السرد غير المقيد

اهتم الناقد الأمريكي واين بوث بشكل خاص بـ”السارد غير الموثوق به”، الذي يكون أهلاً لثقة القراء عندما يتحدث عن قواعد العمل، أو يتصرف وفق ما يكون مقيداً بها، متقاسماً المشاعر والتأثيرات مع المؤلف، بما يجعل السرد في حد ذاته جديراً بالثقة، بيد أن هذا التقاسم قد يولّد سوء الفهم والتقدير.

وهذا الاعتراض هو ما أثاره اثنان من منظري السرد ما بعد الكلاسيكي هما، جيمس فيلان وبيتر رابينويتز في دراستهما المعنونة (المؤلفون، القراء، السرد) وفيها ذهبا إلى أن المؤلف إذا كان مسيطرا في السرد المقيد على سرد الأحداث بشكل يجعل تفسير أو تقييم ما هو غير موثوق يسيراً؛ فإن ذلك ينتفي مع السرد غير المقيد، الذي فيه يفقد هذا المؤلف السيطرة على السارد وهو يتواصل أو يفسر أو يقيم بمعزل عنه. ولا فرق في ذلك بين أن يكون السرد بضمير الشخص الأول الـ(أنا) أو يكون بضمير الشخص الثالث الـ(هو).

ولذلك اقترحا عدداً من التحسينات والخيارات، التي يمكن للمؤلف الفعلي أن يتخذها، وفيها يكون قادراً على تحقيق وظيفة الإقناع بواحدة من ثلاث مهام أساسية: فأما أن يقدم تقارير ذات صلة بحقيقة الأحداث، فيتحول ما هو مضلل وغير سهل ليكون واضحاً وسهلاً، أو يفسر بمعرفية المسائل مؤشراً إلى الاستثناءات، أو يقيم الأخلاق جاعلاً المسائل الغريبة وغير الحقيقية كأنها مألوفة وتقليدية. وقد تُفهم هذه المهام على أنها تقييدات من نوع جديد ربما، وهو ما يحتاج فصلا لمثل هذه التداخلات بعضها عن بعض. أما مثالهما فكان رواية “توم سوير” لمارك توين، التي فيها توطدت علاقة المؤلف بالسارد وعلاقة السارد بالقراء، وقد اجتمع تمثيل الحدث وتقديم التقارير بالتفسير والتقييم. وقد تمثل ذلك بشكل واضح في نهاية الفصل الثاني عشر من الرواية فكان المؤلف /توين يتحدث عن لحظة تسلّق جيم متن المركب البخاري المحطم، بمقطع حواري يعرض فيه توين أحكاماً أخلاقية وتفسيرية، بشأن ما يتعين على جيم أن يفعله.

وهو ما نجده يدخل في منطقة (الميتاسرد، أو ما وراء السرد) التي فيها يتساوى دور المؤلف مع دور السارد، وهما يحاولان أن يظهرا على نحو يجعلهما جديرين بثقة القراء. صحيح أن الميتاسرد نزعة ما بعد حداثية من الناحية التنظيرية، تدلل على التداخل الأفقي والعمودي بين العلوم والمعارف على اختلافها، لكن الميتاسرد من الناحية الإبداعية تقانة كلاسيكية عرفتها السرود القديمة والحديثة فهي في “دون كيشوت” لسرفانتس، كما هي في “المعذبون في الأرض” لطه حسين، وكثيرا ما نلمسه وبشكل واسع في الرواية العالمية المعاصرة التي فيها تتجلى رحابة الانفلات من القيود والأعراف المعهودة في السرد، تدليلا على الوعي بالكتابة السردية التي فيها ينهمك المؤلف في مشاكسة سارده، كما ينهمك السارد في مكاشفة القارئ بلعبة المؤلف عبر عقد افتراضي يبرم بين المؤلف والقارئ، حيث الأول (المؤلف) يعبر عن عدم يقينه متسائلاً، إن كان يخدع القارئ أم لا؟ وحيث الثاني (القارئ) يملك كفاءة سردية بها يتمكن من كشف السارد على حقيقته ككيان مشكوك بمصداقيته. وبسبب تلك الشكوك واجهت تقانة الميتاسرد اعتراضات كثيرة، حتى سميت الرواية الموظفة للميتاسرد بالرواية المضادة، أو اللارواية أو الرواية الانعكاسية.

ولم يوضح الناقدان فيلان ورابينويتز كيف يعزز هذا السارد ثقة القراء فيه؟ وما الفرق بين السرد غير المقيد والميتاسرد؟ كما أنهما تجنبا الخوض في مفهوم التخييل الذي هو أكثر تعبيرا عن هذا النمط من الكتابة ولذلك فضلّه بعض الدارسين، وأراد أن يحلّه محل كلمة الرواية novel نظرا لما يستوعبه التخييل من دلالات الوهم والخداع، دافعا الناس إلى الاعتقاد بأشياء غير حقيقية وليس لها وجود في الطبيعة. وهو ما انبرى للتنظير له كثير من النقاد الأمريكيين منهم، أنغر كرستنسن وليندا هيتشون ووليم غاس وروبرت شولز وفيدرمان ولاري ماك كانيري.

من هنا يصبح استعمال مفهوم (السرد غير المقيد) دائرا في مفهوم أعم وأرسخ هو (التخييل) الذي هو سمة من سمات السرد عامة. وحاول ناقد آخر هو أيضا من دعاة علم السرد ما بعد الكلاسيكي، هو روبين وارهول تدعيم مفهوم زميليه الناقدين السابقين حول (السرد غير المقيد) من خلال تساؤله حول السرد النسوي وأهمية من يتحدث؟ ولمن؟ وفي أي ظروف؟ يعني “في أي لحظة في التاريخ؟” وأي مستوى من التصورات والحقائق تكشف عن هوية المؤلف وخبرته وظروفه الاجتماعية الثقافية والتاريخية، وبأي درجة من البؤس نفهم الطرق التي يساهم فيها السرد في سياسة النوع الاجتماعي؟ وأن هذه التساؤلات تخرج السرد النسوي عن جذوره الكلاسيكية، مما هو معروف عند جيرار جينيت، وجيرالد برينس وغيرهما من الذين ساهمت تنظيراتهم في أن تكون نقطة انطلاق للجيل الأول من منظري السرد النسوي، ليكون السرد النسوي ما بعد الكلاسيكي سردا غير مقيد يهتم مثلا بتفسير أو تقييم النصوص، بقدر اهتمامه بوصف الكيفية التي تعمل بها النصوص، أو يتساءل مثلا عماذا يعني هذا السرد؟ أو هل هذا النص جيد جماليا أو أخلاقيا أو سياسيا؟

ومثال روبين وارهول جين أوستن التي لا يتعارض وجودها كمؤلفة وابنة رجل دين وككاتبة من القرن التاسع عشر مع وجودها كساردة نسوية مهمتها إقناع القراء… وكشخصية حاضرة بشكل خاص في أغلب التحليلات التي تجريها بصوتين مزدوجين، أي صوت يتحدث عن المعنى الحرفي للعبارة، وصوت ضمني يسخر من هذا المعنى الحرفي.

وحاول زميلهم ديفيد هيرمان وهو مجترح علم السرد ما بعد الكلاسيكي، تبرير مفهوم (السرد غير المقيد) على أساس الأداء النصي داخل العالم السردي، وما فيه من كلمات، أو إيماءات، أو صياغات وتصرفات، هي بمثابة أفعال تستخدم في السرد بطريقة تسهل مهمة التفسير والتقييم. ومثاله روايات ماك إيوان، وما فيها من أفعال انتقال جسدية كحركة الحبال الصوتية، أو حركة الأصابع على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، التي بالإمكان تحليل أسباب التصرف بها جسديا إلى مجموعات متشابكة من المعتقدات والرغبات؛ مع أنه من غير الممكن وصفه على نحو شامل بأنه سلوك من السلوكيات المسببة والمنطقية. واعترض براين ريتشاردسون على تحليل هيرمان بأنه إذا كان الكاتب هو هذا الإنسان الذي يحمل القلم، أو هذه الأصابع التي تنقر على لوحة المفاتيح، فإن الكاتب الضمني هو الحساسية التي تصور لنا صاحب الكتابة في المقام الأول لحظة قراءتنا لعمله؛ والسارد هو ذاك الشخص الوهمي الذي يقدر على نقل السرد بين المؤلفين التاريخيين: الحقيقي والضمني ليقدمهما كصوت مؤلف واحد، فيتساوى مثلا المؤلف: ت. س. إليوت مع ج. ألفريد بروفروك، أو يتساوى فلاديمير نابوكوف مع لوليتا، ناهيك من إمكانية أن نستكشف وجهات نظر المؤلف الحقيقي من خلال المؤلف الضمني، أو أي شخصية أخرى. وهو ما يسميه ريتشاردسون “السرد الشفاف”، وهو نوع من التواصل الروائي أكثر مباشرة ولاوهمية، من ذلك النوع الذي أطلق عليه جيمس فيلان “قناع السرد” الذي يحدث حين يعمد المؤلف إلى جعل سارده معبرا عن معتقداته وتصوراته. وقد يحسن الكاتب استعمال القناع وقد لا يحسن كأن يقول وهو يحدد نفسه كشخصية في الرواية: “كان ذلك أنا. وكان ذلك هو المؤلف لهذا الكتاب”.

والواقع أن مفهوم المؤلف الضمني مفيد بشكل خاص في السرد غير الموثوق فيه، الذي فيه للمؤلف صورة ثلاثية، خاصة عند نابوكوف الذي وظف السارد بأشكال متعددة ومنها السارد المحتال، الذي يعلن لنا وضعا سرديا غير قابل للتصديق. وقد توضح هذا التوظيف بشكل انفجاري في النصف الأخير من القرن العشرين، ما جعل الرواية ما بعد الحداثية أكثر تباينا ومدعاة لعدم الاستقرار كونها تقدم أجزاء نصية متباينة ومستحيلة ومتقلبة باستمرار، ومتناقضة في معالمها أحيانا، وكأن السارد التقليدي مات، مما نجد مثاله واضحا في رواية سلمان رشدي “أطفال منتصف الليل”.

* كاتبة عراقية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية