الافراد لا يستطيعون عادة تقرير مصير بلد او امة، وان تمتع الواحد منهم بسمات قيادية متميزة، فلا بد من وجود جهاز سياسي واداري متكامل يؤمن برؤاه وينفذ سياساته. وتحتوي صفحات التاريخ نماذج لافراد كان لشخصياتهم آثارها على مسار مجتمعاتهم، وقد يؤدي غيابهم عن المسرح السياسي لشيء من التغير في الاداء السياسي للنظام الذي شيدوه، ولكن يبقى ذلك النظام وفيا لـ «القائد البطل» او «الزعيم التاريخي». ويصعب عادة احداث تغيير من داخل النظام السياسي، ايا كان شكله، فالقوانين التي يعمل بها ذلك النظام لا تحمل في ثناياها اسباب سقوطها، بل تحتوي على صمامات امان تحميها من محاولات التغيير، وان كانت تتيح الفرصة لبعض التغييرات الهامشية من الداخل.
ويمكن القول من اسباب فشل اغلب الثورات العربية عدم اقتلاع الانظمة السياسية التي ثارت الجماهير ضدها. فما ان اتضح حماس الجماهير للتغيير واصرارها عليه بالتظاهرات والاحتجاجات غير المسبوقة في التاريخ المعاصر، حتى هرعت قوى الثورة المضادة لاتخاذ اهم اجراء معوق لانتصارها، وهو ازاحة رؤوس الانظمة في مصر وتونس واليمن مع الإبقاء على جسد النظام. هذا الاجراء لم يلق ارتياحا لدى بعض انظمة المنطقة، التي رأت في التظاهر بالاستجابة لبعض مطالب الثوار سابقة خطيرة ستشجع الآخرين على الثورة ضد انظمة الحكم في بلدانهم. وطرح بديل لذلك يتمثل بتشكيل مجموعات متطرفة مارست العنف غير المحدود في ليبيا وسوريا والعراق. والواضح ان الخطة الامريكية اثبتت نجاحها بشكل اوضح. فقد بقيت الانظمة التي تمت الاطاحة برؤسائها بينما تحولت البلدان الاخرى الى ساحات للقتال العبثي الذي لم يفض الى تحول ديمقراطي حقيقي. ويمكن القول ان العالم العربي لم يمر بمرحلة مضطربة على صعيد الاوضاع الداخلية لبلدانها كما هي عليه الآن، كما ان الغموض الذي يلف مستقبلها اصبح مقلقا جدا، وينذر بالدفع نحو المزيد من التطرف والعنف، بسبب حالة الاحباط التي تتعمق في النفوس يوما بعد آخر. وما لم تستيقظ النخب الفكرية والدينية من حالة التخدير التي فرضت عليها وفق اجندات خارجية، فستظل الشعوب مغلوبة على امرها تنقاد للقوى ذات المال والسلاح.
ومهما كان الحديث عن أثر التغير في البلدان العربية على بعضها البعض، تبقى مصر هي المفتاح الاساسي للعالم العربي، فان حدث فيها تغير ديمقراطي فسينتقل ذلك لبقية الدول العربية، وان فشلت محاولات التغيير فيصعب تصور حدوث تغيرات ديمقراطية حقيقية في تلك الدول. الامريكيون حاولوا افشال ثورة شعب مصر بحصر التغيير برأس النظام، فأزيح حسني مبارك قبل اقل من اربعة اعوام، وروج اعلام قوى الثورة المضادة رواية مخالفة للواقع، مفادها ان مصر تحولت نحو الديمقراطية. كان ذلك تخديرا فاعلا للجماهير، حتى الحركات السياسية المنظمة منها، كالاخوان المسلمين.
فسرعان ما هرع الجميع لتقاسم «الكعكة الديمقراطية» مع علمهم بان نظام مبارك لم يسقط، وانه ما يزال مسيطرا على مفاصل القوة ابتداء بالجيش والأمن وصولا الى الاعلام وبقية المؤسسات ذات التأثير الاجتماعي والسياسي. هرع الاخوان للمشاركة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وما هي الا فترة يسيرة لا تتجاوز العامين حتى عاد الاخوان الى موقعهم الذي ألفوه منذ تأسيس جماعتهم، فاكتظت السجون بكوادرهم واحتوى ثرى مصر اجساد الآلاف من شهدائهم. تلك هي قصة «الثورة» في مصر التي حققت قوى الثورة المضادة اهم انجاز بافشالها تماما. وقد جاء القرار السياسي الذي اتخذه العسكر الاسبوع الماضي بتبرئة الرئيس المخلوع، حسن مبارك، من التهم التي وجهت اليه باعتباره مسؤولا عن اعطاء الاوامر باطلاق النار على المتظاهرين، ليطوي آخر فصول الثورة، ويعيد الوضع الى أسوأ مما كان عليه قبلها. هذا ما كانت القوى التي دعمت الانقلاب ومولته تسعى لتحقيقه، بل ان بعض القوى المشاركة في ذلك الانقلاب العسكري اشترطت للمساهمة المالية السخية تبرئة مبارك واعادة الاعتبار اليه. ومن المتوقع جدا ان يحدث الامر نفسه في تونس، فيتم اعادة الاعتبار لزين العابدين بن علي الذي يعيش في السعودية والذي تسعى قوى الثورة المضادة لاعادة جماعته الى الحكم، بانتخاب الباجي قائد السبسي وتعيين محمد الناصر متحدثا للبرلمان، لتكتمل بذلك مسرحية إبعاد حركة النهضة عن الحكم، وفق هندسة دقيقة للوضع التونسي.
حدثت في السابق اضطرابات سياسية في بعض الدول العربية، وتداول على الحكم اشخاص حكموا، ثم سجنوا، ثم حكموا ثم سجنوا، ولكن ما حدث في مصر مختلف تماما. ففي السودان مثلا كان الصادق المهدي رئيسا للوزراء في منتصف الستينات، حتى جاء النميري، واعتقل مرارا، واصبح رئيسا للوزراء في الثمانينات، وتكرر اعتقاله حتى العام الماضي. ولكن ذلك لم يحدث بسبب تدخلات خارجية، او انقلابات ضد الارادة الشعبية كما هو الحال في مصر. محمد مرسي كان سجينا قبل الثورة، وخرج من السجن خلالها ضمن هروب جماعي، ثم انتخب رئيسا، ولم يلبث ان انقلب عليه نظام مبارك الذي يديره العسكر، واعتقل مجددا، وحوكم بقضايا كيدية من بينها هروبه من السجن. اليوم يرزح مرسي في السجن وهو الذي لم يرتكب جريمة حقيقية يعاقب عليها القانون، بينما يطلق سراح مبارك الذي يعتبر المسؤول الاول عن اصدار اوامر اطلاق النار على المتظاهرين عام 2011. ثم يصدر العسكر الاسبوع الماضي قرارا باعدام اكثر من 180 شخصا بتهمة المشاركة في قتل شرطة في حادثة كرداسة بعد الاعتداء العسكري على تجمع الاخوان المسلمين برابعة العدوية والنهضة. فليس هناك امتهان لكرامة الانسان واستخفاف بالعقل البشري كما يحدث في البلدان التي تطالب شعوبها بالحرية.
ويعاني شعب البحرين، هو الآخر، من التشدد في فرض القوانين القمعية التي تتيح للسلطات اصدار احكام الاعدام بحق عشرات الشباب بعد توجيه تهم مزيفة لهم انتزعت تحت التعذيب. وبرغم تظاهر الامريكيين بالرغبة في تطوير اوضاع المنطقة فقد ا صبح واضحا ان الولايات المتحدة نفسها تعاني من ازمات داخلية لم تستطع انظمتها حلها او احتواء آثارها. وبعد مقتل مواطنين امريكيين من السود مؤخرا على ايدي الشرطة، اضطر الرئيس الامريكي نفسه للقول: انها مشكلة امريكية. حين لا يعامل اي شخص في هذه البلاد بشكل متكافىء امام القانون، فانها مشكلة».
فما دامت امريكا غير قادرة على اقامة حكم القانون بشكل عادل يعمق شعور المواطنين بالأمن واحترام الحق، فان من غير المستغرب ان لا تكون متحمسة لاقامة انظمة ديمقراطية عادلة في بقية البلدان. كما ان موقفها ازاء الاحتلال الاسرائيلي يمكن تفسيره بغياب قناعة الساسة الغربيين (خصوصا الامريكيين والبريطانيين) بضرورة احترام العدالة او اعتبار ذلك امرا حاسما في العلاقات الدولية. وهذا يدعو للمزيد من التفكير واعادة النظر في ما كان يعتبر من الثوابت لدى النخب المتأثرة بالتجربة الغربية، وان انظمتها الديمقراطية تمثل غاية ما يتطلع اليه الكائن البشري.
اليوم يصادف الذكرى السادسة والستين لصدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان. وفي غياب ارادة دولية لتفعيل هذا الاعلان واعتباره مرجعية اساسية في العلاقات الدولية وواحدا من شروط النظام الديمقراطي المقبول، فان الدول القمعية لا ترى رادعا عن مصادرة الحريات وتسليط القوانين الجائرة على النشطاء والمطالبين بالاصلاح والتغيير الديمقراطي. وتجدر الاشارة هنا الى استحالة تغيير اي نظام من داخله، حتى اذا ادعى هذا النظام انه «ديمقراطي». فالفلسطينيون لن يستطيعوا يوما تحرير ارضهم او استعادة حقوقهم من خلال القوانين الاسرائيلية التي طالما روج الغربيون بانها نابعة عن «نظام ديمقراطي». والسياسات الغربية ازاء عالمنا العربي والاسلامي لا يمكن تغييرها من خلال القوانين المحلية في الدول الغربية، بل ان بعض هذه الدول يسعى لرفض حاكمية المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان، بدعوى ان ذلك يؤثر على امنها القومي والتصدي لظاهرة الارهاب. ولا شك ان التصدي لذلك الارهاب وظاهرة العنف امر مطلوب، ولكن تسليط القوانين البوليسية التي تختفي في شكل «ضوابط» و»لوائح» وراء القوانين المعلنة انما هو التفاف على ذلك الاعلان.. ويرتكب خطأ كبيرا من يعمد لسجن انسان لاي من تلك الاسباب. فاغلب دول العالم أقرت الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 217 ألف (د-3) المؤرخ في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948. فالملاحظ ان اغلب القوانين التي شرعتها الامم المتحدة تحولت، في غياب الحماس الغربي لترويج الديمقراطية واحترام حقوق الانسان، الى شعارات يحتفى بذكرى صدورها سنويا بدون ان يكون هناك إلزام بتطبيقها. وتعاني الشعوب العربية من ظاهرة تسلط الانظمة القمعية المدعومة بشكل علني وثابت من «الانظمة الديمقراطية» الغربية، الامر الذي ادى الى وأد ثورات الربيع العربي بدون حياء او خجل. ولكن آثار ذلك لن تنحصر بالشرق الاوسط بل ان الدول الغربية نفسها بدأت تدفع فواتير ذلك التلكؤ.
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
د. سعيد الشهابي
تحليل مقنع وموسع عن حالة الربيع العربي يا دكتور سعيد
بالنسبة لي فاءني كنت مؤيدا لثورة العدالة الاجتماعية بالبحرين
لكن التدخل الايراني لتلك الثورة ولو اعلاميا جعل السنة ينسحبون
قناة العربية كشفت عن طريق مراسلها بالبحرين عن مخططات خارجية لزعزعة استقرار دولة البحرين عن طريق العنف والقتل والارهاب – شاهد اليوتيوب
العدالة مطلب جميع الأحرار لكن الطائفية والتبعية للخارج مرفوضة من الجميع
ولا حول ولا قوة الا بالله
أثني على مقالك يادكتور سعيد الشهابي وأتعاطف مع شعب البحرين ومصر واليمن والعراق وغيرهم على سواء، ولكن لماذا لا تذكر سوريا؟