السرد القصصي والسرد التاريخي: ضرورة الخيال واحتمالية الوقائع

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
0

القاهرة ــ «القدس العربي»: هناك العديد من التعريفات التي تناولت مُصطلح (السرد) منها ما يؤكد على الراوي وموقعه من عملية السرد (وجهة النظر السردية) ومنها ما يؤكد على الحدث ودوره، إضافة إلى الأسباب العليّة في عملية الحكي (الحبكة). ومن خلال تعدد تعريفات وتطورات المصطلح يمكن الإجمال في كونه.. حكاية توْهِم بصدق أحداثها وفق رؤية السارد (المؤلف) من خلال شكل سردي (بنية) هو الذي يُحدد ويؤصل لهذا السرد. فالقوانين السردية إذن أصبحت تتحدد من خلال العملية السردية نفسها، وقد تحيل إلى إشارات مرجعية في الواقع، أو قد لا تحيل، تبعاً لوجهات نظر نقاد ما بعد الحداثة. وما بين السرد والقص، أي (المبنى) و(المتن) يمكن الاقتراب من شكلين سرديين، أصبح التداخل بينهما سمة غالبة في الأدب، أو تم اكتشاف وجوده في المدونات القديمة، وهما السرد القصصي والسرد التاريخي، ولكن ما مصير الواقع أو الوقائع وبالتبعية الحقيقة، بين كل من المؤرخ والروائي، فكل منهما في الأول والأخير يحكي حكاية.

المؤرخ والمؤلف

بداية يلفت أرسطو في كتابه «فن الشعر» إلى الفارق بين المؤرخ والشاعر، ولفظ الشاعر يُطلق الآن على المؤلف الروائي، حيث كانت الدراما تكتب شعراً، فيذكر أن مهمة الشاعر الحقيقية ليست في رواية الأمور، كما وقعت فعلاً، بل رواية ما يمكن أن يقع، أو ما يسمى بـ(الاحتمال والضرورة) لأن المؤرخ والشاعر لا يختلفان، لكون أحدهما يروي الأحداث شعراً والآخر نثراً، وإنما يتمايزان من حيث كون أحدهما يروي ما وقع فعلاً، بينما الآخر يروي الأحداث التي يمكن أن تقع. هنا يمكن للمؤلف أن يستند إلى حدث حقيقي، أو شخصيات حقيقية، ولكن للخيال دورا في إعادة صياغة هذه الأحداث، وما يمكن أن تؤدي إليه من نتائج تخضع لمخيلة الشاعر، وحسب سياق الحكاية الدرامية. فالصدق الفني الذي يوهم بحقيقة المروي هو هدف الشاعر (المؤلف) بغض النظر عن مدى اقترابه أو ابتعاده عن الحدث أو الواقعة الحقيقية.
وما الاحتمال سوى المخيلة التفسيرية للمؤلف، بالنسبة للحدث أو الواقعة التاريخية، أي وجهة نظره في تأويل الحدث الذي يمكن تصديقه. أما الضرورة فهي وصول الخيال إلى مداه من خلال سياق منطقي يوهم بالحقيقة. أما الاتفاق بين الاثنين فهو في رواية الأحداث/ رواية حكاية. فليس الحدث التاريخي هو ما يحدث، ولكن ما يُمكن أن يُروى، حسب بول ريكور في كتاب «الحكاية والسرد التاريخي» فالتاريخ من حيث كونه رواية للأحداث، فهو لا يزيد في ذلك عن الرواية الأدبية، يقوم بالانتقاء والتبسيط والتنظيم، وليس هذا التركيب القصصي أقل تلقائية من تركيب ذاكرتنا.

الخيال التاريخي

من ناحية أخرى نجد أن الوثيقة أو الواقعة لا تتحدث بذاتها، لكنها تمرّ من خلال عقل ووعي المؤرخ، ووجهة نظره عن الماضي، والسياقات التي يرجح فيها أسباب الحدث، إضافة إلى وجهة نظره في عملية السرد، وهو بذلك يشترك مع الروائي، في أهم خصائص خطاب السرد. فالتاريخ هو إعادة تفعيل الفكر الماضي في عقل المؤرخ نفسه، وذلك يتطلب إعادة بث الحياة في ما سبق من خلال الفكر/النقد، ويتوسل المؤرخ في ذلك بالخيال التاريخي، وحسب بول ريكور، فإن سلطة المؤرخ تتضح أمام سلطة المصادر، أي إعادة التفكير والتأويل حتى بالنسبة إلى واقعة تاريخية يُفترض فيها الصدق والحقيقة، فادعاء الحقيقة يكمن في فكر المؤرخ نفسه.

ادعاء الحقيقة

فهناك ادعاء متعال من المؤرخ بأن كل ما يسرده ويذكره حقائق وقعت، وهو فقط أوجد الروابط والعلاقات السببية، حتى تفسيراته ووجهة النظر للأحداث يضعها وفق الحكاية، التي حدثت والوقائع التي تمت في زمن مضى يمنحها الثقة. وهو أمر لا يمكن أخذه على إطلاقه، لتدخّل المؤرخ المستمر في الحدث، بل والوثيقة التي يجدها مؤيدة، أو يستثنيها لمخالفتها وجهة نظره. ومن مُنطلق ادعاء الحقيقة هذا.. يمكن أن يُقرأ كتاب في التاريخ بوصفه رواية، وهنا تتقلص دفاعات القارئ، ويعلق ضعف الثقة عن قصد، فيتهيأ بذلك لتفويض المؤرخ بالحق المفرط، بمعرفة أذهان الآخرين، وباسم هذا الحق لم يتردد المؤرخون القدامى، في أن يضعوا على أفواه أبطالهم خطابات منحولة، لا تؤيدها الوثائق، ولكنها تقبلها (راجع بول ريكور الزمان المروي) وهي فكرة الاحتمال نفسها التي قال بها أرسطو، وقصرها على الشعراء (رواة الخيال) لكنها تنطبق أيضا على رواة التاريخ، من خلال خطابهم السردي الذين يُصرّون فيه على أن كل ما يذكرونه من أحداث، ما هو إلا حقائق.

المقدس والتاريخي

حتى النصوص التي تم التعارف على قداستها، والتي استوحت القصة التاريخية لغاية عقائدية، انتهجت النهج نفسه، وحسب محمد أحمد خلف الله في مؤلفه «الفن القصصي في القرآن الكريم» نجد أن أحداث التاريخ التي وردت في القصص القرآني، رُتّبَت ترتيباً عاطفياً، وبُنيَت بناء يُقصد به تحريك الهِمَم والنفوس، ومعنى ذلك أنها لون من ألوان القصص التاريخي الفني. وأن العمل فيها فني يُقدّر بموازين الفن، لا بموازين المؤرخين، فالقصص التاريخي في القرآن قصص أدبي أولاً وأخيراً.. فهذه القصص كلها صادقة في تحقيق الغاية الأدبية، وليست دالة على وقوع شيء، ولا توصف بصدق ولا كذب ـ حاول خلف الله هنا الخروج من مأزق نفي الواقعة ـ فمسألة الحقيقة هنا أو الصدق، يصبح أمراً يندرج تحت مُسمى الصدق الفني أو البلاغي، دون التاريخي، ودون شرط أن يكون للشخصيات أو الأحداث التي حاكتها النصوص وجود حقيقي خارج إطار الحكاية المقدسة. فالتاريخ ماض يدخل في مفهوم الحكاية التي ترويها الذاكرة، والذاكرة لا تبقى على نقائها، بل تمارس لحظات كثيرة وفارقة من الإغواء، الأمر الذي ينصرف بدوره إلى الوقائع والمادة التوثيقية والأرشيفية، التي تدّعي وتتوخى الحقيقة، فحتى أقدم النصوص لا يمكن القطع بمدى حقيقة وجودها ـ بخلاف صدقها الفني أو البلاغي ـ بعيداً عن خيال كاتبها أو راويها، أو حتى مدّعي تلقيها. فالأمر يتوقف فقط على مدى الإيهام بالحقيقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية