النسوية العمومية: لماذا؟

تعني النسوية العمومية فردية المرأة في استقلال كيانها أولا، وفي اندماجه بالكل النسوي آخراً، وبما يعطي للفاعل المؤنث حضوراً ويمنحه وجوداً.. وهو ما تعمل أدبيات المنظومة الذكورية، بتاريخها الفكري الطويل، على تغييبه وتهميشه. فالمرأة في النسوية العمومية كيان جماعي قبل أن تكون كينونة فردية، وهي وجود فكري قبل أن تكون نمطاً من الأنماط الإبداعية. وهي استكمال للمجموع النسوي الذي هو بمجموعه لا يماهي فردية المرأة فيه؛ بل يفرزها كياناً تتلاقى في خصوصيته عمومية النسوية بالمجموع، وبهذا الشكل تكون النسوية العمومية ميداناً معرفياً ذا صلة أكيدة بالفلسفة.
إن الحديث عن أهمية توصيف النسوية بالعمومية يتأتي من عد النسوية مفهوماً فلسفياً ينطوي على أبعاد فكرية، فيه تتجلى المرأة فاعلا وليست رقماً يندرج في خانة النسوية، لا يُحسب لفرديته أي حساب أو كينونة جسدية، ليس فيها للعقل مرأى ولا وجود أو مجرد معطى إبداعي، هو موضوع قبل أن يكون قيمة أو عطاء.
وعلى الرغم من أنّ لأفلاطون موقفاً سلبياً من المرأة؛ فإنه لا يتوانى عن ربط الفعل الخبراتي والروحي بالأنثوية المتسمة بالهوس الذي هو ليس سلبياً؛ لأنه هوس إبداعي فيه يكمن الإلهام الذي لا غنى للبشر عنه. وما كان أفلاطون ليضع ثقته في الأنثى، ويعدها فعلا إلوهيا كهنوتيا إلا لأن في الأنثى مكمن الفاعلية التاريخية ولها في الحقيقة السابقية. وإذا كانت الأهمية التي تعكسها الفلسفة النسوية تؤكد معطيات ما ندعو إليه في النسوية العمومية؛ فإن النسوية اليوم تواجه انتقادات كثيرة في العالم أجمع والولايات المتحدة تخصيصاً. ومن الانتقادات التي وجهت إلى النسوية أنها قصرت النظر المعرفي على الجندر بطريقة براغماتية تتجاوز بعض منهجيات التفكير الفلسفي ومحتماته الأخلاقية، ومقاربات النظر التحليلي، فلم تعن ببعض المنظورات الأخرى الجديدة في النسوية، المتمثلة بمجالات البحث في تاريخ الفلسفة والأخلاق، وعلم المعرفة والجماليات، والفلسفة العلمية والسياسية والاجتماعية والميتافيزيقية. هذه الانتقادات وغيرها، إنما تدلل على الحاجة الشديدة إلى وجود فكر نسوي ينماز بمنظورات لا تقتصر على ميدان أدبي أو نقدي، أو فلسفي أو علمي؛ بل تتجاوز هذا الاقتصار إلى بيداغوجيات بحثية أكثر اتساعاً فتشمل التاريخ واللغة والميثولوجيا والفيلولوجيا. وبالشكل الذي يؤسس لاستراتيجية عمومية، تنبثق من رؤية انفتاحية تعطي للمرأة صورتها الحقيقية الناضجة والمكتملة، كرأسمال رمزي هو أكبر من أن ينظر إليه موضوعاً أثيراً من موضوعات الأدب، أو ميداناً من ميادين البحث الأكاديمي أو صورة من صور الثقافة الشعبية والتاريخ الثقافي.
ووجود نسوية عمومية، يعني تعميم النسوية كنظرية فلسفية وفاعلية أنثوية هي المتبوع لا التابع، والمتبني لا المتبنى، والمتجسد لا المجسد الذي منه تنطلق السيرورات وفيها تكمن المتواليات. ومن ثم يكون انسلاخ النسوية عن صورتها، التي هي فيها كيان ذو خصوصية، سيعني تمظهرها بالعمومية التي فيها تتجلى صورتها الحقيقية، التي ليس لها أن تضيع في فرادة توجهاتها، وهو ما يركز النظر العياني عليها ككيان جماعي واحد ومتشابه هو أصغر بكثير من حقيقة وجودها الأثير.

ما حظيت به النسوية من دراسات وما لاقته من اهتمام ودعم، لا يساويان شيئاً ما لم تكن المرأة هي التي تجني ثمار تلك الدراسات، وتنال فوائد ذاك الاهتمام والدعم.

وقد يذهب الظن إلى أن النسوية العمومية هي نرجسية الذات التي تريد الاستقلال عن المجموع، لكن ذلك الاستقلال لن يكون مفضياً إلا إلى الاتحاد، بمعنى أن الذات التي تبحث عن استقلالها هي في الأساس مندمجة بمجموع الذوات التي على شاكلتها، ضمن البوتقة أو الحاضنة نفسها التي منها يكون للمرأة حضور وفيها يتجلى كيانها واضحاً لا يشابهها فيه كيان امرأة أخرى. وهذا هو الذي يمنح النسوية العموم، ويحولها إلى نظام فلسفي، شأنه شأن النظام الذكوري وحاضنته البطريركية. ولا سبيل لأن تصبح النسوية نظاماً عمومياً إلا بأمومية احتواء الواحد في المجموع، حيث منزلة الواحد هي منزلة المجموع، وحيث المرأة هي النساء والنساء هن المرأة. هذه المرأة التي إن كانت متفردة عن أي كيان مؤنث آخر؛ فإنها متماهية في النسوية، بوصفها هي الكلية التي فيها تتمثل تفاصيل الواحد المؤنث، بطاقاته وخبراته ومعاناته وسلوكه، وتوجهاته وتطلعاته، وتاريخه ماضيا وحاضرا ومستقبلا. ما نريده للنسوية في عموميتها هو أن يبزغ مفهومها من الفلسفة، كي تبني خيوط منظومتها بشكل منطقي، مشكلّة الحاضنة لنظام نسوي جديد لا يناهض الذكورية، ولا يبتغي الحلول محلها تشابها أو مشابهة؛ وإنما هو نظام يكمل النظام الذكوري في نواقصه، ويردم ثغراته ويمكنه من معالجة عيوبه وإصلاح أخطائه. فتتكامل الإنسانية في نظام ثنائي أبوي ـ أمومي، لا يصادر الواحد الآخر، بل لكل منهما آلياته التي لا تتجاهل الآخر ولا تلغي فردانيته.
وإذ يعترف النظام الذكوري بفردانية الرجل، وفي الوقت نفسه يقر بعمومية كينونته الجنسانية، فإن على النظام النسوي الإعلان عن فردانية كل امرأة فيه، وفي الآن نفسه عمومية انضوائها داخل المجموع الذي يحتويه هذا النظام. ثم ما الذي يجعل للنظام النسوي فلسفة منها يبزع الدور الأمومي، لو لم تكن العمومية هي الصفة العقلانية التي توجب على هذا النظام أن يكون في صيغة تواؤمية، هي شبيهة بمفهوم التناص، بوصفه مجموعة نصوص كل نص له استقلاله، لكن له أيضا مشاركة الحضور والتداخل والاقتران والتعالق والتماهي مع نصوص أخرى غيره. والتناص بحسب جوليا كرستيفيا يعني ضمنا إدراج تاريخ المجتمع في النص، وإدراج هذا النص في التاريخ، بمعنى أن النص وهو يستجيب إلى نصوص سابقة ويعيد تمثيلها وصوغها، فإنه يساعد على صناعة التاريخ، وهو ما يمكِّن النصوص من القيام بالأدوار الكبرى في المجتمع المعاصر، باعتبارها أساس التغيير الثقافي والاجتماعي، وبثلاث وظائف مهمة وبنّاءة: أولاها المساهمة في بناء الهويات الاجتماعية، وثانيتها تحديد مواقع الذوات الاجتماعية وأنماط النفس، وثالثتها بناء نظم المعرفة والعقيدة. وبالإفادة من هذا التصور النظري تكون النسوية تناصية أيضا وهي تؤكد عموميتها الفلسفية التي بها ستتمكن من إعادة إنتاج نفسها، محققة لها أهمية وهيمنة وبانية لنظامها الفلسفي أعرافا ومواضعات تجعل لخطابها مركزية جلية.
إن ما حظيت به النسوية من دراسات وما لاقته من اهتمام ودعم، لا يساويان شيئاً ما لم تكن المرأة هي التي تجني ثمار تلك الدراسات، وتنال فوائد ذاك الاهتمام والدعم. والحظوة كل الحظوة هي في المكاسب التي تصب أساساً في صالح النسوية التي فيها تتلمس المرأة حقيقة معطيات النسوية، لمس اليد وتكون في الواجهة إزاء أي تغيير يطرأ عليها، أو أي تقدم يحصل فيها. أما اعتبار النسوية قضية تهم النساء بالمجموع، والمرأة ضمناً داخلة في هذا المجموع بلا انفراد، فذلك ما يحجّم النسوية مفهوماً وممارسةً، ويضائل قيمتها ويجعلها عبارة عن معطى طوباوي وتشكيل نظري زمانه يوتوبيات وردية ومكانه أبراج عاجية.
وهذه العائمية في الفهم وفوضوية التمرس، لن تصل بالمرأة إلى القاعدة لتعرف حقيقة النسوية، كما لن تبلغ القمة فتعرف إمكانياتها في التحدي لنفسها ومدى إجادتها في النزول من علياء برجها إلى دونية واقعها وتابعيته. والحل يكمن في عمومية الكيان النسوي، الذي فيه لكل امرأة صورة تختلف عن صورة أي امرأة أخرى، وله مميزات خاصة بالمجموع، تجعل النسوية تبرأ بنفسها عن الفهم الطوباوي لماهيتها وتتنصل عن الممارسات المتعالية، فهي المثال الذي ينبغي رسم استراتيجيته بواقعية تصنعها النسوية بيديها، وتلمسه كل امرأة لمس اليد أيضا فيكون الواقع النسوي عاما للنسوية كلها، ومردوده الإيجابي خاصا بالمرأة المفردة تحديدا.
وما بين العموم والخصوص مساحة شاسعة من التطبيقات التي أُسدل عليها الستار وغشيها النسيان، وضاعت في خضم مسائل معينة ونادرة وبعضها بلا أهمية كانت النسوية قد وُجهت نحوها عن قصد أو عن غير قصد، فصار الجزء اليسير والخاص من النسوية، والمتعلق بمسائل الجنوسة والمساواة والأنوثة، منظوراً إليه باهتمام، بينما غابت مسائل عويصة وعامة كهوية الذات وماهية الكينونة وفلسفة تأنيث اللغة والتاريخ وغيرها في خضم واقع ذكوري عام ومهيمن على صميم الحياة كلها.

كاتبة وأكاديمية من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فريد.م:

    المقال ،حسب فهمي، يتحدث عن حالة وتطلعات الحركة النسائية في المجتمعات الغربية . ولكن هل يعكس هذا حالة المرأة في مجتمعاتنا الشرقية و خصوصيالتها؟ خاصة ذات الاغلبيات المسلمة؟

  2. يقول هدى:

    بعيدا عن الايديولوجيا، النسوية الغربية تتضمن تحيزا غير منطقي ومعاملة تفضيلية غير مبررة عقلانيا. يجب اعطاء معاملة تفضيلية ليس حسب الجنس وانما العمر: كبار السن، اناثا وذكورا، يجب ان يمنحوا معاملة تفضيلية وكذلك الطفولة، ذكورا واناثا.

إشترك في قائمتنا البريدية