ترامب طريد المؤسسة

محاكمة دونالد ترامب الثانية تبدأ بعد أسبوع، مجلس الشيوخ الأمريكي يفتتح المداولات في الثامن من فبراير/شباط المقبل، بعد أن أدى أعضاؤه اليمين الدستورية كمحلفين، وبعد أن جرى اختيار السيناتور باتريك ليهي لرئاسة جلسات المحاكمة بصفته الأكبر سنا، وبعد أن أعد مجلس النواب لائحة اتهام، تدور حول اتهام الرئيس السابق بالتمرد على الدستور، وتحريضه على اقتحام الكونغرس في غزوة 6 يناير/ كانون الثاني الجاري، وضبطه متلبسا بإجراء مكالمة تهديد لمسؤول في ولاية جورجيا، يطلب ترامب فيها إضافة أكثر من 11 ألف صوت لحسابه الخاسر، وهو ما يستدعي حسب مجلس النواب ورئيسته الديمقراطية الشرسة نانسي بيلوسي، أن يطبق على ترامب نص التعديل الرابع عشر في الدستور، وحرمانه من تولي أي منصب تشريعي أو تنفيذي في قابل الأيام والسنين.
ومحاكمة ترامب تبدو لافتة، فهدف محاكمات الرؤساء عزلهم في العادة، وقد ترك ترامب الرئاسة بالفعل مع تنصيب جو بايدن خلفا له، صحيح أن ترامب لم يحضر حفل التنصيب، وصحيح أنه قال إنه يترك البيت الأبيض لإدارة جديدة، ومن دون أن يذكر بايدن بالاسم، ربما كتأكيد رمزي على اعتقاده بسرقة وتزوير الانتخابات، لكنه في ذلك لم يخالف الدستور، بل خالف أعرافا، سبق أن خالفها رؤساء أمريكيون قبل مئة وخمسين سنة، لكن اتهامات المحاكمة الجديدة تتعلق بالدستور، وبالدعوة إلى تمرد عنيف، وقد يستحق عنها الإدانة، التي لن تحدث غالبا، حتى مع تكييف قانوني يجيز محاكمته بعد مغادرة الرئاسة، يستند إلى سابقة محاكمة الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون في نهاية ستينيات القرن العشرين، التي استمرت بعد استقالته، وقررت عزله بعد أن كان عزل نفسه، وهو ما يتكرر مثيله مع ترامب هذه المرة، وإن كانت فرصة الأخير أوفر في النجاة من مصير عزل المعزول.
وقد حوكم ترامب قبل عام من محاكمته الثانية المنتظرة، وانتهت القصة الأولى إلى تبرئته من تهمة الضغط على رئيس أوكرانيا، بهدف دفعه إلى إدانة هانتر نجل جو بايدن، ولم تكن المحاكمة محايدة ولا نزيهة في الحالين، فهي محاكمة سياسية لا قضائية بالمعنى المفهوم، و»كيد نسا» من نانسي بيلوسي ضد غريمها ترامب في حروب سلاطة اللسان، ومكايدة سياسية بين حزب بايدن الديمقراطي، وحزب ترامب الجمهوري، وقد كان للحزب الجمهوري أغلبية مجلس الشيوخ زمن المحاكمة الأولى، بينما للحزب الديمقراطي أغلبية حرجة مع المحاكمة الثانية المنتظرة، فله خمسون عضوا مقابل خمسين آخرين للحزب الجمهوري، وبصوت مرجح وحيد لنائبة بايدن كامالا هاريس، التي يعطيها الدستور حق رئاسة مجلس الشيوخ وقتما حضرت، لكن أغلبية النصف زائد واحد لا تكفي لإدانة ترامب، وتلزم أغلبية الثلثين، أي 67 عضوا في مجلس الشيوخ، أي أن ينتقل 17 عضوا جمهوريا إلى مقاعد إدانة ترامب، وهو ما لا يبدو واردا بسهولة، فنسبة المشرعين الجمهوريين المتمردين على ترامب، قد لا تتجاوز الخمسة في المئة، على نحو ما جرى في مجلس النواب، وانضمام عشرة نواب جمهوريين إلى تأييد قرار اتهام ترامب، وبالقياس ذاته، قد لا يحصل قرار إدانة ترامب في مجلس الشيوخ، سوى على موافقة أقل من عدد أصابع اليد الواحدة بين الجمهوريين، وهو ما قد يعنى حكما سقوط الإدانة، وتبرئة ترامب حتى بعد رحيله عن الرئاسة، وانقلاب السحر على السحرة الديمقراطيين، وفوز ترامب بالبراءة للمرة الثانية، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الرؤساء الأمريكيين.

تميل المؤسسة الأمريكية الحاكمة إلى حصر المشكلة في شخص ترامب، وفي شذوذ سلوكه عن القواعد العامة المتفق والمتعارف عليها

ولو جرت التبرئة، وهي الأكثر احتمالا، فلن تعني أبدا نهاية قصة مطاردة ترامب، فالمؤسسة الأمريكية بواجهاتها الأمامية في نظام الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وبعمقها وامتدادها في المجمع الصناعي العسكري التكنولوجي، تبدو عازمة على تصفية حالة ترامب، فما إن جرى ما جرى يوم اقتحام الكونغرس، ونهب محتوياته، وتحويل قاعاته إلى ميادين لتبادل إطلاق الرصاص، وهو ما كشف حقيقة الحلم الأمريكي المصنوع، وأظهر طابعه الكابوسي، الذي لا يريد من بيدهم الأمر في أمريكا رؤيته، أو التوقف طويلا عنده، بل تحركت المؤسسة لطمسه، وإزالة آثاره الظاهرة، واعتباره مجرد جملة اعتراضية عابرة، ووجدت في مواجهة ترامب سبيلا أيسر من مواجهة الحقيقة، وتصوير القصة كلها كأنها خروج طارئ عن النص، وفي لحظة واحدة، صدرت بيانات الجيش المهددة لترامب، وأوقفت البنوك الرئيسية تعاملها معه ومع عائلته، وطاردته شركات التكنولوجيا الكبرى، وقطعت عنه كل سبل التواصل الاجتماعي عبر الشبكة العنكبوتية، وأطفأت وسائل الإعلام عنه الأنوار، وجعلته «كبش محرقة» ومال كهنة الحزب الجمهوري نفسه إلى عزله وتجاوزه، على طريقة ميت رومني وميتش ماكونيل ـ 87 سنة ـ زعيم الكتلة الجمهورية في مجلس الشيوخ، ثم يجدون أنفسهم اليوم في ورطة، ويطرح بعضهم بدائل من نوع توبيخ ترامب لا إدانته، فليس بوسعهم الحفاظ على مصالحهم الانتخابية والتمثيلية، إن هم شاركوا بنشاط في مطاردة كاملة لترامب، فقد حصل الأخير على كتلة تصويت تقارب 75 مليونا، وما من زعيم جمهوري آخر له هذه الشعبية، ولا بعضها، واستمراء مناوأتهم لترامب، يهدد كيان الحزب الجمهوري، وينذر بتوحش سيطرة الحزب الديمقراطي على المؤسسة، وهو ما قد يدفعهم إلى مهادنة ترامب، بدءا بالحيلولة دون إدانته في محاكمة الكونغرس الجديدة، وتوقي عواقب أخطر، أشار إليها ترامب بنفسه، من نوع عزمه على إنشاء حزب جديد باسم «الحزب الوطني» يضم إليه شبكة هائلة من جماعات «تفوق العرق الأبيض» والإنجيليين الأصوليين، وبما يخلخل القواعد الاجتماعية التقليدية للحزب الجمهوري تاريخيا، ويجعل «الترامبية» ـ إن صح التعبير ـ بديلا أوقع في مواجهة الحزب الديمقراطي، فترامب كشخص يكاد لا يؤمن بأي فكرة، وهو ابن الصفقة لا ابن الفكرة، وساقته الأقدار وذكاء السوق المفطور عليه، إلى جعله رمزا لتيارات خطر جدي نامية في التكوين الأمريكي، تمثل أكثر من نصف الأمريكيين البيض، ويمثل هؤلاء ثلثي التكوين السكاني الأمريكي الراهن، ويفزعهم تنامي حضور الأقليات الملونة واللاتينية والآسيوية وغيرها، الذين يحظون تقليديا بأفضلية لدى بيض الحزب الديمقراطي، والأخطر من الميول الشعبوية التي تعبر عنها ظاهرة ترامب، تنامي جاذبية الاتجاه إلى العنف أو الإرهاب الأبيض، في دولة تسمح دستوريا بحمل السلاح الفردي لسكانها كافة، وبما فاقم انتشار جماعات الإرهاب العرقي، وشروخ الانقسام الداخلي وتفشى الكراهية، وهو ما قد لا يفلح بايدن في مواجهته، على الرغم من تعهداته المغلظة في خطاب التنصيب الرئاسي، خصوصا مع أزمات الاقتصاد الأمريكي، وبشاعة ظواهر عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية، واحتكار غالب الثروة بيد طبقة الواحد في المئة، وكل ذلك قد لا يفيد معه قسم رئاسي على نسخة عائلية موروثة من الكتاب المقدس، ولا المناشدات بالتزام الهدوء، ولا الترويج مجددا لحلم أمريكي بانت عوراته، فقد كانت «غزوة الكونغرس» مجرد عينة بينة، قد تتلوها جولات عنف دامية، يبدو فيها ترامب رمزا رغم أنفه، تريد المؤسسة أن تقطع عليه الطريق، ربما بدفعه إلى محاكمات جنائية بعد الفشل المتوقع للمحاكمة السياسية الثانية، وبما يعيد تصوير ترامب، وكأنه الفائز سياسيا بعد الإخفاق الانتخابي، ويغذي رغبته المعلنة في إعادة الترشح للرئاسة مجددا عام 2024، وهو ما قد لا تجد المؤسسة حلا ميسورا له، سوى بتغييبه سياسيا عبر محاكمات جنائية، تتعلق بالتهرب الضريبي، وغيره من الجرائم، ودفعه لإقامة في السجن، لا في منتجعه الفاخر في ولاية فلوريدا.
وبالجملة، تميل المؤسسة الأمريكية الحاكمة إلى حصر المشكلة في شخص ترامب، وفي شذوذ كلامه وسلوكه عن القواعد العامة المتفق والمتعارف عليها، وكأن استبعاد ترامب يحل المشكلة الأمريكية المحتدمة، التي تنشر أجواء احتراب داخلي، غير مسبوقة في حجم خطرها منذ الحرب الأهلية في ستينيات القرن التاسع عشر، ولا يبدو من سبيل لتوقي المصائر المخيفة، سوى بخلق أمريكا مختلفة تماما، كانت بعيدة عن خيال الآباء المؤسسين، ولا تبدو مستساغة عند المؤسسة الحاكمة اليوم، ولا تخدم مصالح المجمع الصناعي العسكري التكنولوجي المسيطر بنعومة، ويفضل إعادة تدوير الوضع لا تغييره، وانتدب للمهمة جو بايدن ابن المؤسسة وسليلها المحنك المنضبط تماما، الذي فاز أساسا بأصوات كارهي ترامب وما يمثله، وعاش حياته السياسية المديدة متدرجا في الصعود خطوة خطوة إلى قمة المؤسسة، ويريد أن يحفظ توازنه على السلم المهتز، لا أن يصنع مصعدا آخر، ولا أن يغير أمريكا المشيدة على تلال من الدماء والمظالم.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عربي حر:

    تحية للقدس العربي
    نتمنى ان يحاكم ترامب ويحاكم معه ديكتاتوره المفضل .

  2. يقول القارئ:

    يبدو أن دونالد ترامب، بعد كل هذا الحيص بيص الذي سببه بشكل مباشر أو غير مباشر، سوف يكتسب مع مرور الأيام توصيف “الرئيس الأمريكي المتمرد” الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ المؤسسة السياسية الحاكمة برمتها، الديمقراطيين والجمهوريين، أو ما يُسمى بـ”الاشتراعية (الأمريكية)” Establishment !!!؟

  3. يقول أبو عمر. اسبانيا:

    ميتش ماكونيل 78 سنة و ليس 87

  4. يقول ابو محمد من الشابورة:

    يا استاذ قنديل ليتك تلقي بعض الضوء علي مصر وشهر يناير وما ادراك بشهر يناير..والثورة المجيدة التي اسقطها العلمانيون مع العسكر بعد ما كانت مصر وشعبها فخر كل عربي وكل حر.. وتترك ترامب للقضاء الامريكي وهو قضاء نزيه .

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      صدقت

  5. يقول علي:

    الأميركيون لا يعرفون كيدالنسا!
    كيد النسا يعرفه الديكتاتور المفضل والجنرال الانقلابي الدموي

  6. يقول الصعيدي المصري:

    انتهي ترمب .. ليت الكاتب يكلمنا عن ديكتاتور ترامب المفضل .

إشترك في قائمتنا البريدية