الكتب الجيدة تنقذنا من غبار الرداءة.. المغربي عبد الله الساورة: أهرب من صرامة الناقد لرحابة الأدب

ماجدة أيت لكتاوي
حجم الخط
0

الرباط ـ «القدس العربي»: عبد الله الساورة، كاتب وقاص وناقد سينمائي ومدرِّس تاريخ، ابن مدينة قلعة السراغنة (شمال مراكش بـ84 كيلومترا) يعتقد جازما أن الإبداع هو تلك اللُّحمة لما نقوم به من كتابات في مجالات تظهر متباينة ومختلفة ولكنها في العمق متصلة في ما بينها.
«القدس العربي» سعت من خلال حوار مع الكاتب المغربي إلى النبش في وجدان ودواخل صاحب مسرحية «العشاء الأخير» الذي لا يرى حدودا تُذكر بين الأجناس الأدبية والإبداعية، وهو الذي يهرب من النقد السينمائي ومن صرامة الناقد والمؤرخ المتتبع للأحداث بدقة، إلى رحاب القصة والمسرح، حيث تجد نفسه سجيتها. فالساورة طالما «سعى إلى البحث عن ذاك الإنسان البسيط في أعماقه، الذي يحاول القبض على تلك الأشياء البسيطة بشكل مذهل».

■ دائما ما تكون طفولة الكُتّاب جديرة بالاطلاع، كيف كانت النشأة؟
□ عشتُ في عائلة ممتدة بين المغرب وخارجه، ودائما كنت مولعا بتتبع الحكايات والأخبار والقصص لعائلة مسافرة، لذا كان عليّ حفظ الأماكن والبحث في جمالياتها، أحمل أكثر من هوية، لذلك طبعت في نفسي هذه الأماكن بصمتها ولغاتها وعاداتها، ومعها أنسنة هذه الأماكن بروح إنسانية عميقة. داخل هذا الطفل الصغير تولدت روح من التواصل والانخراط، بدون خلفية بسبب كثرة التنقل وهذه الامتدادات العائلية بأكثر من لغة، وبسبب جائزة صغيرة في قسم الثانية إعدادي تتكون من عشر كتب أدبية، تغيرت حياتي رأسا على عقب، أصبحت مدمنا على القراءة ومتسائلا هل الإنسان هو من يصنع الرغبة، أم هي الحاجة؟ أتساءل هل كنت طفلا محظوظا ومدللا؟ مع مرور الوقت أدركت أن كل إبداع ينام طويلا ويخرج للوجود مبتسما، هذا ما أنا عليه: طفل صغير مبتسم في وجه القبح.

■ أصدرتَ «العشاء الأخير» مسرحية مزجَت بين الفنون واحتفَت بالإنسان في 22 صفحة، ما قصتها؟
□ يحيل نص «العشاء الأخير» من خلال إسقاطاته التأويلية إلى سؤال مركزي: أي نهضة نريد؟ هل هي نهضة تحمل وعيا بأركانها وركائزها، وهي تحتفي بالإنسان وتمجد العقل والحواس، وتحتفي بالفن وبالكتابة وبالقراءة، وبين نهضة مزيفة في مظهرها الحداثي، بدون أن تصل إلى عمق الإنسان؟ هذا العمق الوجودي للاحتفاء بالمسرح وبالإنسان وسط دوائر القراءة والمعرفة ومخاضات السياسي هو ما يركز عليه النص. مسرحية «العشاء الأخير» تسلط الضوء على أنماط وأساليب تولف بين التشكيل والتاريخ والقصة والسياسة، في نص مسرحي متكامل يحمل الكثير من الأبعاد ومن الدلالات، ومن أوجه التقابل والتقاطع، بين سلطة السياسي وسلطة المثقف زمن التحولات الأوروبية إبان عصر النهضة، حيث تم الاحتفاء بالإنسان من خلال تمجيد سلطة العقل، والدعوة إلى قيم الحرية والإبداع المعرفي بأشكاله المختلفة، بمعنى هذا التنازع القوي بين سلطة السياسي، وسلطة المثقف ومن يتملك هذه السلطة في نهاية المطاف.
■ أنت ناقد سينمائي تدقق في الصورة وسميائياتها، ما مدى أهمية التدقيق في رسائل ودلالات الصورة عند إنجاز قراءة نقدية للأفلام السينمائية؟
□ الفيلم السينمائي الجيد هو الذي نشاهده في كل مرة، وفي فترات متقطعة يبدو جديدا، تلك هي مهمة الناقد السينمائي أن يفتح كُوَّة من الضوء بالتعريف بالأفلام الجيدة التي تسمح لنا بالتعرف على أنفسنا مع الآخرين، وفهم الموضوع المعالج برؤية عميقة؛ وعلى بعث الإشارات، إن غالبية الأفلام الجيدة تتمحور حول الأسلوب والنبرة واختلاف رؤية المخرجين، وإلى تجنب مشاهدة الأفلام الغبية التي تجعل من المتفرج وعاء للحشو، لأنه من الصعب فصل الأفلام الغبية عن الأفلام الجيدة في كثير من الأحيان. السينما لديها القدرة الفائقة على اختراق حياة الناس والتأثير في قيمهم وأساليبهم في التصرف عن طريق الاستحواذ على العالم، وعلى كل ما هو ذو نزعة إنسانية. وهي أداة ضرورية لا غنى عنها لتنمية قدرتنا على المعرفة من خلال «الفانتازيا» والتخييل والوهم والرمزية والواقعية نفسها. وهي تشكل جزءا من المواد التي من خلالها نستوعب الأشخاص وأحابيل السياسة والقواعد المعمول بها وسياقاتها الاجتماعية. نمت هذه الحاسة النقدية من تراكمات معرفية يتداخل فيها السياسي بالتاريخي بالتجارب الحياتية. ووجدت نفسي منغمسا في فعل الكتابة بين السينما والقصة والمسرح والرواية والمقالة الصحافية، بمزاجية الكاتب الذي يهرب من الضجر ومن الملل، إلى آفاق جديدة بعيدة عن ضغط اليومي وتوليفاته المعقدة، التي تلتهم الكاتب كلما انصاع واعتاد على إكراهاتها.
■ كونك ابن مدينة قلعة السراغنة، كيف تمكنت من تطوير ملكة النقد السينمائي مع غياب دار سينما في المدينة؟
□ منذ مرحلة الدراسة الإعدادية في مدينة قلعة السراغنة، وبالصدفة كان في جوارنا نادٍ سينمائي للموظفين، يعرض العديد من الأفلام ويناقشها، وجدت نفسي داخل هذه العوالم الحالمة للسينما باعتبارها واحدة من أكبر الأحداث الثقافية الكبرى. بعدها تأسس نادٍ سينمائي آخر ضمن الجامعة الوطنية للأندية السينمائية، ثم انتقلت إلى مراكش، حيث أصبحت عضوا في النادي السينمائي، لكن في هذه المرحلة المبكرة، وجدت نفسي صحبة نقاد سينمائيين لهم خبرة طويلة في هذا المجال. بعدها، انتقلت إلى الرباط والدار البيضاء ثم خارج المغرب، ووجدت نفسي في كل انتقال أتعايش مع أناس مولعين بالفن السابع وأخباره. بالموازاة بدأت أكتب في مجال النقد السينمائي والتمرس على فعل الكتابة، ومعها إتقاني للغات، أعتقد أن غياب الشيء هو حضور بالضرورة وأن مدن الهامش تمنح هذا الحافز وهذا الحب للسينما باعتبارها فنا يمكننا إدراكه ويتجاوز أبعاد الزمن والمكان.
■ هل كانت مدينتك وأناسها وعاداتها مصدر إلهام لك؟
□ تعتمد صداقتنا على أشياء نألفها داخل المكان والزمان، والتغلب عليها وتحويلها لفعل كتابة. بحكم أنني انتقلت كثيرا، أتذكر طفولتي في مدينة قلعة السراغنة، وأتذكر صورا جميلة في مدن وقرى داخل المغرب وخارجه. في هذه الأمكنة ترتسم وجوه مضاءة بالأمل يشدك الحنين إليها والكتابة عنها في أكثر من صورة، وأن الفشل هنا لا يعني الفشل هناك. في تلك المدينة بمناظرها وجبالها المحيطة وخضرتها تتعلم الصمت وتتعود عليه. المكان حقيقة خارج أذهاننا، لذلك نسعى للقبض عليه في كتابات تتعدد مقاصدها ومنابعها، مع ما يغلف ذلك من وجوه للنسيان، فبقدر ما تسكننا أمكنة وتقيم فينا نحاول قدر الإمكان الابتعاد عن أمكنة أخرى تترك لهيبها في نفوسنا. لقد حولني الانتقال والسفر والإقامة بين هذه الأماكن المختلفة بمناظرها بطبيعتها بأناسها ببسمتهم وبتجهمهم، إلى كاتب رغما عني، وإلى قاص وإلى مسافر باحثا عن أفكار جديدة بعمق إنساني.
■ الكتابة فعل متفرد يعبر عن كينونة الكاتب ووجدانه، هل لديك طقوس خاصة للإتيان بهذا الفعل الجميل؟
□ لا ليست لي أي طقوس خاصة، أكتب في كل الأوقات والأماكن، من خلال تسجيل نقاط صغيرة أعود إليها وتسعفني عند الحاجة. الكتابة تمرين على الإفلات من ضغوط اليومي وإكراهاته، الكتابة نفاذ للأعماق للتخلص من المظاهر الزائفة التي تثقل كواهلنا، الكتابة مثل نور الشمس تجعلك تتوغل في عمق الأشياء، هي بحث مُضنٍ عن المنفلت من أرواحنا. إنها جدار عظيم يحبس الزيف ونبحث من خلالها عمّن نكون، أجد نفسي قريبا من دروب الفلسفة والتاريخ وجماليات الرواية والسينما، وأهرب من الروتين ومن النمطية، لذلك أبحث عن فكرة عميقة، أبحث عن الأفكار الجديدة الملهمة وهي مسألة تعلمتها من السينما. في السينما هناك بحث محموم عن الفكرة المبدعة، الفكرة الخلاقة، الفكرة التي تنمو في قصص وحوادث وشخصيات، وتتحول إلى فكرة تتمتع بالصلابة، تمجد الإنسان وتحتفي بالحرية والعدالة، وعن الحق في أن نكتب بدون قيود وبدون رقابات ذاتية. تلك هي الفكرة التي أحاول القبض عليها، متنقلا بين أجناس إبداعية كطفل صغير لا يكبر، طفل شغوف بالقراءة وبالحب حينما تنضج الفكرة على نار هادئة.
■ عانى الفنانون المغاربة الأمرين خلال عام الوباء وما زالوا، ماذا عن الكتاب والمؤلفين؟
□ يتبادر إلى أذهاننا أثناء جائحة «كوفيد 19» هل يمكن السيطرة على صور المعاناة بعدم القدرة على الخروج من منازلنا، وبالنظر فقط من الشرفات والنوافذ وبأعداد الأحبة الذين تساقطوا بدون وداع؟ تنغرس المعاناة بالشعور بها وبانزوائها في ركن قصي في النفس والقلب، أدركت من خلال الجائحة أن المعاناة النفسية ندرك بها وجودنا وذواتنا ومحبتنا للآخرين، وأن الخوف الذي عشناه أسوأ بكثير من المعاناة نفسها. لذلك، سعيت في غالب الأوقات إلى القراءة، مدركا أن القراءة هي السيل الجارف للأفكار البليدة والمتجمدة في دواخلنا، وأن الكتابة فعل انتصار ضد الذاكرة الهشة ومسار الحياة القصيرة، وكل الأشياء التي تحدث بسرعة وفي غفلة منا ولا يمكننا رؤية هذه العلاقة بين الأحداث، ولا يمكننا قياس عواقب الأفعال وإيماننا بخيال الزمن. ومن ثم، فأنا أكتب باستمرار نكاية في هذه الأشياء واحتفاء بالحياة وبالإنسان.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية