ازداد الحديث في الآونة الأخيرة، وبالذات، عند دخول جو بايدن البيت الأبيض على رأس الإدارة الأمريكية؛ عن أن المنطقة العربية لا تقع ضمن أولويات الإدارة الجديدة، ويذهب آخرون أبعد من هذا؛ بأن أمريكا تخطط للانسحاب التدريجي منها، أو أنها تريد أن تخفف من تواجدها في المنطقة؛ ويرجعون السبب في هذا التحول، إلى أن الولايات المتحدة، منشغلة بأمور أخرى أكثر أهمية من المنطقة العربية، أو منطقة الشرق الأوسط.
ولنأخذ العراق نموذجا؛ يقول الكثير من المحللين وكتاب الرأي؛ إن أمريكا غير مهتمة بالعراق، وهو لا يشكل أي أهمية لها. هذا الرأي وغيره الكثير، يتعارض تماما مع واقع ما يجري على الأرض، من خطط أمريكية، سواء ما تم تنفيذها، أو ما تنتظر الظرف والبيئة السياسية المحلية والإقليمية والدولية المناسبة للتنفيذ. العراق يشكل قلب محور الحركة في الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية، وجوارها؛ الذي تدور حوله جميع أذرع الاستراتيجية الأمريكية، للأسباب والدوافع التالية، وهي أسباب ودوافع جيوبوليتيكية:
أولا؛ العراق كما قلنا، هو قلب منطقة الشرق الأوسط، وهو موقع مهم من الناحية الاستراتيجية لأي قوى عظمى تريد أو تخطط لبسط سيطرتها على المنطقة بأكملها، من خلال أو بواسطة قواعد عسكرية ثابتة على أرضه.
ثانيا؛ العراق يمتلك في باطن أرضه أكبر خزين عالمي من النفط والغاز، وهما مادتان استراتيجيتان مهما قيل ويقال خلاف هذا. ربما الولايات المتحدة لا تحتاج إلى النفط في الوقت الحاضر أو حتى في المستقبل، بفعل استثمارها في النفط الصخري، حين تكون الأسعار مرتفعة وملائمة تجاريا. لكن النفط والغاز، مادتان أساسيتان في صراع النفوذ بين القوى العظمى وعلى وجه الحصر بين أمريكا والصين، حاليا بدرجة أقل، وبدرجة كبيرة جدا في المستقبل، أو في الأمد المتوسط من هذا المستقبل.
العراق موقع مهم من الناحية الاستراتيجية لأي قوى عظمى تريد أو تخطط لبسط سيطرتها على المنطقة بأكملها
ثالثا؛ أمن إسرائيل المستدام، الذي يدخل العراق كعنصر مركزي، في استدامته، وهذا لا يمكن له أن يتحقق إلا ببسط السيطرة الأمريكية عليه بصورة أو بأخرى، أي تحييده، بإخراجه عن الصراع العربي الإسرائيلي.
رابعا؛ بناية السفارة الأمريكية، وهي أكبر سفارة أمريكية في العالم، حتى إنها، أكبر من أي سفارة أمريكية في دول الاتحاد الأوروبي. وهي عبارة عن مدينة مكتفية ذاتيا داخل مدينة بغداد العاصمة، وبدأ البناء فيها بعد الاحتلال مباشرة، واستغرق العمل لإتمام بنائها عدة سنوات. أمريكا إذ تبني سفارة بهذا الحجم وبهذه المواصفات؛ ليس في نيتها وتفكيرها وخططها؛ أن لا يكون العراق جزءا مهما جدا في استراتيجيتها الكونية في المنطقة العربية..
خامسا؛ أمريكا لها قواعد ومراكز تواجد وانتشار في العراق، منتشرة على أرضه، في الشمال والوسط والجنوب، وفي العاصمة بغداد؛ في كردستان العراق، على مقربة من الحدود العراقية الإيرانية، وفي مطار بغداد، وفي قاعدة عين الأسد، وفي ذي قار، وفي H1. الولايات المتحدة، إذ تبني هذا العدد من القواعد، ومراكز الانتشار، ليس في وارد مشاريعها المستقبلية، المغادرة، إلا في حالة واحدة أن تجبر على المغادرة..
إن جميع ما أوردناه؛ يؤكد، من دون أدنى شك؛ أن العراق يقع في صلب الاهتمام والاستراتيجية الكونية الأمريكية. الحديث عن أن أمريكا بايدن غير مهتمة بالعراق؛ ضحك على العقول لإظهارها وكأنها لم تخطط لاحتلاله، على مدى عقود، ولأهداف استعمارية، وهي محاولة لتجميل صورتها، أو أنها قامت بغزو العراق لخطأ في التقدير والحساب، وليس تنفيذا، لمخطط أُعِد مسبقا ولزمن طويل قبل وقوعه، أو قبل القيام بتنفيذه على الأرض. المنطقة العربية، والعراق هو الجزء المهم منها؛ تشكل بمجموعها قاعدة استراتيجية لا غنى عنها بأي شكل وبأي صورة من الصور، في ظل احتدام الصراع بين القوى العظمى للسيطرة على مقدرات دول العالم الثالث، بفعل حيازة المنطقة العربية على عناصر القدرة والقوة التي تكتنزهما في باطن أرضها، وممرات الملاحة الدولية، وطرق المواصلات الأخرى، كونها تقع في موقع يتوسط القارات. وننقل هنا بالنص ما قاله ستولتنبرغ الأمين العام لحلف الناتو، في مؤتمر ميونخ للأمن إنه «يتعين على أوروبا وأمريكا الشمالية الدفاع عن النظام المستند إلى قواعد دولية، ويتم تحديه من جانب قوى استبدادية» (يقصد روسيا والصين). وذكر أن «الصين وروسيا تحاولان إعادة كتاب قواعد الطريق من أجل مصالحهما الخاصة بهما». وأضاف أنه بسبب ذلك يتعين على الناتو تعزيز العلاقات مع شركاء مثل أستراليا واليابان، والمضي قدما في تحالفات جديدة حول العالم. وشدد على أنه «عبر تحرك مشترك فقط، يمكننا أن نشجع آخرين على القيام بدور، وفقا للقواعد». في خضم هذا الصراع المحتدم، هل يمكن لأمريكا، أو لأوروبا؛ التخلي عن المنطقة العربية، (والعراق في القلب منها) وتركها للقوتين العظميين، الصين وروسيا، والمنطقة العربية على ما هي عليه؛ من امتلاك جميع عوامل هذه القوة والقدرة، الجواب هنا وبكل وضوح، أن هذا محض غش وحرف للوقائع، والتغطية على مشاريع الهيمنة الغربية، على مقدرات المنطقة العربية ولعقود مقبلة، ومن أهمها كما قلنا؛ العراق الذي يمتلك ثاني أكبر احتياطي للطاقة، ويقع في قلب منطقة الشرق الأوسط. عليه، فإن القول إن أمريكا غير مهتمة بالعراق، وهي في وارد تركه لمصيره، قول إن كان بحسن نية فهو قول يجانب الحقيقة، أو أن من يقول به، لم يوفق في القراءة العميقة لمشهد الصراع بين القوى العظمى على مناطق النفوذ، والمجالات الحيوية على ظهر المعمورة، وللمشاريع الأمريكية الصهيونية؛ للاستحواذ على المنطقة العربية ومنها العراق، وجعلهما، مجال النفوذ الحيوي الاستراتيجي لأمريكا والكيان الصهيوني. في هذا السياق، وفي ظل الضربات المتلاحقة على قواعدها، على أرض العراق، لإجبارها على المغادرة، ولقرار البرلمان العراقي، الذي طلب من الحكومة العراقية، العمل على إجلاء القوات الأجنبية من أرض الوطن؛ وللتغطية على وجودها في البلد، بتغليفه بثوب دولي، أو وهو الأصح بثوب حلف الناتو، الذي تشكل أمريكا الثقل المركزي فيه، على صعيد عديد الجنود والضباط، والقيادة والأهداف. على مسارات، هذا التوجه؛ أعلن الناتو، أنه سوف يزيد من قواته لأغراض التدرب والاستشارة (وهي فرية أخرى) من 500 عنصر إلى أربعة آلاف عنصر، بناء على طلب الحكومة العراقية. إن هذه العملية، هي لإضافة الصبغة الشرعية والقانونية للوجود الأمريكي على أرض العراق، الذي هو وبكل تأكيد لمصالح جيواستراتيجية غربية وصهيونية، بزعامة أمريكا، تدخل في صلب الصراع والتنافس الدولي بين القوى العظمى على هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية من العالم.
كاتب عراقي