئاً في تلك السّاعة، ومثقلاً بالنّعاس. ثمّة ما يشبه الضّباب الشّفيف يبقيه بعيداً عن الطّريق العامّ وقد اكتظّ الآن بالمركبات. أكملت سيري، وكنت على مفترق لثلاثة دروب: الأولى تأخذني إلى المدينة حيث السّوق، الثّانية تقودني إلى شاطئ نهر «الوند» الذي يخترق بلدة «خانقين». اخترت أخيراً أن أعبر جسراً حديديًّا إلى الضفّة الأخرى من المدينة. ارتفعت الشّمس في الأثناء، ومرّ سربٌ من طيور مهاجرة في أعلى السّماء، وكنت أسمع من مكاني النّشيد الصّامت للطّيور. عندما أزور بلدة تنطبع شوارعها في ذاكرتي كأني عشتُ فيها سنين. وأحياناً أسأل نفسي هل ما أراه هو حقيقة أم خيال؟ هنالك لحظات تمرّ بنا ونكاد نكون واثقين أننا عشناها سابقاً – والفرنسيّون يطلقون على هذه الحالة الشّعورية اسم «وهم سبق الرّؤية» أو-Déjà- Vu وهي حالة تنتمي إلى عالم الحقيقة وعالم الوهم في الوقت نفسه، وفيها إثبات على أن الصور التي يبعثها الخيال موجودة في الواقع وليست من ابتداع الشّعراء فقط. ظلّت صورة البيت الذي شهد لقائي بالمرأة ذات الشّال تعود إليّ في أحلام النّوم واليقظة. أرى الباب، والشارع، وشجرة الكالبتوس القريبة. ثم حدث أن تلبّستني أجواءُ لقائي بالمرأة وأنا أقرأ قصيدة للشّاعرة بشرى البستاني فيها وصف للبيت ذي الشّرفة. الغريب في الأمر أنّ عنوان المجموعة الشّعريّة التي تضمّ القصيدة هو: «البسي شالك الأخضر وتعالي»:
في اللّيل
كان البيت يرتّبُ في الأدراج أحزانَه
ويطوي أمانيه في حقائبَ منسيّةٍ
وعلى رفوف الصّمت يصفّفُ أقداحه
في الفجر صحا البيتُ محموماً،
وراح يعزفُ على عودٍ أخضرْ
جاءت الريحُ فعبرته ولم تتخللهْ
بكى البيت سراً وراح يختبئ في جذع المُنى
أليست هي التّجربة ذاتها، وقد عشناها معاً، الفرق أن الشّاعرة تحدّثت عن البيت من الدّاخل، بينما عشت أنا أجواءه من الخارج، والأمر يبدو واحداً. أن يسافر المرء يعني أن تتّحد عنده الرّؤية والرّؤيا، وهذا الأمر يحدث في الشعر أيضاً. شاعر آخر عاش تجربة مقاربة لما مرّ بي وبالشّاعرة بشرى البستاني. إنه الرّوسي أوسيب ماندلشتام. ألّف قصيدة عن المرأة ذات الشّال عندما كان يقضي أيّامًا صعبة في سجن موسكو الرهيب بعد أن رماه «البلشفيك» بتهمة التجسّس. في تلك اللّيلة ظلّ يفكر في حبيبته «نادجا» لأن جواسيس ستالين كانوا يفتّشون عنها وهي تقضي اللّيل متنقلة بين بيوت الأصدقاء. شعوره البالغ بالظّلم جعله يتعمّق في حبّها ويتغلّب على الجوع والبرد اللّذيْن ينهشان عظامه. يغفو الشاعر، ويرى نفسه مع حبيبته في البيت في مدينة بطرسبورغ. تطلب «نادجا» منه إسكات الشّموع لأن ضوءها يربك صورة الثّلج الذي كان يندف في النّافذة. كانت ليلةً قمراء والوقت تجاوز منتصف اللّيل. الصالة دافئة، والشاعر لا يعرف سبب ارتباك حبيبته. طلب منها أن تقرأ له من شعر بوشكين، لكنها اعتذرت، وتمنت له ليلة هانئة. فزّ الشاعر من نومه على وقع أقدامها وهي تغادر الصالة، وكتب في الحال قصيدته تعزيماً، لأنه خاف من أن يجرّ عليه هذا الحلم ويلاً:
من الصّالة نصف المعتمة، فجأةً
انسللتِ وعلى كتفيكِ شالٌ خفيف..
نحن لم نؤذِ أحداً..
نحن لم نوقظِ الخدمَ الرّاقدين..
*
أرقُّ من الرقّةِ
وجهكِ
أشدُّ بياضاً من الأبيض..
يداكِ..
ومن العالم كلّه..
بعيدةٌ أنتِ..
وكلّ شيء فيك، لا مفرّ منه
ولا مفرّ منه
ألمكِ
هنالك سفر غير اعتياديّ يجري في الذات وفي الكون. يقول بورخيس إنه وقع مرة ضحية كابوس عنيد؛ رأى رجلاً يشبهه ويسكن برجاً يقع في مكان مقفر من بلاد فارس. في البرج غرفة وحيدة مستديرة الشكل وفيها طاولة خشبية ومِقْعد. الرّجل منكبّ على كتابة قصيدة تحكي قصّة رجل يقيم في حجرة مستديرة أخرى ويكتب قصيدة عن رجل في غرفة مستديرة أخرى… كلام بورخيس يدور حول «وهم سبق الرّؤيا» أو الDéjà- vu لكنّها ليست حالة الوهم المعروفة التي يشعر بها الفرد نفسه. إنها تجري بين أشخاص عديدين لا يعيشون في محيط واحد ولا يجمعهم زمن محدّد، ورغم ذلك يتراسلون فيما بينهم.
ثلاثة شعراء كتبوا القصيدة: بشرى البستاني من مدينة الموصل، و«أوسيب ماندلشتام» من موسكو، وأنا الذي كنت أقرأ لهما -القراءة هي كتابة النّسخة السّالبة من القصيدة ـ أغنية صينية قديمة: «عندما يبزغ هلال آب من خلف المنزل، باستطاعتكَ، إذا ابتسمت الآلهة، أن تحلمَ أحلام شخص آخر». أُكملُ المقال مع أندريه جيد: «تتم معاقبة الجندي بجعله يسير في مؤخرة طابور كتيبة رفاقه. شيء متعب، الذين في الأمام لا يهتمون بالذين في الخلف، والذين يترنحون ويسقطون، يبتلعهم رمل الصحراء. وعندما تزلّ القدم بأحد ما، فتلك هي النهاية المحتمة. فيبقى يحدّق في الآخرين وهم يبتعدون. الطيور التي تحلّق فوق الكتيبة السائرة تتوقف، تنتظر ثم تدنو». في كلّ سفرٍ تنقذني من رمال الضجر امرأة بشال أخضرَ وثوبٍ أصفر كنّاريّ اللون تظهر لي من حيث لا أدري.
السفر يجددنا، ويجعلنا ننظر إلى أنفسنا بصورة أكثر وضوحاً حتى قيل: قصر النظر من عدم السفر. مثل عراقي: ثلثين السفرة عتبة الباب. هذا الكلام كان في الماضي. أما الآن فإن أجمل الرحلات هي التي تصاحبها بعض الخطورة؛ الصحراء، أعالي الجبال، أعماق البحر… وأغرب ما في الأمر هو أننا نمرح أثناء هذا النوع من الأسفار أكثر مما نعمل، ورغم ذلك تقدّم لنا هذه المتعة فرصة عظيمة كي ننضج، ونتطور بشكل عفوي طبيعي، ونبحث عمّا تحتاجه أرواحنا حتى تكتمل.
أوجان غيلفيك: افترضي | بأن طيران العصفور | يدعونا إلى السفر | وبأني أطلب منك | أن نتعانق فيه | كي نطير فيه | عبر ظلالك.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية