ربيع ميانمار بين مطرقة العسكر وسندان الصين

عادل صبري
حجم الخط
1

كشر الانقلاب العسكري الذي وقع بداية الشهر الحالي في دولة ميانمار عن أنيابه، بعد أيام قليلة من خروج الشعب للتعبير عن رفضهم وأد التجربة الديمقراطية التي شهدتها البلاد. فقد سقطت أول ضحية في مظاهرة ضد الانقلاب على يد الشرطة التي أشبعت الناس ضربا بالهراوات وخراطيم المياه، والرصاص المطاطي، أثناء تظاهر الناس في مجموعات تضم عشرات الآلاف، يطوفون أنحاء البلاد يوميا، اعتراضا على حبس زعيمتهم أونغ سان سو تشي. لم يحظ شعب ميانمار منذ استقلاله عام 1949 عن التاج البريطاني، بنعمة الحرية والفكاك من حكم العسكر لفترات طويلة. فالدولة التي ما فتأت تقاتل اليابان التي خطفتها من بريطانيا قبيل الحرب العالمية الثانية، وقاتل شبابها من أجل الاستقلال التام بعد الحرب، لم تحظ بمسار ديمقراطي، حيث بدأت الخلافات مبكرا بين رموز الليبرالية والقيادات العسكرية، وأدت إلى تعطيل الحياة السياسية برمتها. سيطر العسكر على جمهورية ميانمار منذ ولادتها عبر تحكمهم في إدارة موارد البلاد، وتحالفهم مع القيادات الدينية، وتخلصهم من رموز الثورة بالقتل والمحاكمات ومنهم والد الزعيمة سو تشي، قبيل أشهر من رحيل القوات البريطانية. فلم تعرف البلاد معنى الحياة الديمقراطية إلا لبضع سنوات، فقد سيطر الجيش على السلطة تدريجيا، أثناء إعداد دستور دائم للبلاد، وأصبح الحاكم الفعلي لها منذ عام 1962 باعتباره المؤسسة التي حاربت الاستعمار، وعرقل المسار السياسي لعقود إلى أن تحالفت معه سو تشي منذ خمس سنوات، ورضيت بما وضعه من قواعد دستورية، وقوانين تسمح للمؤسسة العسكرية أن تكون فوق الدستور ويخصص لها 25 في المئة من أعضاء البرلمان.
وقعت الزعيمة سو تشي بين مخالب الشيطان، حينما تنازلت عن سمعتها الدولية والدعم الإنساني الذي حصلت عليه أثناء ملاحقة الجيش لها، بعد رجوعها إلى موطنها عام 1999 ودافعت عن دور العسكر في قتل وتهجير مسلمي الروهينجا من أرضهم في إقليم أرخان الملاصق لحدودها مع الهند وبنجلاديش.
لم يمر عام على حملة سو تشي لتبييض وجه العسكر أمام المحكمة الجنائية والمحافل الدولية، فإذا بهم يسودون وجهها أمام شعبها والعالم، باتهامٍ أنها زورت الانتخابات التي جاءت بها كزعيمة شعبية بأغلبية كاسحة، والتي أجريت نهاية العام الماضي. ما بين فترة التحالف مع العسكر والانقلاب أيام معدودات، في بلد ما زالت فيه الغلبة للمؤسسة العسكرية التي تبسط سيطرتها على البلاد، في كافة المناحي، الاقتصادية والاجتماعية، وتدير بمفردها شبكات الإعلام والإنترنت وعلاقات واسعة مع العائلات والزعماء البوذيين الذين يتبعهم نحو 90 في المئة من السكان البالغ تعدادهم نحو 53 مليون نسمة.

أدوات الصراع السياسي في الداخل

بقدر صدمة الناس في فجأة الانقلاب،على اختيارهم الشعبي، وخروجهم على السلطة العسكرية، فإن حجم المظاهرات التي ـ رغم استمرارها وتزايدها يوميا ـ لا يمثل خطورة حقيقية على المؤسسة التي تحكمهم منذ عقود بالحديد والنار. لم تأت هذه النظرة المستقرة للنظام العسكري في ميانمار، على خلفية تاريخية فحسب، بل كاشفة لمدى قدرة المؤسسة الحاكمة على التلاعب بالزعامات المحلية وإدارة أدوات الصراع السياسي في الداخل، والتلاعب بموازين القوى الإقليمية والدولية، منذ الشروع في رحيل الاستعمار عنها وحتى الآن.
تمكنت المؤسسة العسكرية المعروفة باسم «تاتاماداو» من استغلال الموقع الجغرافي للدولة، في أن تحصل القيادات العسكرية التي شاركت في الحرب، على حق تقرير المصير من بريطانيا، بعد مشاركتهم في محاربة اليابان ودول المحور، وعقب الحرب حل الأمريكيون محل البريطانيين في المنطقة، واحتلوا القواعد البريطانية التي تشرف على مضيق ملقا الذي تمر من خلاله 80 في المئة من حركة التجارة بين جنوب وشرق آسيا إلى أوروبا وأمريكا الشمالية.
ساعد الأمريكيون جيش ميانمار في مواجهة تطلعات عدد من السياسيين الذين تعلموا على يد اليابانيين ويرتبطون تاريخيا بهم والموالين للبريطانيين، إلى أن انشلغت الولايات المتحدة بالحرب الكورية، ثم حرب فيتنام، وكانت ولادة جمهورية الصين الشعبية بداية جديدة للخروج من العباءة الغربية، حيث كانت ميانمار «بورما» سابقا، من أوائل الدول ذات التوجه الغربي التي اعترفت بالنظام الشيوعي عام 1949 وانشأت سفارة لها في بكين عام 1950. وظلت العلاقات مع الصين قوية إلى أن شرع الحزب الشيوعي في بكين في محاربة البوذية وملاحقة الزعيم الروحي للطائفة الداي لاي لاما وأتباعه في التيبت ورهبان بوذيين في الدول القريبة من حدودها، وهروب عائلات من الصين إلى جمهورية ميانمار التي ترتبط بها بحدود طويلة في شرق وشمال البلاد. وكونت بعض هذه العائلات قوات عسكرية، لمواجهة الصينيين، الذين يلاحقون البوذيين على الحدود المتداخلة بينهما، وأدت إلى نشر حالة من العداء والثأر تجاه الجاليات الصينية، انتهت بقطيعة ساخنة وطرد الجاليات الصينية من ميانمار، خلال الفترة ما بين 1967 حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي.

الضغوط الغربية

عاد عسكر ميانمار إلى تحسين علاقاتهم، مع الصين مع شروع بكين في تطبيق سياسات الإصلاح والانفتاح التي انتهجتها في بداية ثمانينيات القرن الماضي، مدفوعين بالتطورات الاقتصادية في جنوب آسيا، والتي لم تحظ بها بلادهم، وفي نفس الوقت هربا من الضغوط الغربية التي كانت تمارسها بريطانيا والولايات المتحدة لإجبار المؤسسة العسكرية على التحول إلى الحكم المدني بكتابة دستور دائم للدولة وبداية المسار الديمقراطي، الأمر الذي لم يتحركوا فيه قيد أنملة إلا بحلول عام 1988 ولم تنفذ مواده إلا منذ خمس سنوات فقط سبقتها تعديلات دستورية تمنح الجيش سلطة عليا على الأحزاب ورئيس الدولة والمستشارة السياسية سو تشي.
جاءت انطلاقة الصين الاقتصادية طوق نجاة لحكم العسكر من جديد، فلم يعد لديهم حاجة في دعم اقتصادي من اليابان، كما في مرحلة الستينيات والسبعينيات، ولا أموال الأمريكيين الذي وجهوا جلّ أموالهم لدعم نظامي ماركوس في الفلبين وسوكارنو في أندونسيا، وتطوير كوريا وسنغافورة وماليزيا ومغازلة الهند التي ارتبطت بروسيا خلال نفس الحقبة التاريخية، مع التخلص من شروطهم المتعلقة بالتخلي عن الحكم وامتيازاتهم الاقتصادية والسياسية.
أصبحت ميانمار صديقة للصين، التي وجدت في حكامها العسكريين شهوة للمال والسلطة، فوقعت معها أولا اتفاقية للتبادل التجاري، تبعها تقديم مساعدات عسكرية ضخمة للجيش، ونفذت الشركات الصينية العاصمة الجديدة للبلاد يانغون الجديدة، وربطت بين الطرق الصينية في جنوب غرب الصين بالممرات الواصلة بين شمال وشرق وغرب ميانمار. استكلمت الصين حلقة المصالح بإنشاء شبكة واسعة من الطرق وخطوط السكك الحديدية ومحطات الكهرباء. واحتفلت الصين مؤخرا بمرور 70عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بزيارة رئيس الصين شي جين بنغ لميانمار، واحتفاله بتدشين خط  «يوننان» للغاز والنفط وميناء غرب ميانمار، ويربط الصين بالمحيط الهندي، خارج ممر مضيق «ملقا» الاستراتيجي الذي تتواجد به قوات أمريكية تراقب المنطقة، بما قلل من اعتماد الصين على المضيق بنحو ثلث الكميات الواردة من الغاز والبترول القادم إليها من الشرق الأوسط. وحصلت ميانمار على دعم صيني قدره نحو 10 مليارات دولار أمريكي في إطار مشاركتها مبادرة  «الحزام والطريق» الذي تستهدف من خلاله الصين تكوين تحالف اقتصادي عالمي، يضم نحو 100 دولة، تسعى بكين إلى ضمها لهذا المشروع في أنحاء العالم.

انتخابات نيابية

مع زيادة الاستثمارات الصينية في ميانمار وعدم تحقيق الاستقرار السياسي في البلاد لفترة طويلة، لم تأت الأموال الصينية بالعوائد التي توقعها العسكر، مع المبالغة في تكلفة المشروعات، فما زالت العاصمة الجديدة، التي أنشأها الصينيون خاوية على عروشها، مع صعوبة التدفقات المالية من الأسواق الدولية الأخرى، واستغلال الصين لوجودها في إنشاء محطات عسكرية للتجسس على الهند وجاراتها. في الوقت نفسه كانت الولايات المتحدة توجه شطرها ناحية المحيط الهادي، وجنوب آسيا في إطار سياسة أوباما التي انتهجها مطلع عام 2011 لمواجهة التوسعات الصينية في المنطقة والعالم. شرع عسكر ميانمار في التفاوض مع الغرب أملا في جذب المزيد من الأموال، والتخلص من مخاطر الوقوع في براثن التنين الصيني شديدة الإحكام. علق العسكر موافقتهم للصين على إنشاء سد «مييتسوني» الذي عرضت الصين تمويله شمال شرق ميانمار بملبغ نحو 3.6 مليار دولار، ووافقوا على عودة المسار الديمقراطي بالإفراج الشرطي عن سو تشي، وإجراء انتخابات نيابية جاءت بها للسلطة. وشكل العسكر تحالفا مع سو تشي مكنهم من إسقاط نحو 6.3 مليار دولار من الدول لصالح اليابان. وحملت سو تشي ملف تخفيف الديون المتراكمة على الدولة لدى مجموعة «نادي باريس» وهو الأمر الذي ارتبط بضرورة تحسين الظروف السياسية أمام المواطنين ومنع المجازر التي يرتكبها العسكر والقادة البوذيين ضد المسلمين في إقليم الروهينجا الذي يسكنه نحو 5 في المئة من تعداد السكان، منذ مئات السنين، ومحاكمة المسؤولين عن هذه المجازر.
تمكن تحالف سو تشي مع المؤسسة العسكرية والزعماء الدينيين، من عرقلة الجهود الدولية في وقف المجازر وإعادة نحو مليون مشرد إلى منازلهم. وعندما زاد الخناق الاقتصادي الغربي على ميانمار لم يجد العسكر من حيلة إلا العودة إلى صديقهم اللدود وهم الصينيون الذين تمكنوا من تحقيق اختراق جديد في إدارة البلاد، مع توقفهم عن ملاحقة متمردي «كاتشين» من البوذيين المحاربين للصين والذين كانوا يتحصنون داخل أراضي ميانمار.
أصبحت لدى سو تشي قناعة بأن الصين توجد على حدود وتخوم ميانمار وأن الولايات المتحدة بعيدة نوعا ما واستكانت لحكم العسكر، هربا من اللوم الغربي وأملا في أن تساهم الصين في إنقاذ البلاد من حالة الفقر المدقع الذي أصبح يلاحق أهلها.
لعبت سو تشي في منطقة العسكر حيث مدت يدها نحو بكين طلبا للمساعدات الاقتصادية، وبتلابيب الغرب دعما لمواجهة الضغوط الدولية في الخارج وقيود المؤسسة العسكرية في الداخل. نالت سو تشي الدعم الصيني المشروط بمصالحها المتعاظمة وتكاليفه الباهظة، وحصلت على وعود غربية بمنحها المزيد من المساعدات المشروطة بعودة الروهينجا وتصحيح المسار الديمقراطي. وعندما شرعت في تنظيم الانتخابات التي شاركت فيها المؤسسة العسكرية بنسبتها المحجوزة لها سلفا وفقا للدستور وقوتها العسكرية الحاضرة أثناء التصويت والاجراءات التنفيذية، أصبح من الواضح أن سو تشي سحبت البساط من تحت أرجل العسكريين.

المذابح ضد المسلمين والأقليات الدينية

تمكنت المستشارة من مهاراتها السياسية، فعلى المستوى المحلي فازت بأغلبية ساحقة في البرلمان، وبناء قواعد شعبية تتفق مع الأغلبية البوذية والشباب الساعين نحو تحديث البلاد وإفلاتها من التخلف وحكم العسكر. أحدثت توازنا استراتيجيا على المستوى الدولي، فلم يتكمن الغرب من إدانتها في فلم يتكمن الغرب من إدانتها في المذابح ضد المسلمين والأقليات الدينية الأخرى والأقليات الدينية الأخرى، بينما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على قادة العسكر الذين اشرفوا على تلك المجازر، مع تهديد بمزيد من العقوبات ضد المؤسسة العسكرية وشركاتها. وكانت المستشارة قد واصلت التعاون مع الصين في تحقيق الكثير من المشروعات واستلام المزيد من القروض، والحصول على الدعم السياسي من بكين رغم مشاركة حكومتها في التصويت ضد بكين مع 50 دولة أخرى، تقودهم الولايات المتحدة بإدانة الصين في ارتكاب تطهير عرقي ضد أقلية اليوغور المسلمين في شمال غرب الصين.
أيقن العسكريون أن صديقتهم أتقنت اللعب مع الذئاب، وأصبح اليوم الذي ستطيح بهم أو تستقوي عليهم أقرب مما يظنون، فاستعانوا بخبرتهم في قراءة المستقبل الجيوسياسي بإزاحتها من الطريق، مستخدمين نفس المنطق الذي حكموا به البلاد منذ فجر الاستقلال. انقلب السحر على الساحر، حيث حصل العسكريون على ما يشبه الضوء الأخضر من الصين أثناء التجهيز لانقلابهم، حيث قابل الجنرال مين أونغ هلاينغ قائد الانقلاب وزير الخارجية وعضو المكتب السياسي للحكومة الصينية، الذي زار ميانمار قبل أسابيع من الانقلاب. فخرجت تصريحات الخارجية الصينية عقب الانقلاب كاشفة عن دعم غير مباشر له، برفضها تسميته بمسماه، وداعية المجتمع الدولي إلى ترك جمهورية ميانمار تحل مشاكلها الداخلية بنفسها. وقالت وزارة الخارجية الصينية: «ميانمار جارة صديقة ونأمل أن تتمكن جميع الأطراف من التعامل بشكل مناسب مع خلافاتهم، بموجب الدستور والقانون» . ووصفت الخارجية الصينية الانقلاب بأنه «تعديل وزاري كبير».
على الطرف الآخر لم تتحرك الولايات المتحدة لاتخاذ إجراءات ساخنة لمواجهة الانقلاب، واكتفت إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جون بايدن بتوجيه التهديدات كوسيلة ضغط ضد القادة العسكريين، بمطالبتهم بمراجعة «أفعالهم غير الديمقراطية» ملوّحة بتوسيع العقوبات الأمريكية ضد كبار أعضاء الجيش ومؤسساته الاقتصادية.
بدا من الموقفين الأمريكي والصيني أن الأول يسعى للضغط من أجل التفاوض على تغيير موقف العسكر دون تهديد وجودهم أو مستقبلهم في إدارة الدولة، مع حفاظهم على علاقة مع المستشارة التي تحالفت لسنوات مع مفترسي الديمقراطية والقوى الدينية الرجعية. بينما حرص الصينيون كعادتهم على دعم القوى العسكرية باعتبارها النظام المهيمن على إدارة الدولة بعيدا عن لعبة الديمقراطية التي تخشى انتشارها على حدودها، فهي تعلم مدى خطورتها على مستقبل المنطقة مع قيامها بوأد الديمقراطية في هونغ كونغ القريبة منها ورغبتها في دعم الأنظمة السياسية المركزية التي تحارب ـ أو لا تهتم على الأقل ـ برامج الإصلاح السياسي.
بين هذين الموقفين يظل شعب ميانمار بأغلبيته التي منحها لزعيمته حائرا بين الخروج لمواجهة قوة عسكرية غاشمة، وزعيمة فقدت كثيرا من دعمها الدولي، تتلحف بآمال وقليل من القوة المادية والإعلامية والجماهير القادرة على تحويل المسار السياسي في البلاد، لكسر شوكة العسكر الذين يتحكمون في مقدراتهم  منذ حرب الاستقلال. سيسقط من الشعب آخرون في سبيل الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية وهي نفس الشعارات التي طالما ما داعبت شعوب الربيع العربي وتداعب الآن شباب روسيا وروسيا البيضاء وغيرهم، ولكن ستظل الكلمة الحاسمة إلى متى ستظل يد العسكر قوية ومتصاعدة في مواجهة المتظاهرين؟ وإلى متى سيتحمل الشعب تكلفة حصوله على الحرية بعيداعن صفقات العسكر والساسة ورجال الدين من جديد؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول alaa:

    كل هؤلآء قتلة .. يقتلون المسلمين قاتلهم الله.. حسبنا الله ونعم الوكيل .

إشترك في قائمتنا البريدية