سينقذنا سعيد

حجم الخط
4

كنت أسائل نفسي: ما الذي ينقذنا في اللحظات الأخيرة؟ الذاكرة، الغريزة، الفطرة، الموت، الصدفة، دعوة أمّ، أمنية قديمة آن تحققها، أم تضارب بين زمنين؟
فجأة جاء أحد من بعيد. إنه سعيد عرفته وأنا لا أعرفه ولم أره من قبل. عرفته بحدس الحلم، وكأنه جواب مهاجر جاء صوبي وقال: «اقفزي هنا»، وأشار إلى جرابه. كان لديه جراب كنغر.
قفزت توّا وبدون خوف أو حاجة إلى تبرير. كان الحدس أقوى من أن نتكلم.
توقّعت أن أجد هناك مستقرّا لقدمي، لكن كلّ ما كان هو الفضاء. تفحّصت المدى الذي أسبح فيه جيدا وكان لا شيء. كنت أسبح في اللاجدوى، الوقت المهدور منذ الأزل، الكلمات التي ملئت بها فراغات الحياة، النظرات التي لم تحمل أيّ معنى، فتات من طلاء أظافر مقشور، قطع من وعود مارقة، أجزاء من أغان لم يكملها أحد، وشفرات حلاقة لا تصلح حتى لحك الجلد. العدم في كل مكان.
قفز سعيد قفزته الأولى. طرتُ عاليا. خفت وحاولت التمسّك بأيّ من الثواني المتناثرة أو الأفكار المارقة، لكن بدون جدوى. كانت كلّها سرابات زيّنَت الفراغ.
حطّ سعيد وسقطت سقوطا حادّا لينتهي الأمر بي في قعر فنجان.
استدار بي الفنجان قليلا ثم توقّف، وسمعت صوتا أنثويا بُحّ من التدخين يقول: يأمركَ طالعك أن اتبع حدسك، وإن خانك الحدس اتبع شوقك ففي الحب الشوق هو حاسّتنا السادسة. اختفى الصوت واختفت الأنفاس المتوتّرة المقابلة له وعاد الفنجان ليدور ربع دورة ثم يتوقف. جاء نفَس جديد، وعاد الصوت قائلا: الصمت ليس خوفا. الصمت خوفان، خوف من أن نوقظ كلمة، وخوف من أن ندهس كلمة. وأتبع: يخبرك طالعك أن لا تقف مكانك طويلا، في النهاية ستؤلمك قدماك
تتابعت الأنفاس أمام الصوت الرّخيم. مرّ الكون كلّه بجانب العرافة المخادعة التي حبست حظوظ الكون في نقوش فنجان وحرّرت لكلّ نفسٍ طرفاً من نقش ليمسكه ويمضي ساحبا وراءه تاريخ حظه. حاولت صعود دربٍ في الفنجان لتقرأ العرافة طالعي، لكنّ سعيدا قفز قفزته الثانية، فطِرتُ عاليا ثم سقطتُ في بركة من الماء الموحل. سمعت صوت خطى مقبلة. الصوت أقوى من المعتاد بكثير يبدو أني أصبحت بحجم حصاةٍ، عالقةً في بقعة ماء موحل وِسْط شارع واسع. الصوت يقترب والخطو مسرع. داسَت الغريبة في البقعة فتطاير الماء الموحل في كل صوب، وكان نصيبي مع القطرات اللواتي ارتطمن ببنطالها، فأصبحت نقطة وحل عليه وبسرعة تيبّست. توقفت الخطى بشكل مفاجئ، ثم ركضت بسرعة كبيرة، ارتطمت بشيء ما واستقرَّت، عناقٌ طويل بين حبيبين.
حاولت تخليص نفسي، لكنني كنت متيبسة لا أستطيع الحراك. بذلت جهدا كبيرا، تصدّعت بعض أجزائي لكن بدون فائدة. كان الموقف العاطفي يتطوّر وأنا أجهد لتخليص نفسي. رحتُ أبصقُ على ما استطعت وصوله من أجزائي لتلين وأتحرّر، وأيضا بدون فائدة. سمعتها تقول له: إنها الحرب. لم يعد لدينا ما نخسره. كل شيء بحكم المفقود، لذا سأذهب في كل شيء حتى النهاية، وحين أخاف سأختبئ في فكرة. بدأتُ أنجح، ازدادت صدوعي، احتكّ بنطالها ببنطاله فتفتّتُ وتحرَّرتُ وطيّرتني الريح غبارا. دخلَتْ أجزائي في عيون الناس. دمعوا وفركوا عيونهم، لكني تغلغلت داخلها، وأصبحت لغة عيون. تداولني الكون كلّه. وصلت القمر وأسرار بيوت النمل وقصور الأميرات خلف البحار السّبع. قفز سعيد قفزته الثالثة، لَمَّني، وحين حطّ سقطتُ قرب تساؤلي الذي لم أجده و قد خبّأت الكون في داخلي.

كاتبة سورية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جمنة فرحة:

    روعة حبيبة انشالله بشوفك دائما مبدعة

  2. يقول محمد عطفة:

    مبدعة

  3. يقول محمد عطفة:

    مبدعة
    أسلوب سريالي رائع

  4. يقول أحمد مارديني:

    يسلم خيالك سلومة

إشترك في قائمتنا البريدية