لا يمكن فهم هذا الانقسام السياسي الذي حصل في ليبيا بين الشرق والغرب بدون العودة إلى التاريخ لسبر أغوار الموروث الثقافي والحضاري لبلد عمر المختار ومراحل تشكل الدولة الليبية والصعوبات التي لاقت المؤسسين لدمج إقليمي برقة وطرابلس على وجه الخصوص. فقبل أن توحد الإمبراطورية الرومانية أغلب الحوض المتوسطي مع نهاية حقبة ما قبل ميلاد المسيح، كان شرق ليبيا منطقة نفوذ إغريقية بعد أن أسس اليونانيون أهم مدن إقليم برقة، بينما طغت على الغرب في الأزمنة الغابرة الثقافة القرطاجية البونية، أو البونيقية كما يطلق عليها البعض، والتي جعلت إقليم طرابلس مغاربيا بامتياز من الناحيتين الثقافية والحضارية.
وبعد افتكاكهم لبرقة وطرابلس من الاستعمار الإيطالي، إثر هزيمة كل من برلين وروما في الحرب العالمية الثانية، دفع الحلفاء وخصوصا بريطانيا باتجاه تأسيس دولة في برقة سنة 1949 ونصبوا عليها الأمير إدريس السنوسي، وبقي الغرب، أو إقليم طرابلس، كيانا قائما بذاته مستقلا عن الشرق. ولم تكد تمضي سنة حتى سارعت شخصيات اعتبارية مؤثرة من الكيان الطرابلسي إلى مبايعة الأمير السنوسي ليكون حاكما للدولتين، أو الإقليمين، أي برقة وطرابلس، وتم تأسيس المملكة الليبية المتحدة بدفع من القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا التي بقيت تحتل إقليم فزان.
ويشبه البعض إندماج إقليمي برقة وطرابلس مع إقليم فزان في دولة واحدة اختارت الإسم الذي أطلقه الإيطاليون سنة 1934 أي ليبيا، بعملية ضم نجد والحجاز لبعضهما البعض تحت مسمى المملكة العربية السعودية. كما يشبه البعض هذا الدمج بذلك الذي حصل في أوروبا الشرقية لبعض الأقاليم التي شكلت دولة تشيكوسلوفلكيا سنة 1918 والتي انقسمت سنة 1993 إلى جمهورية التشيك من جهة وسلوفاكيا من جهة أخرى، وتم ضم أحد الأقاليم المنتمية إلى هذا الإتحاد إلى أوكرانيا منذ الأربعينيات وذلك بعد افتكاك الاتحاد السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا من الألمان بعد الحرب العالمية الثانية.
ورغم عقود من الوحدة بين الإقليمين الليبيين ومعهما فزان خلال عهدي الملك إدريس السنوسي ومعمر القذافي، فقد برز الانقسام مجددا في ليبيا بمجرد أن انهارت الدولة المركزية في طرابلس، وذلك من خلال دفع البعض باتجاه استقلال كل إقليم بذاته، ودعوة البعض الآخر إلى تشكيل فيدرالية يحظى فيها البعض بالحكم الذاتي وبنصيب من الثروة. فسياسة الأمر الواقع والجغرافيا ممثلة بالخرائط الجديدة التي خطها المستعمر في المنطقة لم تستطع محو حقائق التاريخ وتراكمات ما رسخ عبر القرون المتعاقبة في المخيال الجمعي لعدد من ساكنة تلك الأرض.
المحاصصة في المناصب
ولعل أهم تمظهرات هذا الانقسام بين هذين الإقليمين، هو هذه الحرب الضروس بين سلطتي طرابلس وطبرق والتي توقفت لتوها وتسبب فيها بالأساس تدخل قوى خارجية تواجدت على الميدان دعمت طرفا على حساب طرف، مؤججة النيران بين الجانبين. ومن تمظهراتها أيضا هذه المحاصصة في المناصب في مفاوضات السلام والتي لم تعد تقتصر على المناصب العليا في الدولة، على غرار رئيس السلطة التنفيذية وحكومته ونوابه، بل شملت مناصب أخرى دونها قيمة على غرار محافظ مصرف ليبيا المركزي ونائبه، ورئيس هيئة الرقابة ووكيله، ورئيس ديوان المحاسبة ونائبه بالإضافة إلى رئيس هيئة مكافحة الفساد ونائبه، ورئيس وأعضاء المفوضية العليا للانتخابات.
وتعطل هذه المحاصصة السير العادي لمفاوضات السلام وتطيل في أمدها وتؤجل الحل للأزمة، وذلك بالنظر إلى الإجراءات المعقدة التي تتضمنها ومنها ضرورة التثبت من شرط الإنتماء إلى الإقليم الذي جعلت المحاصصة المناطقية هذا المنصب أو ذاك من حق أبنائه. كما تتسبب هذه المحاصصة المناطقية في استبعاد معيار الكفاءة عند تعيين المسؤول وتغليب الانتماء إلى الإقليم على حساب الكفاءة. فقد يحصل أن يوجد شخص لديه القدرة على النجاح في هذا المنصب أو ذاك لكنه يحرم منه ليقع منحه بالضرورة إلى شخص من إقليم آخر شاءت الأقدار أن يكون المنصب من حق الإقليم الذي ينتمي إليه دون سواه، فتغيب النجاعة المرجوة في الأداء لمن عين لذلك المنصب.
فالمفروض أن ينال صاحب الكفاءة ما يستحقه من مناصب وذلك بقطع النظر إن كان من طرابلس أو من برقة أو من فزان، وبقطع النظر عن القبيلة أو المدينة أو حتى الانتماء السياسي فيما يتعلق بمن اختار التحزب في واحد من الأحزاب التي ظهرت على الساحة بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي سنة 2011. فعلى أي أساس يتم الاتفاق في بوزنيقة المغربية على منح إقليم طرابلس منصب رئيس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات والنائب العام ورئيس ديوان المحاسبة؟ وما هي المعايير التي اعتمدت كي يمنح إقليم برقة مصرف ليبيا المركزي وهيئة الرقابة الإدارية، وكي يؤول منصب رئيس المحكمة العليا وورئيس هيئة مكافحة الفساد إلى شخص من فزان دون سواه من أبناء الأقاليم الأخرى؟
لا توجد في الحقيقة حاجة ملحة لهذه المحاصصة التي تكرس الانقسام الليبي، كما لا توجد حاجة لخلق مناصب إضافية في أعلى هرم السلطة على غرار النائبين لرئيس الحكومة واللذين تم استحداث منصبيهما لإرضاء الأقاليم الثلاثة، برقة وفزان وطرابلس، في إطار المحاصصة المناطقية التي تضر بمعيار الكفاءة. فالأمر يبدو وكأنه غنيمة تقتسم أو كعكة يسعى كل إقليم لنيل النصيب الأوفر منها، وهو ما يجعل ممثلي الأقاليم المجتمعين في الحوار الليبي الذي ترعاه الأمم المتحدة يحاولون بنهم لافت نيل أكبر قدر ممكن من المواقع ومراكز النفزذ، وهو ما يجعلهم أقرب إلى الخصام منهم إلى الاتفاق والتوافق.
ويؤكد جل العارفين بالشأن الليبي على أن دعاة التقسيم والفيدرالية في ليبيا فاعلون في مواقع القرار سواء في الشرق أو في الغرب وقد كانوا في السنوات الماضية من بين الفاعلين في تعطيل التفاهمات بين الفرقاء شرقا وغربا. وتوظف دعاة الانقسام هؤلاء جهات أجنبية تجد مصلحة في تفكيك ليبيا وتقسيمها، أو هي تجد مصلحة في إطالة أمد الصراع مادامت لم تصل إلى تفاهمات تنال بمقتضاها نصيبا هاما من ثروات ليبيا التي يتصارع عليها من هب ودب.
ولعل السؤال الذي يطرح، في حال نجحت الأمم المتحدة في رأب الصدع سياسيا، وتوصل الفرقاء الليبيون برعايتها إلى تحقيق سلام نهائي في ظل ليبيا موحدة، هل سينجح بعض الليبيين في تجاوز هذا الانقسام بين الشرق الغرب الماثل في أذهانهم، خاصة وأن عقودا من الحكم الملكي والجماهيري في ظل ليبيا موحدة، لم تنجح في نزع فكرة استقلال الأقاليم من عقول البعض. وهل تم تدارس الأسباب التي أعادت إحياء فكرة التقسيم التي تم تجاوزها من رعاة الحوار ومن الفرقاء الليبيين أنفسهم ومن الأطراف الخارجية التي تواليهم؟ وهل هناك فعلا رغبة من كل من تم ذكرهم في قطع دابر هذه الأفكار المدمرة التي تسيطر على عقول البعض..؟
اقتباس
دعاة التقسيم والفيدرالية في ليبيا فاعلون في مواقع القرار