التسجيل لون من الكتابة السردية غايته إبراز الوقائع بطريقة مقنعة في شكل ريبورتاجات صحافية، أو وقائعيات موثقة. وعدّ رينيه ويليك الأدب التسجيلي أدباً يستحق الدراسة كوثيقة اجتماعية لتاريخ الذوق، سماه (ما تحت الأدب) وهو يكتب بدوافع إنسانية مقنعة، يختلف عن غيره من صنوف الأدب الأخرى الذي تسود فيه الوظيفة الجمالية.
وفي السرد التسجيلي يكون الحدث هو المحور، وفي تضاعيف الحدث تأتي الشخصيات، وهي واقعة تحت ضغط الواقع. وتبرز خطورة التسجيل في أن السارد لا يسجل إلا ما يراه صالحا للتسجيل، غير ملزم بتقديم تفسير معين أو انتقاد أمر ما، وإنما هو حدث تنظم حبكته تنظيما يعمق الواقع الموضوعي مخلِصا له، ويجعل العناصر السردية تابعة لهذا الحدث منضوية في إطاره.
وأولوية الحدث هي التي تجعلنا نصف السرد بالتسجيلية، كونها تسحب الإخبار الواقعي إلى منطقة التخييل السردي، مركزة على الحدث لا في تفاصيله الدقيقة، بل تلتقط ما يفيد الثيمة في بعدها الموضوعي فقط غير مهتمة بالبعد الفني؛ إلا إذا أتى عرضا في سياق البعد الموضوعي. ومن سمات التسجيلية أن الحدث هو الذي يوجه الفواعل السردية كلها، صوتا وحركة زمانا ومكانا، فتكون دينامية الشخصية منساقة زمانيا ومتحركة مكانيا. ويحتل المضمون الأولوية في التسجيل، من خلال تحشيد الأحداث، ولا فرق بين أن تكون الأحداث حافلة بلحظة مأزومة، أو منطوية على عاطفة تتطور ببعض الدرامية وشيء من المفارقة.
وقد تفهم التسجيلية على أنها الجمع بين الواقعية الموضوعية والواقعية النقدية، واختلاط الاتجاه الواقعي بالاتجاه الفني حسب عمر الطالب الذي حدد للتسجيلية مميزات تجعلها رديفة للواقعية، كالاتسام بالموضوعية الكاملة والعرض على أرض محايدة، وذات الكاتب تختفي وراءها ولا تظهر إلا إذا أراد الكاتب أن يكون واعظا، أو معلما، وفيها تتسع لوحات الإنشاء والوصف وتفصيلات الواقع ووقائعه وتناقضاته ومفاجآته، مع الوصف المسهب للبيئة الطبيعية.
وإذا كان كلام الطالب حول التسجيلية محصورا في الرواية العراقية منذ نشأتها؛ فإنه بتعداده لسمات التسجيلية انتهى إلى نفي صلة الرواية التسجيلية بالإبداع الفني، «إنني أرى في الرواية التسجيلية العراقية أن المطابقة الفوتوغرافية بين الفن والواقع، تشويه لجوهر العملية الخالقة في الإبداع الفني، الذي يستلهم الواقع حقا، ولكنه لا يصوره، بل يفسره ولا يغيره أيضا وإنما يتفاعل معه تفاعلا غاية في التعقيد» وهذا الرأي في التسجيلية بالتأكيد ينطبق على أي جنس سردي يتصف بها، ومن ثم نعترض بافتراض أن لو كانت التسجيلية هي نقل الواقع نقلا فوتوغرافيا، لصارت شكلا من أشكال الواقعية وليست مختلفة عنها. ولأدوين موير رؤى مهمة تتعلق بالتسجيلية، بوصفها تصورا عقلانيا مبنيا على فهم نظري لفكرة التعميم لا التخصيص الذي يستوجب مصاحبة الزمان المكان، وبالعكس من دون أن تكون لأحدهما غلبة على الآخر. وأن تكون في المباشرة اللامباشرة، وفي التعميم التخصيص، فيبدو كل شيء خاصا كما يبدو عاما في الوقت نفسه، والعام إذا ما تحقق ينتهي إلى وضع طابعه على كل الأجزاء متخللا كل الشكل أو الحركة الكاملة كلها. ومثّل موير على التسجيلية برواية «الحرب والسلام» وكيف أن تولستوي قدّم صورة واضحة كاملة وعمومية عن الحياة في الزمان والمكان، مؤكدا على أن الرواية التسجيلية هي التي فيها القدر بالنسبة للروائي إدراك منظم والمجتمع إدراك منظم في درجة تالية له، والحياة ليست منظمة قط، لأنها تتضمن كل شيء. والأحداث تقع داخل إطار محدد كل التحديد، فيه تسير الأحداث سيرا صارما ولا تخضع لمنطق خاص أو نظام معين.
بمعنى أن التسجيلية منهج سردي يجعل الحدث اليومي الذي يبدو عاديا من دون كلية، ومختلطا بالزمكانية إلى حدث سردي فيه كلية وتنظيم زمكاني محدد وواضح، وهذه اليومية في صيغتها الكلية والنظامية نجدها في الرواية الواقعية، التي كل يوم فيها عادي، لأنه عام لا تخصيص فيه لكن عمومية سرد حدث ما من أحداثها هي التي تجعل الرواية كالحياة تتقدم بشكل طبيعي في ميلادها ونموها ونهايتها وتكرارها الأبدي فلا علاقات مركبة، ولا أهمية خاصة للزمان، أو تركيز واضح على المكان. ولأن الحدث يحتل الأولوية عند الكاتب مصعدا إياه بانتظام، فلا فرق بعد ذلك إن كان في القصة فاعل سردي واحد أو فواعل أخرى مساندة وثانوية.
ومن الطبيعي بعد ذلك أن لا نجد في الحبكة تطورا منطقيا صارما؛ بل هو تسلسل مخلخل لبعض الأحداث التي ترتبط بعضها ببعض. والسبب كما يذهب أدوين موير هو أن الزمن يعرض كما يدركه العقل الإنساني بيقينية من دون أن تتدخل المصادفة والشك فيه. ولأن السارد لا يبني حدثا، إنما يرسم صورة للقدر الذي لا يمكن إدراكه، بل يحسه المرء بالإيمان لأنه خفي وسام وغير دنيوي. ومن هنا يمكن عد القصص الدينية التي موضوعها الأنبياء والخلق والآخرة، قصصاً تسجيلية نظرا لمفهومها التسليمي للقدر.
وإذ كانت التسجيلية في الرواية مستحسنة، وذات رؤية جمالية؛ فإن توظيفها في القصة القصيرة غير متيسر، نظراً لما تنطوي عليه التسجيلية من مخاطر كثيرة. في مقدمتها ما تنماز به هذه القصة من الاختزال والتكثيف، الذي يجعل أمر التركيز على عمومية الحدث أمراً معقداً، وبسببه لا ينجو القاص من الوقوع في التمحل والمغالاة والسطحية في كثير من الأحيان.
وعادة ما يغني الاهتمام بالتعميم في تسجيل الحدث عن الانغماس في تسجيل دينامية الشخصية وسلبية مواقفها، وهي تعاني العزلة وضغوط الواقع الجديد، الذي يفرض عليها أن تتأقلم معه، سواء أكانت هذه الشخصية جندياً عادياً أم ضابطاً آمراً.
أما إذا كانت هذه القصة قصة حرب؛ فإن هذا التركيز على تسجيل الحدث اليومي سيضحي بالتعميم في سبيل التخصيص، بسبب ما تتضمنه وتيرة الحدث اليومي من صور قاسية ومشاهد دموية مكانها ساحة المعركة وفاعلها السردي هو الجندي، الذي يصور في هذه القصة تصويرا متشابها، فهو إما رابض بصمود في جحيم السواتر، مختلس النظر ومسترق السمع متوجس من مفاجآت غير متوقعة، أو مجابه الشر ببسالة وشجاعة غير مكترث بالقنابل ولا مبال بالرصاص، فضلا عن كون التسجيلية تسمح للقاص بتجنب الغوص في دواخل الشخصية المحاربة.
وتزداد صعوبة التسجيل في قصة الحرب، كونها تريد أن تكون تسجيلية لكنها لا تملك مواصفات التسجيل، كأن تحاول محورة الحدث اليومي ومركزته، بينما تظل الحبكة مفككة أو تريد من الحدث أن يكون كلياً وهي تتعمق في تفصيل معين من التفاصيل أو تنشغل عنه بالشخصية القصصية لا من وضعها الداخلي، وما تكتنفه من تداعيات نفسية، بل من وضعها الخارجي.
وعادة ما يغني الاهتمام بالتعميم في تسجيل الحدث عن الانغماس في تسجيل دينامية الشخصية وسلبية مواقفها، وهي تعاني العزلة وضغوط الواقع الجديد، الذي يفرض عليها أن تتأقلم معه، سواء أكانت هذه الشخصية جندياً عادياً أم ضابطاً آمراً. وكثيرا ما تعمد قصة الحرب إلى تسجيل هذه الدينامية من داخل الحدث السردي، لا من داخل الشخصية كأن تقارن بين زمنين: زمن مدني بسيط طبيعي، وآخر معقد وحربي وغير منطقي سيفضي بالشخصية حتما إلى التأزم وهي تعايش كابوساً مرعباً، وتعاني الغربة والوحدة والانحشار في نفق مظلم لا فكاك منه. وهو ما يحاذر القاص من المضي فيه.
ولأن المطلوب من كتّاب قصة الحرب تدوين وقائع حدث ينبغي أن يسجل الدوامية والوطنية، صار لزاما معايشة الواقع الحربي معايشة ميدانية، لأجل الإلمام بكل تفاصيله، مع اتخاذ التسجيل منهجاً في الكتابة القصصية يلائم سرعة الأحداث، ويجعل القاص مواكباً كل متغيرات الواقع الصغيرة والكبيرة. وهو ما لا تتيحه أشكال السرد الواقعي الأخرى التي تحتاج إلى التأني في معالجة الواقع معالجة ينطلق فيها الفكر تخييلياً.
وليست الخبرة التي يكتسبها القاص من جراء معايشة واقع مليء بالشرور والدماء والجثث، مرعبة وخطيرة فقط؛ بل سريعة ومتغيرة بدرجة كبيرة فلا تتيح من شدة هولها فرصة للكاتب أن يراجع نفسه، ويتأمل تجربته بهدوء، مستوعبا الحدث الذي خَبِره لا بكلية، وإنما بتجزيئية فيها يقدر على التقاط تفاصيل ذلك الحدث الذي لا تخلو طارئيته من المباشرة، التي قد تنسي الكاتب أحيانا جمالية الشكل، مبقية إياه تحت ضغط المحتوى الواقعي لثيمة الحرب. وأحيانا آخر يلتقط حدثاً فريداً أو فكرة مهمة تنوه بنفسها عن هولها إنسانياً، لكنه يحيد عن مواصلتها مفرغا إياها مما يمكن أن يتولد عنها سيكولوجياً.
وبمرور الوقت غدت قصة الحرب في الأغلب تسجيلية، في جانبيها البنائي والثيماتي، لكن هذه التسجيلية كانت لها مزالقها منها، اختلاطها بالواقعية التقليدية، ومنها ضعف المعالجة السردية للواقع وسطحيتها الفنية، التي تجعل القصة تقريرية. وإذا افترضنا أن القاص ظل حريصاً على تسجيل الواقع الموضوعي في قصصه؛ فإنه في بعض الدلالات بقي مجانبا الشكل غير مهتم به، والسبب عدم توفر أي فرصة في التأني وهو يسجل تجربته، معايشا المعاناة، وطارحا رؤياه للعالم تحت أزيز الرصاص ودوي القذائف ووقع الصواريخ.
كاتبة وأكاديمية عراقية
في نفس العدد من جريدة القدس العربي (د نادية هناوي) من العراق نشرت مقال تحت عنوان (التسجيل والتسجيلية)، وسبحان الله، رأي الجريدة صدر تحت عنوان (البابا والحج إلى «مهد الحضارة» العراقي)،
ولكن على أرض الواقع، العراق أصبح مهد الحضارات الإنسانية بسبب مفهوم (التدوين) أصلاً، مثل وادي النيل، مثله مثل الصين،
في تدوين أول لغة أبجدية (اللغة المسمارية (السومرية))، وتدوين أول لغة قانون (مسلّة حمورابي)، في وادي النيل كان (تدوين) اللغة الصورية (الهيروغليفية)، بينما في الصين كان (تدوين) لغة الأشكال (الماندرين)،