يعد الأدب المغربي رافدا أساسيا من روافد الثقافة العربية، وأحد مناراتها التي تضيء سماء الفكر والأدب. فلا حديث عن تشكلات معرفية وثقافية، في الأدب العربي، بدون أن نعرج على الأعلام المغربية، التي بوصلت الفكر نحو معانقة الحداثة. إن الارتباط الفعلي بالمنعطفات التاريخية، في رصد أهم الظواهر الفكرية، التي جعلت الفكر المغربي يتبوأ مكانة مهمة في النسيج الثقافي العربي، جعلت من صناعة الأدب المغربي كينونة يتخلص بموجبها من فكر عتيق و كلاسيكي، لازمه عقودا مضت؛ ليعانق الحداثة في أبهى صورها.
مرّ زمن طويل على إصدار محمد بلعباس القباج كتابه «الأدب العربي في المغرب الأقصى» وفي ذلك، كانت نهاية العشرية الثانية، من القرن الماضي، فصلا تاريخيا، من خلال ذكر المؤلف أهم رموز الأدب المغربي في الشعر. بما ساهمت به من انفتاح شامل على الثقافة الأوروبية، المتصلة بقضايا عصرية وحديثة. علاوة على ذلك، شكل الأدب المغربي، في هذا الباب، طفرة نوعية في الفكر والأدب. وفي هذا المضمار عمد القباج إلى تناول ترجمات لشعراء شبان كان جُلهم، طلبة في جامعة القرويين في فاس. وفي مقدمة هؤلاء الشعراء الشباب نجد: محمد علال الفاسي، محمد المهدي الحجوي، عبد الرحمن حجي، وعبد الله جنون وغيرهم كثير. ويعد هذا المشروع الكبير، الذي سطره القباج، نافذة تطل على حداثة الفكر الإنساني، وإن كان رباطهم المتين، بالسلفية المشرقية، قائما في ظل تلك المتغيرات الإقليمية والدولية. وهذا لا يمنع، في قناعاتهم الذاتية، من تناول قضايا فكرية ذات اهتمام إنساني وحضاري بالدرجة الأولى.
أورد القباج، في هذه الأنطولوجيا «الأدب العربي في المغرب الأقصى» قصيدة لعلال الفاسي يخاطب فيها الشباب الممثل، يقول:
كل صعب على الشباب يهون
هـكذا همة الرجال تكون
قدم في الثرى وفــــوق الثريـا
هــمة قدرها هناك مكين
اكتسى هذا الموضوع أهمية قصوى في البرنامج الإصلاحي الذي يؤمن به علال الفاسي، فالنضال السياسي إلى جانب الثقافي كان ديدن هذه الحركة الإصلاحية في المغرب. وبهذا التوجه فُـتح الباب على مصراعيه ضد قوى الاحتلال الفرنسي، التي كانت تنظر إلى المغرب كبقرة حلوب، ومرتعا خصبا لاستنزاف خيراته لا أقل ولا أكثر. غير أن الكتلة الوطنية، التي أسست في ما بعد، كان همهما الأول إحراز المغرب استقلاله، في ضوء متغيرات إقليمية ودولية. وفي الاتجاه ذاته كان سعيد حجي من الرعيل المتميز، الذي سهر على تقريب وظيفة الأدب من القضايا المصيرية الساخنة التي عاشها المغربن بحيث أصبح المثقف في صراع مباشر مع قوى الشر، التي تعمل على طمس الهوية المغربية، وسحق الأصوات المعارضة لهذه الإبادة الحضارية.
يظل الأدب المغربي، بداية القرن العشرين، مرتبطا ارتباطا شديدا بالأحداث السياسية، التي تؤلف التراث والهوية الثقافية للبلد، وبذلك كان هذا الانخراط الفعلي للمثقف في مواجهة المد الإمبريالي، أثرا على الفكر والإبداع؛ ليطال ـ أي الأثر ـ بعد ذلك ـ كل أجناس الأدب التعبيرية.
إن الالتفاف حول القضايا المصيرية للبلاد، أعاد إلى السطح، في الأدب المغربي، إشكالية الصراع بين القديم والحديث، وبهذا أصبحت وظيفة الأدب لا تقتصر فقط على نقل الشعور والإحساس، بل انتقلت إلى تقصي قيم الجمال في الذات والطبيعة والكون؛ مما انعكس ذلك على الساحة الأدبية والسياسية في المغرب. وفي غمار ذلك نجد أن جل الشعراء الشبان، الذين درسوا في القرويين، كانوا يؤمنون بالتكامل والانسجام الحاصلين بين الأدب والسياسة. فلا تقوم قائمة شؤون هذه الأخيرة، إلا بتلك اللمسة الفنية والماتعة للأديب، بما هي تعمل على تجديد الصلات بالواقع السياسي.
يبدو جليا أن التاريخ المغربي الحديث عرف منعطفات حاسمة في اتجاه بناء الدولة المعاصرة، فبعيد استصدار السلطات الاستعمارية الظهير البربري سنة 1930، ظهرت في الساحة المغربية أحزاب سياسية تنادي بالمساواة، ولمِّ شمل المغاربة، فضلا عن التصدي للعدوان بروح وطنية عالية. وعلى قائمة هذه الأحزاب نجد حزب كتلة العمل الوطني، الذي انشطر إلى فصيلين بفعل تباين المواقف، واختلاف القناعات بين زعماء هذين التيارين. وفي هذا المضمار لا تخلو الزعامة السياسية في المغرب من مرجعياتها الثقافية والأدبية، فعلال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني، كانا من بين المنظرين السياسيين والثقافيين لمغرب ما بعد الاستقلال. فضلا عن تأثرهما بالمصلحين الاجتماعيين في المشرق، وتفاعلهما اللامشروط مع أفكار ومواقف رواد الأدب العربي، والمتمثلة في شكية طه حسين وعقلانية عباس محمود العقاد وشاعرية أحمد شوقي. كما أن الزعامة الفكرية والثقافية، في المغرب، تفرض تجسيرا بين الشرق والغرب، وبذلك نهلت من راسين وفولتير ومونتسكيو وإميل زولا وغيرهم…
وفي عريش هذه الإشراقة الفكرية الكبيرة في المغرب، انبثقت أحزاب تقدمية خرجت من رحم الحركة الوطنية، التي تنظر إلى المستقبل بعيون متفائلة. فالشوريون المغاربة بزعامة محمد بلحسن الوزاني، كانوا ينشدون الحداثة التقدمية في البلاد، كاشفين ألاعيبَ المستعمر؛ من حيث إن هذا الأخير، أراد أن يمزج بين السيادة المطلقة والاستقلال المزيف. فما كان أمام السلطات الفرنسية، آنذاك، إلا أن تقدم على وضع، محمد بلحسن الوزاني، تحت الإقامة الجبرية جنوب المغرب. خلالها سهر محمد بلحسن الوزاني على إدارة العديد من الصحف المتحدثة باللغتين العربية والفرنسية. بما هي تسعى نحو التعبير الصريح عن تذمر الشعب المغربي من الإقامة العامة الفرنسية، فكانت جريدة «عمل الشعب» التي ما زالت المكتبة الوطنية في الرباط تحتفظ بنسخ منها، تغطي كل الأحداث السياسية والمنعطفات الخطيرة، التي يمرّ منها الشعب المغربي، وهو يرزح تحت وطأة الاستعمار الفرنسي؛ من استصدار الظهير البربري إلى حدود انتفاضة أحداث بوفكران.
بهذا يظل الأدب المغربي، بداية القرن العشرين، مرتبطا ارتباطا شديدا بالأحداث السياسية، التي تؤلف التراث والهوية الثقافية للبلد، وبذلك كان هذا الانخراط الفعلي للمثقف في مواجهة المد الإمبريالي، أثرا على الفكر والإبداع؛ ليطال ـ أي الأثر ـ بعد ذلك ـ كل أجناس الأدب التعبيرية.
كاتب مغربي
موضوع شيق يستحق اكثر من مقال رحم الله هذا الجيل الذهبي الذي ناضل
–
بجهد كبير و زاد قليل تحياتي من مراكش