الذخيرة المعلوماتية العربية

حجم الخط
2

إذا كانت الإنسانيات الرقمية تزاوج بين العلوم الإنسانية والاجتماعية والتكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل، بهدف إعادة تشكيل العلاقة بين المعلومات وتدبيرها وتنظيمها وتصنيفها، من خلال عمليات الفهرسة، والعمل على جعلها قابلة للاستعمال والتواصل والاستكشاف، فإن هذه الأهداف ليست جديدة لأن هذا المطمح له تاريخ طويل. لذلك نجد أوليفيي لو دوف يميز في كتابه «الإنسانيات الرقمية: تاريخ وتطور» (2018)، بين مكان المعرفة (Lieu du savoir)، أي المكان الذي توجد فيه المعرفة، مثل المكتبات من جهة، و«أوساط المعرفة» (de savoir milieux les)، ويتعلق الأمر بالمحيط العلمي الذي يتواصل حول المعلومات المجمعة، والمنشآت، التي تعمل على الاشتغال بها وتصنيفها، من جهة أخرى. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك «الوسيط الثقافي»، الذي كان ينتقل إلى مكان المعرفة، وينخرط بعد ذلك في نطاق الوسط الثقافي، للمساهمة في إتاحة الظروف الملائمة لتقديم المعلومة، والعمل على تحويلها إلى معرفة.
يسمح لنا هذا التأطير بربط العمل على المعلومات بالمكان، والوسيط والوسط في علاقتهم بالمعرفة، بغض النظر عن التقنيات الموظفة، وهل هي حديثة أو قديمة.
يتبين لنا من خلال هذا الإطار إذا ما أردنا الانطلاق منه للنظر في ما سميناه «المدونة العربية الكبرى»، أن العرب انشغلوا بالذخيرة المعلوماتية وفق ما كانت تمليه عليهم ضرورة توفير المعلومات، عبر جمعها وتصنيفها وجعلها قابلة للتداول على نطاق واسع، منذ أن تشكلت الدولة العربية الإسلامية، وظل هذا مستمرا حتى في اللحظات التي تراجع فيه الحضور العربي. لقد ظهر الوسيط الثقافي منذ المرحلة الشفاهية، ممثلا في «الراوي» الذي كان يلازم منتج المعرفة (الشعر مثلا)، وتطور مع مرحلة الكتابة حين صار يشد الرحال لتحصيل المادة المراد جمعها وتدقيقها ومقارنتها من مكانها في البوادي والقرى، ليتم العمل على ترتيبها وتصنيفها والتفكير فيها من خلال الوسط الثقافي، الذي تشكل مع الدواوين والمدارس والمجالس العلمية. وما وصلنا مما ندرجه في نطاق ما نسميه «التراث العربي ـ الإسلامي»، وليد هذه المجهودات ما قبل الرقمية، وعلينا استكمالها بجعلها متلائمة، بما تتيحه لنا مكتسبات الثورة الرقمية.

انتقل الوسيط الثقافي العربي، خلال هذه الحقب الثلاث من «الراوي» إلى «المؤلف» إلى «الشارح». ومنذ عصر النهضة إلى أواسط القرن الماضي سيبرز «المحقق»، الذي ينفض الغبار عن بعض جوانب تلك الذخيرة المعلوماتية، بهدف جعلها قابلة للقراءة والتحليل.

إذا لم نستوعب جيدا وبعمق المجهودات التي بذلت في تاريخ الثقافة العربية من أجل تمكيننا، مما وصلنا من تراث قاوم كل كوارث الزمن، لا يمكننا أن نسهم في إعادة قراءته وتحويله بما يتلاءم مع الثورة الرقمية. ولعل ذلك يمرّ عبر تغيير نظرتنا إليه من جهة، وإعادة قراءة عمليات تشكله وتطوره من منظور مختلف، عما اشتغلنا عليه منذ عصر النهضة إلى الآن.
إن الانطلاق من تجديد علاقتنا بتراثنا يمرّ أولا: عبر التعامل معه كمدونة كبرى شاملة. ويفرض علينا هذا ثانيا: تجاوز التمييزات الثنائية، إيجابيا أو سلبيا، تقدميا أو رجعيا، عقليا أو خرافيا ومقدسا أو مدنسا. وثالثا من خلال تجاوز تصنيفها ضمن العصور الوسطى تبعا للتأريخ الغربي، ورابعا من التخلي عن تقسيمها حسب العصور السياسية أو التقسيمات الجغرافية. تسمح لنا كل هذه المحددات بالتعامل معه من منظور يضع في الاعتبار مقتضيات العصر الرقمي ومتطلباته.
في ضوء هذا التصور يمكننا التمييز بين ثلاث حقب كبرى في جمع وتنظيم وتصنيف الذخيرة المعلوماتية العربية، وكل حقبة امتداد لسابقتها.
1. التدوين: ( بين القرنين الثاني والثالث) عندما انتقل العرب من المرحلة الشفاهية إلى الكتابية، اعتمدوا في ذلك على «وسيط ثقافي» (الراوي)، لجمع المعلومات المتصلة بالإنتاج اللغوي والشعري والثقافي، الذي ظلت تحتفظ به الذاكرة الجماعية العربية طيلة فترات طويلة من الزمن، من خلال الاتصال المباشر بالمكان المعرفي، ثم تشكلت بعد ذلك «الأوساط المعرفية» في المدينة التي ساهمت في خلق التواصل حول المعلومات، وأوجدت لها أماكن (الوراقة/ المكتبات) ووسائط (المجالس/ الكتب). وقد أتاح هذا إمكانية تصنيف العلوم، وضبط المعلومات وتدقيقها، وبروز الاختصاصات المختلفة ومصطلحاتها. فكان الانتقال من الراوي إلى المؤلف والمصنف.
2 ـ التخزين: (بين القرنين السابع والثامن): وهي الحقبة التي سيتراجع فيها الحضور العربي بصورة كبيرة، فكان التخزين من خلال صناعة المعاجم والموسوعات والمصنفات الجامعة، في مختلف ضروب المعرفة، فوصلتنا من خلاله ذخيرة معلوماتية غزيرة.
3. التبسيط: منذ القرن التاسع إلى عصر النهضة، حيث تراجع التأليف تحت ظروف النكوص والانكماش فهيمنت المصنفات المتصلة بالشروح والهوامش واختزال المعلومات في الأراجيز والجذاذات.
لقد انتقل الوسيط الثقافي العربي، خلال هذه الحقب الثلاث من «الراوي» إلى «المؤلف» إلى «الشارح». ومنذ عصر النهضة إلى أواسط القرن الماضي سيبرز «المحقق»، الذي ينفض الغبار عن بعض جوانب تلك الذخيرة المعلوماتية، بهدف جعلها قابلة للقراءة والتحليل. لذلك عندما اعتبرت عمل المحقق من أهم ما أنجز بخصوص تقديم تلك المادة «التراثية» فكنت بذلك أعني، أنه قدم عملا متلائما مع منجزات التقنية التي تحققت مع الطباعة، وكنت في ذلك أشير إلى أن العصر الرقمي يفرض ضرورة وجود وسيط ثقافي جديد ينتقل بنا إلى حقبة جديدة أسميها: «الترهين» متصلا بترقيم تلك المدونة الكبرى هو «المُرقِّم».

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    من حق (د سعيد يقطين)، أن يلخص خبرته تحت عنوان (الذخيرة المعلوماتية العربية)، من خلال مصادره الأوربية،

    وكذلك من حقي أن ألخص خبرتي في هذا الموضوع، بذكر أن أول نسخة من برنامج (المكتبة الشاملة)، سبقت حتى غوغل، في تكوين الذخيرة، بعيداً عن منتجات الشركات التي عملت بها، في دول مجلس التعاون أو تايوان، في جمع وتوليد اللغة،

    ناهيك عن عصر التدوين اللغوي، الذي بدأ بعد أن نقل (علي بن أبي طالب) عاصمته إلى وادي الرافدين، مثله مثل الاسكندر المقدوني قبله، مثله مثل كورش قبله، بعد تحرير اليهود من السبي البابلي، وعصر بيت الحكمة في الترجمة،

    ثم ما معنى المعلومة؟!
    وما معنى المعرفة؟!
    وما علاقتهما بالإدارة أو الحوكمة، أو اتخاذ القرار، ومن عليه أن يتحمّل مسؤولية صحة القرار، حتى لا يحصل أي هدر في أموال الدولة؟!

    ولماذا من دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي، الإمارات العربية المتحدة في عام 2016 قامت بتعيين أول روبوت (كرجل أمن)، وأول روبوت (كطبيب)، وفي السباق معها السعودية في عام 2017، قامت بتجنيس أول روبوت (كمواطن)، من أجل توفير أفضل الخدمات آلياً،

  2. يقول S.S.Abdullah:

    الآن، في موضوع ذكاء الآلة، هناك نموذج لسوق حكمة الصين ممثل في سوق (علي بابا)، وهناك نموذج فلسفة أميركا ممثل في سوق (أمازون)،

    السؤال الآن إذن، كيف تخلق سوق محلّي منافس، من الذخيرة المعلوماتية العربية؟!

    وإلّا ستفلس دولنا، شركاتنا، أسرتنا، والإنسان خارج دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي، ولماذا؟!??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية