باختصار، الصراع بين الولايات المتحدة وإيران «الخمينية» طويل جداً. الحديث هنا عن أيديولوجيتين متناقضتين إلى حدود التصادم. في الأساس، قامت «ثورة الخميني» الدينية على قاعدة العداء لأمريكا. وحتى لو طغت المصالح المشتركة للطرفين، وتخطى التصادم طبيعية النظام، فثمة اختلاف عميق في التكوين العقائدي.
التغيير المفاهيمي خطر على النظام الذي يحرسه بقوة الولي الفقيه، «العَالِم بأمور زمانه» في غيبة الإمام المهدي المنتظر. يقول لصيقون بـ»محور إيران» إن القائد الثاني للثورة علي خامنئي، الذي لا يمكنه فكرياً الوثوق بأمريكا والغرب، يحمل نظريات القضاء على ما يُسمى تأثّر إيران بالحضارة الغربية كموروث تاريخي من زمن الشاه، والاستدارة نحو الشرق، والاقتصاد المقَاوِم، وهي نظريات ستستظل أي اتفاقات أو تفاهمات يمكن لإيران أن تصيغها مع الولايات المتحدة، ولا سيما بعد التجربة المريرة مع ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب.
العودة إلى الاتفاق النووي هي مسألة وقت، قد يقصر أو يطول. والتوقعات تذهب إلى مدى زمني ما بين صيف 2021 وصيف 2022 وسط قرار إيراني جازم باللعب على حافة الهاوية لحين الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وعليه سيشهد طريق التفاوض تصعيداً مدروساً في ساحات نفوذ طهران من قبل أذرعها العسكرية، على غرار ما يحصل في اليمن والعراق راهناً، رغم رسائل الودّ والإغراء التي تُرسلها إدارة جو بايدن.
المحللون المرتبطون بالمحور الإيراني يرون أن «أقصى ما يطمح إليه الإيرانيون مع أمريكا، بالتفسير السياسي الدقيق، هو ربط نزاع؛ فالاتفاق النووي أساساً كان ربط نزاع». استندَ الـمُسَـوِّغ الأمريكي – الغربي إلى الحاجة لاحتواء إيران لمنعها من الحصول على القنبلة، وارتكز الـمُسَـوِّغ الإيراني على الحاجة لرفع العقوبات وتنمية الاقتصاد، ولا يزال الـمُسَـوِّغان صالحين للعودة إلى الاتفاق. غير أن طهران لن تذهب إلى فتح اقتصادها للغرب من دون حسابات متأنية لأنها تُدرك في العمق أن الغرب يلتفُّ في الأداة من دون أن يُغيّـرَ الهدف المتمثل، في الحد الأدنى، بـ»ترويض» النظام، وتقويضه من الداخل، في الحد الأقصى. فهي تدرك خطر «تسلّل» الثقافة الغربية إلى الداخل الإيراني من بوابة «القوة الناعمة».
لم يُنظر كثيرون إلى الاتفاق النووي الإيراني عند توقيعه في 2015 بوصفه اتفاقاً على برنامج وأنشطة نووية، بل تأسيساً لجغرافيا سياسية جديدة وإعادة ترتيب لموازين القوى في المنطقة، ورسماً لتحالفات سياسية واقتصادية فيها. بالأمس، أعلن بايدن في «وثيقة استراتيجية الأمن القومي المؤقتة» أن الوجود العسكري الأقوى للولايات المتحدة سيكون في منطقة المحيط الهادئ وأوروبا، بينما سيكون في الشرق الأوسط بما يكفي لتلبية احتياجات معيّنة. ولتحقيق ذلك، لا بدّ من تبريد مع طهران عبر اتفاق يُؤمّن، في العمق، هدف واشنطن الأول في الشرق الأوسط وعنوانه حماية إسرائيل التي هي «الغدّة السرطانية» الواجب انتزاعها، وفق عقيدة الخميني.
الطرفان عائدان إلى الاتفاق النووي. يُسوّق أمريكياً على أن الاتفاق النووي سيفتحُ الباب للولوج إلى ملف الصواريخ الباليستية. لكن درب التفاهمات على الصواريخ سيكون طويلاً وشاقاً ومعقداً، وسيأخذ سنوات طويلة جداً، ذلك أن طهران لن تتنازل بسهولة عن ذراعها الصاروخية التي أمّنت لها توازناً إزاء التفوّق الجوي لـ»الأعداء» وتُشكّل عامل الردع ومصدر القوة لأذرعها العسكرية في ساحات الصراع، لا بل إنها عملت على تطويرها تحت مسمّى «الصواريخ الدقيقة» التي شكّلت تحولاً استراتيجياً، وأمامها أشواط عديدة لتقطعها في هذا المجال. يتمّ الحديث عن مزيدٍ من تطوير تقنيات المسيّرات المفخخة والصواريخ المجنّحة، وما ستحمله من رؤوس متفجرة بوقود صلب أو سائل. تلك التقنيات استُخدمت في استهداف منشأتين نفطيتين لشركة «أرامكو» في المملكة العربية السعودية في أيلول/سبتمبر 2019 استهدافٌ تبنّت جماعة «الحوثي» في اليمن إعلان تنفيذه. وأعلن الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصر الله أن «المقاومة» – الذراع العسكرية الإيرانية في لبنان – باتت تمتلك الصواريخ الدقيقة. هذه الذراع الصاروخية الإيرانية هي أهم من القنبلة النووية. القنبلة تُصنع كي لا تُستخدم، لكن تلك الصواريخ تُصنع وتُستخدم وتقلب موازين القوى استراتيجياً.
النفوذ الإقليمي الإيراني
إدارة بايدن تنطلقُ من أن العودة إلى الاتفاق النووي ستكون مقدمة لبحث ملف النفوذ الإقليمي الإيراني. وهنا تبدو إمكانات التوصل إلى «تفاهمات متفرعة» من «ملف النفوذ» مفتوحة. من وجهة نظر «المحور» قد يكون اليمن ساحة الاختبار للنوايا بتنصيب «الحوثي» لاعباً أقوى، ولكن هناك أيضاً ساحات اختبار أخرى في لبنان عبر تكريس سلطة «حزب الله» وفي سوريا بضمان عودة بشار الأسد واستعادة سلطته على الجغرافيا السورية، وفي العراق من خلال تعزيز قوة الجماعات المحسوبة عليها كصاحبة التأثير الأكبر ضمن الواقع الشيعي، في مسعى دؤوب منها لإضعاف مرجعية النجف تحقيقاً لمشروعها بقيادة الشيعة في العالم، والنطق باسمهم كمرجعية أولى وأخيرة.
ومهما تكن النتائج المتوخاة من العودة إلى الاتفاق النووي، فإن الإيرانيين يُراهنون على باعهم الطويل وصبرهم، إلى حد أنهم يتوقعون أن تأتي وتذهب إدارات أمريكية عدّة قبل الانتهاء من التسويات النابعة من تسوية النووي. الخطوة الأسرع ستكون العودة إلى اتفاق 2015 وما بعدها مسألة أخرى.
لعبة الكباش وعضّ الأصابع ستتواصل. لدى إيران مفهوم راسخ بأن «الصراع الكبير» سيتسمر لأجيال، وأنها ستُوظّف، من موقعها «الجيوسياسي» التناقضات وتُسخّرها لمصلحتها. يريدُ المرشد الإيراني «أن تلتقطَ بلاده الفرصة الأمريكية مع بايدن لكن ليس على حساب التحالف مع الصين وروسيا، الذي يدخل في صلب رؤيته الاستراتيجية للدور المرسوم أن تلعبه الجمهورية الإسلامية الإيرانية ونفوذها وتأثيرها كلاعب من اللاعبين الكبار».
ويريدُ الإصلاحيون بعضاً من الانفتاح، لكن المعطيات لا تشي بأن لديهم حظوظاً في الانتخابات الرئاسية في حزيران/يونيو المقبل. على العكس، يتمّ الرهان على أن يقود المحافظون المرحلة المقبلة بما يُشكّل تحصيناً قوياً للنظام في وجه أي محاولات لاستخدام الغرب الانفتاح الاقتصادي في التأثير على المشهد الإيراني الداخلي. بالطبع ستخفت أصوات إدارة الديمقراطيين في الحديث عن القيم الديمقراطية، وعن حقوق الإنسان، وحرية التعبير في إيران مهما وصلت حدود القمع، ومهما كان توق الإيرانيين إلى الحرية.
ستكون المنطقة أمام إعادة ترتيب. وهذه تشتملُ على درجات ومستويات تتراوح بين ربط النزاع وتوزيع المصالح والصفقة الكبرى. لا أحد يتوهم أننا أمام عودة إلى صراع ما بين القطبين الشرقي والغربي ونهائيات الصفقات الكبرى لتقسيم العالم. جل ما يمكن الوصول إليه هو «ربط نزاع» قد يدوم لأربع سنوات وربما أكثر، وقد يكون مفتوحاً للانتقال إلى مستوى جديد من دون أن يكون محسوماً كفّة من ستكون الراجحة.
اقتباس
العودة إلى الاتفاق النووي هي مسألة وقت