إذا قمنا بتنظيف فضاء التحليل من الغضب ومن تظاهر إسرائيل الرسمية بالاستقامة ومن صرخات الفرح الفارغة وعديمة الأهمية للفلسطينيين، ومن اليمين الذي يصرخ “لاسامية” و”لقد عرفنا”، ومن اليسار المنشغل بتدوير عيون تتظاهر بالاستقامة والقول “لقد قلنا لكم”، يبقى لدينا قرار إشكالي جداً لمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي، لكنه قرار لا يجب المبالغة في أهميته الفورية.
قرار محكمة الجنايات الدولية بإعطاء صلاحيات للتحقيق مع إسرائيل (وحماس) بشبهة ارتكاب جرائم حرب بأغلبية 2 إلى 1، هو قرار إشكالي من ناحية قضائية وسياسية وله إمكانيات كامنة للتأثير سلباً على إسرائيل. ولكن الأمر يسري على المدى البعيد جداً.
القرار فعلياً يعترف بدولة فلسطينية بل ويرسم حدودها، حتى لو كان ذلك لغاية التحقيق فقط. وقد يؤدي إلى تحقيق وحتى إلى أوامر اعتقال لمئات الإسرائيليين، من بينهم وزراء دفاع ورؤساء أركان وقادة مناطق وقادة ألوية والإدارة المدنية ورؤساء مناطق في الشرطة وحرس الحدود ورؤساء أقسام في الشاباك. ولكنه أمر لن يحدث في المدى القريب، ولا يوجد يقين في أنه سيحدث على الإطلاق إذا تصرفت إسرائيل بحكمة.
على المدى الفوري، يجب أن تتعامل إسرائيل مع تداعيات قرارها بمقاطعة جلسات المحكمة، ورفض التعاون وطرح ادعاءاتها بصورة رسمية (هذا الأمر تم بصورة غير مباشرة). وبسبب ذلك، فقدت الحق في الاستئناف، ولهذا ستواجه هذا الموضوع وستواجه تحقيقاً محتملاً خلال الأشهر القريبة القادمة.
هذا القرار مبدئي، لكنه “سابق للمحاكمة” وغير نهائي. وهو قرار يتعلق بصلاحيات المحكمة وسريان سلطاتها القضائية الجغرافية، مثلما أرادت أن تعرف المدعية العامة، باتو بنسودا، التي تفحص حالات فيها -حسب رأيها- “أساس معقول للافتراض” بأنه تم ارتكاب جرائم حرب من قبل إسرائيل (“نشاطات غير متزنة”)، ومن قبل حماس والجهاد الإسلامي (“إطلاق الصواريخ على سكان مدنيين واستغلال مدنيين”) في عملية “الجرف الصامد” صيف 2014. في نهاية الصيف يمكن وضع هذا القرار موضع مناقشة جديدة، وهو الموعد المحدد لاستبدال المدعية العامة. وحتى ذلك الحين سيكون على إسرائيل أن تقرر هل تنتقد وتصرخ من مكان المتفرجين في الاستاد على الظلم وتشويه العدالة أم أنها ستشارك في النقاشات وستطرح ادعاءاتها وبراءتها. لا يمكنها المقاطعة وفي الوقت نفس البكاء والعويل. والاعتماد على الولايات المتحدة التي أدانت القرار، والتي انسحبت من الميثاق إلى جانب روسيا وإسرائيل والسودان قبل سنوات، لا يعتبر دفاعاً قابلاً للصمود لفترة طويلة. ومن الأرجح أن يكون خاضعاً لمجموعة مواضيع سياسية أخرى بين إسرائيل والولايات المتحدة.
نتنياهو المزدوج
تم التوقيع على ميثاق روما (الوثيقة التي تمنح المحكمة صلاحياتها) في 1998 ودخل حيز التنفيذ في العام 2002. وقد فصل الميثاق وظائفها وصلاحياتها ومنطقة ولايتها القانونية، وقد حدد أيضاً أربع جرائم رئيسية وهي: إبادة شعب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب، وجرائم عدوانية.
انضمت إسرائيل إلى الميثاق في 31 كانون الأول 2000، لكنها لم تصادق عليه. وأضافت إسرائيل تحفظات مفصلة ومبررة، فيها تحذير من وجود خشية لتسييس قرارات المحكمة وخوف جوهري ومعقول من استخدامها سياسياً، ولأسباب سياسية واضحة ومرفوضة من قبل دول بتقديمها دعاوى للمحكمة، وأنها ستتحول إلى ساحة صدامات سياسية وليس هيئة قضائية نقية وخالية من اعتبارات غريبة.
الادعاء القانوني الذي تطرحه إسرائيل له وزن ثقيل: لا ينبغي أن تنسب للسلطة أسس الدولة والسيادة، لأن الموضوع خاضع لنزاع سياسي مستمر، وستتم تسويته فقط عن طريق اتفاق تعاقدي بين الطرفين، سواء في اتفاق دائم أو في إطار اتفاق مؤقت يعترف بالدولة الفلسطينية. “علامات سيادة صغيرة” التي منحت أو تشكلت بقوة الواقع السياسي بعد اتفاقات أوسلو، هي علامات مشروعة. ولكن ليس لها أي وزن يشبه أسس السيادة. وبناء على ذلك، السلطة الفلسطينية ليست كيان دولة.
رئيس الهيئة القانونية، القاضي بيتر كوفاتش من هنغاريا، الذي طرح رأي الأقلية، استخدم هذه الحجة، السلطة ليست دولة. فهي لا تلبي تعريف “دولة جرت على أراضيها النشاطات التي يدور الحديث عنها”. لذلك، حسب هذه الحجة، فإنه لا يوجد لمحكمة لاهاي صلاحيات الولاية القانونية. سريان الولاية القانونية بناء على طلب المدعية العامة هو فعلياً يحدد حدود “فلسطين” ككل الأراضي التي احتلتها إسرائيل في 1967، وهذا تفسير وقرار سياسي وليس قانونياً. إضافة إلى ذلك، تدعي إسرائيل والقاضي كوفاتش، بأنه لا يوجد لادعاء سريان صلاحيات المحكمة أي أساس قانوني في ميثاق روما، بل وليس له أساس في القضاء الوطني العام، وهو القانون الذي ينظم العلاقات والخلافات بين الدول.
من الناحية الأخرى، كان قرار الأغلبية يستند إلى اعتراف الأمم المتحدة بالسلطة الفلسطينية كـ “دولة مراقبة” في أعقاب انضمام السلطة لميثاق روما في 2015 (وهي الخطوة التي ردت عليها إسرائيل بتجميد 500 مليون شيكل من أموال الضرائب للسلطة الفلسطينية). من ناحية إسرائيل، طُرح ادعاء آخر – إسرائيل تؤكد طوال عشرات السنين بأنها تحرص بنفسها، قبل وخلال نشاطاتها، على أن تقدم المسؤولين ومن ينتهكون القانون للمحاكمة إذا احتاج الأمر ذلك – الجيش الإسرائيلي والشاباك أو أي جهة رسمية أو مدنية أخرى تعمل في مناطق خاضعة لنظامها القانوني. ولكن أي ادعاء قانوني مهما كان قوياً فلن يحمي إسرائيل من الادعاءات الجوهرية بشأن تنفيذ “جرائم” مزعومة. هو يترك المشكلة قائمة ومدار خلاف ولا يجيب عن سؤال بسيط آخر: ما الذي سيحدث في اليوم الذي سيتم الاعتراف فيه بفلسطين كدولة من قبل الأمم المتحدة، التي بموجبها تعمل المحكمة في لاهاي.
ثانياً، طالما أن نتنياهو يتولى منصب رئيس الحكومة فإن للادعاء والتبريرات القانونية بعداً سياسياً، الذي رغم أنه لا يشكل أي وزن في هذا القرار أو في المستقبل، إلا أنه لا يختفي من العالم: التناقض الداخلي فيما يتعلق بالنظام القانوني الإسرائيلي. من الداخل، نتنياهو ينتقد ويهاجم ويشوه ويحتج على شرعية الادعاء العام، وجهاز القضاء كله والمحكمة العليا بشكل خاص، ويحتج أيضاً على عدم أهليتها وعدم الاستقامة وحياكة ملفات وارتكاب ظلم.
أما تجاه الخارج فيبيع نتنياهو للعالم عرضاً للديمقراطية الليبرالية التي تعدّ فيها سيادة القانون والمساواة أمام القانون واستقلالية جهاز القضاء وقوة المحكمة العليا، منارة للأغيار. صحيح أن “لاهاي” ليست بحاجة إلى ذلك، لكن عندما تفحص رد إسرائيل، فلأي من الاثنين اللذين يمثلهما نتنياهو يصدقون؟ هذا بالتأكيد لا يساعد في الدفاع عن إسرائيل.
بقلم: ألون بنكاس
هآرتس 7/2/2021