مأزق الهويات

حجم الخط
3

يُعتبر خطاب الهوية، أي تمايز مجموعة عن توجه مهيمن، من خلال عرق أو ثقافة أو دين أو لغة، أو نوع، وقد يضاف إلى ذلك التوجه الجنسي، من الخطابات السارية في العالم الغربي منه وغير الغربي، التي زادتها الثورة الرقمية انتشارا.
يظل مصطلح الهوية من المصطلحات الضبابية، ولا يمكن تحديده بدقة في دائرة العلوم الإنسانية، كما يقول بذلك واحد من آباء السوسيولوجيا، هو ماكس فيبر.
وأيّا كانت الإشكالات التي يطرحها المصطلح من حيث تحديدُه، فقد أضحى يتمتع بنوع من الشرعية، أولا لاستناده إلى الحاجة إلى الاعتراف، أو ما يسمى في المرجعية الإغريقية عند أفلاطون بـ Thymos وما يترتب عن ذلك من التوق للكرامة. وثانيا، ما أضفته الدراسات في الولايات المتحدة منذ الستينيات من القرن الماضي، من زخم حول هوية الأقليات، مما انتقل إلى أرجاء العالم.
وعرف خطاب الهوية زخما بعد ترنح الشيوعية، التي كانت تعتبر الطبقة المرجعية، وسرى في أرجاء العالم ومنها العالم العربي، ما عُرف بالهويات الفرعية. كل خطاب هوية، يقوم على شرعية، وهي التوق إلى الاعتراف، والصمود ضد الذوبان، في توجه عام، أو ثقافة مهيمنة، أو الانتصاب ضد الإقصاء، وينبني على عنصر موضوعي يقيم عليه خطابه، إما عرقا أو دينا أو لغة، أو حتى لونا، ويمكن أن نضيف النوع، في ما يخص الحركات النسوية ضد التوجهات الذكورية. فالهوية السوداء في الولايات المتحدة، تقوم على عنصر موضوعي، وهو اللون، وما ترتب عنه من استعباد، لكنها لم تستو هوية إلا من خلال خطاب وتنظيم، وقل الشيء ذاته عن هويات تعتمد عرقا، كما الهيسبانيك، أو دينا كما في أرجاء عدة من العالم، يكونون فيها أقلية مضطهَدة. لكن خطاب الهوية يفضي إلى مأزق، وهو الأمر الذي يبدو جليا حاليا في الغرب كما في غيره، وهو استعداء الآخر، أو ما يُعرف بالشيطنة، وإلى ردود فعل هويات أخرى، ومن ثمة تضارب الهويات، وتقابلها، بل إلى تهديد الرابط اللاحم بدولة، حتى إن لم يرق إلى عقد اجتماعي، وهو ما يعبر عنه بالطائفية وما يتناسل عنها من محاصصة، أو ما يعرف في فرنسا بالانفصالية.
أقف هنا بالأساس إلى ما تعرفه فرنسا، بالنظر إلى أنها الأمة التي ركزت في نصها التأسيسي المحدد لأسطورتها المكونة مع الثورة الفرنسية وهي المواطنة، والانزياح الفعلي بين ما يدعو له المبدأ، وما يفصح عنه الواقع، وثانيا، بالنظر إلى تأثير فرنسا الثقافي في بعض دول شمال افريقيا، خاصة الجزائر والمغرب..
في خضم ما تعرفه فرنسا من نقاش حول تحديد قيم الجمهورية، صدر مؤخرا في شهر فبراير/شباط المنصرم كتاب خليق بالاهتمام، لأن نتائجه يمكن أن تنسحب إلى أرجاء أخرى غير فرنسا، لباحثين في العلوم السياسية هما ستيفان بو وجيرار نواريل، بعنوان «العرق والعلوم الاجتماعية، محاولة حول الاستعمالات العامة لفئة» ويسفر الباحثان عن مرجعيتهما، باعتبارهما ينطلقان من مقاربة ماركسية، في ركاب السوسيولوجي بيير بوريدو. ينطلقان من معطى لا يمكن لباحث موضوعي أن ينكره هو، التمييز العرقي في فرنسا، ضد السود، وضد العرب، وهو مصطلح يحيل إلى الجالية المغاربية، بمن فيهم من الأمازيغ. وقد استفحل التمييز العرقي مع الأزمة الاقتصادية التي عرفتها فرنسا، في ثمانينيات القرن الماضي، وأفضى إلى تماهي المهاجرين مع أصولهم العرقية والعقدية، خاصة أمام تراجع الاتجاهات الماركسية وضعف الهيئات الوسيطة التي كانت تدافع عن الفئات المحرومة. ازداد زخم التوجه العرقي في الخطاب العام مع الثورة الرقمية، فضلا عن ظاهرة أمركة الفضاء العام، أي التأثر بخطاب الهويات في الولايات المتحدة، وانتقال تأثيره إلى فرنسا. ضعف مرجعيات التمثيل وضعف موارد (كذا) انتماء (مرجعيات) المهاجرين، أدى بهم إلى التمسك بما يميزهم عن الإنسان الأبيض، العرق والدين. هذا الانزياح مشروع، يقول الباحثان، ولكنه يفضي إلى انغلاق هوياتي، لأن الإنسان الأبيض سيضطر هو كذلك إلى انغلاق هوياتي أكبر، هو في واقع الأمر ذريعة للحفاظ على تمييزه. رأسماله الرمزي يمنحه تميزا في مواجهة الهويات الناهضة، وهو الأمر الذي ينتهي في نهاية المطاف إلى إبقاء الأمر على ما هو عليه، أي أن الخاسر في نهاية المطاف، هو الطرف الضعيف، ولذلك يعتبر الباحثان أن الأرضية الصلبة لكل صراع من أجل تغيير علاقات الهيمنة هو الطبقة. فالعامل المهاجر هو بالأساس عامل. يستشهد الباحثان بأعمال السوسيولوجي الأمريكي مايكل والزر، ممن كان داعما لحركة السود المناهضة والمأزق الذي انتهت إليه الحركة برفضها التحالف مع حركات أخرى، وهو الأمر الذي يتحقق في فرنسا، من خلال انغلاق الهويات وتضاربها، بالنظر لأمركة الحياة العامة فيها. القوى المحافظة من شأنها أن تقابل بين الهويات المنغلقة لإضعافها، وإبقاء من ثمة تميزها. والنتيجة التي يخلص لها الباحثان، وهو أن الانغلاق الهوياتي يفلح في صرف التوتر أو تحويله، لفائدة الرأسمال، مما يضعف الكتلة الاشتراكية، ولذلك يدعوان إلى التقاء صراعات الفئات المهمشة، في دائرة الطبقة.

كل خطاب هوية، يقوم على شرعية، وهي التوق إلى الاعتراف، والصمود ضد الذوبان، في توجه عام، أو ثقافة مهيمنة

ينحو الفيلسوف فريديرك لوردون المنحى ذاته، وهو من وقف على ما سماه براديكالية القمع في فرنسا، أي أن راديكالية المحرومين في فرنسا هي رد فعل لراديكالية أقوى فعلية. يدعو إلى التحام نضالات المهمشين. لا يزيح الفيلسوف لوردون نضالات المجموعات الهوياتية، كما ورد في مقال له في مارس/آذار في «لوموند دبلوماتك» ذلك أن كل النضالات، أيا كان مدارها، تتساوى من حيث الشرعية، وينبغي الاعتراف لها بما يسميه باستقلالية، ولكن نسبية. ذلك أن الاستقلالية المطلقة، تفضي إلى توزع النضالات ومواجهتها بعضها ببعض، لفائدة الهيمنة الرأسمالية التي تنزع إلى ما يسمه بالتقويم الهامشي Ajustement marginal، والسعي إلى تغذية الاحتجاج، من خلال استراتيجية التحويل، ولذلك على النضالات الفرعية أن تخرج من دائرة الانفصال، وتبرأ من عدم الاهتمام بالنضالات الأخرى. بيد أن ذلك يفترض إطارا جامعا للتمثيل، ومشكل اليسار في فرنسا أنه انكفأ إلى قضايا الهجرة، والعلمانية وأعرض عن قضايا التوزيع العادل للثروة. ويمكن ببساطة أن نسبغ ما يجري في فرنسا، على كثير من البلدان التي سرت فيها خطابات الهوية، فخطابات الهوية لا يمكن أن تنفصل عن نضالات شرائح أخرى محرومة، وأن التخندق في خصوصية والإعراض عن الخصوصيات الأخرى، يشل بعضها بعضا، ويخدم في نهاية المطاف القوى المهيمنة التي لن يضيرها البتة توزُّعَ المحرومين، وتضاربهم، ويمكنها أن تغذيه في نوع من التقويم الهامشي.
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    هذا من جانب، ومن جانب آخر

    https://www.alquds.co.uk/الصين-وثورات-الربيع-العربي/

    لماذا الاصرار على نسيان، لغة (حذاء) منتظر الزيدي، في عام 2008،

    والتي تصادفت مع انهيار نظام العملات/المال الربوي والتأمين عليه لرفع المسؤولية عن الموظف الآلة/العالة/الروبوت على ممثلي الديمقراطية، في النظام البيروقراطي في الدول،أعضاء الأمم المتحدة، وفي بث حي ومباشر،

    هو أول ما خطر لي عند قراءة عنوان (الصين وثورات الربيع العربي) والأهم هو لماذا هذا الإنكار من أهل حضارة وادي النيل، أهل اللغة الصورية الهيروغليفية/الفرعونية، خصوصاً عند الكلام عن أهل حضارة الصين، أهل لغة الأشكال (الماندرين)؟!

    مفهوم اللغة، أو الترجمة أو التأويل، عند نقل ما بين لغة فلان، ولغة علان، عند أهل كتاب العهد القديم (التوراة)، من كتاب (الإنجيل) عند أي مسيحي أو يهودي،

    يختلف عن مفهوم وغرض اللغة، عند الثنائي:

    – أبو الأسود الدوؤلي،
    – الخليل بن أحمد الفراهيدي،

    بعد إصدار علي بن أبي طالب، أمر لهما بإكمال تصميم الحرف أو الكلمة أو الجملة، من أجل تدوين لغة القرآن وإسلام الشهادتين،

    بعد أن نقل عاصمته إلى وادي الرافدين وليس إلى وادي النيل، كما فعل قبله الاسكندر المقدوني، وقبله فعل كورش، عندما حرّر اليهود من السبي البابلي،

  2. يقول S.S.Abdullah:

    ومنها أطلق عليها قرن (التدوين اللغوي)، وبعد ذلك أتى قرن الترجمة (بيت الحكمة)، بعد إصدار العملة، وتكوين دواوين الدولة، من خلال إقتصاد الأوقاف الإسلامية،

    ولذلك عملية نقل عاصمة كورش أو الاسكندر المقدوني أو علي بن أبي طالب، لا يمكن أن تلغي ما قدمه أهل وادي الرافدين، إلى الحضارة الإنسانية،

    ومن هذه الزاوية، تفهم سبب كل كلام البابا،

    وليس ما قام الإعلام، من تأويل وتزوير وغش فاسد، من أجل توجيه إلى عقلية الصراع/الحرب، وكأنّه أهل روما (البابا) احتل أهل دولة الخلافة (أبو بكر البغدادي)؟!

    بالإضافة إلى

    https://www.alquds.co.uk/نائبة-تونسية-تقتحم-مقر-الاتحاد-العالم/

    مثال عملي في اساءة استخدام المنصب/الوظيفة، لعقلية اللا دولة، أو الفوضى الخلاقة،

    في التعدي على حقوق فلان، من أجل مصلحة علان، أي رفض التعايش والتكامل مع الآخر المختلف، داخل الأسرة أو الشركة أو المجتمع أو الدولة،

    هو أول ما خطر لي عند قراءة ومشاهدة ما سجلته بواسطة هاتفها تحت عنوان (نائبة تونسية تقتحم مقر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- (فيديو))، هل هذه هي الديمقراطية، أو حرية نشر الخزعبلات عن التصرفات الصبيانية، على أرض الواقع،

  3. يقول S.S.Abdullah:

    فهذه مشكلة الثقافة الفرنسية إن كان عن (إيمانويل ماكرون) أو مقلدي هذه الثقافة كالببغاء في دولنا، بداية من دول شمال أفريقيا؟!

    ولذلك لا أتمتة، بدون الكهرباء الرخيصة، في عصر IoT، أو الجيل الخامس أو الجيل السادس بعده،

    من أجيال تقنية الاتصالات، من الشرق (الصين) في تكاملها مع الجيل الرابع من أجيال المكائن الصناعية، من الغرب (ألمانيا)،

    والكهرباء الرخيصة، بالنسبة لي، في مشروع صالح التايواني تعني:
    – توليد رخيص،
    – وتوصيل رخيص،

    وليس ما تطرحه الشركات الألمانية،

    والتي بسبب ذلك، ممثليها في العراق،

    ترفض التعاون والتكامل، مع ما وصل له أهل العراق (أثناء فترة الحصار ما بين 1991-2003) من ثلاث تجارب، لتقليل تكلفة إنتاج مُنتَج الكهرباء،

    وترفض التعاون والتكامل، مع ما وصل له أهل نيوزلندة، في تكاليف توصيل الكهرباء،

    وهذه أحد أسباب التأخير، الأساسية في بداية تنفيذ أي شيء في العراق، أو دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي، على سبيل المثال للعلم،

    يجب أن نتجاوز عقلية/فلسفة/ أسلوب تعامل مبني على من يضحك على من، أو من أخبث مِن مَن، أو من يصعد على أكتاف من، ونعرف لماذا، يجب علينا ذلك كأسرة إنسانية في أجواء سوق العولمة للوصول إلى الدولة الذكية (الأتمتة)؟!??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية