يخرج الصيادون اللبنانيون من منازلهم منذ ساعات الفجر، بقوارب صغيرة إلى عرض البحر لاصطياد الأسماك على أنواعها.
وقد شجع موقع لبنان الجغرافي على البحر المتوسط، ازدهار الصيد ودفع الآلاف من سكان المدن الساحلية إلى المهنة من أجل كسب الرزق، ومياه الساحل اللبناني غنية بالكثير من أنواع الأسماك بالإضافة إلى أحجامها المتنوعة، ومن أشهر أنواع السمك الموجود على سواحل لبنان، البوري، والسلمون وأبوسمونة، واللؤس، وسمك البلشفيك الأبيض والأسود، والسرغوس، والسرطان، وسمك السردين العريض والمبروم، وكلب البحر، والقرش الأزرق، والسلطعون، والقريدس.
وقد أنعشت الأزمة الاقتصادية وانهيار الليرة اللبنانية وارتفاع نسبة الفقر مهنة صيد الأسما ، واندفع بعض اللبنانيين أكثر من أي وقت مضى، للصيد لتأمين ثمن لقمة العيش، في الوقت الذي يعاني فيه لبنان من تدهور اقتصادي ومعيشي حاد، وإقفال عدد كبير من المؤسسات وتسريح عشرات آلاف العاملين وتصاعد معدلات البطالة وتراجع قدرات الناس الشرائية مع ارتفاع أسعار السلع بنسبة تتجاوز 80 في المئة، خاصة بعد تداعيات فيروس كورونا وانفجار مرفأ بيروت الكارثي.
ولمهنة الصيد في لبنان، شروط يجب العمل بها والتزام الممنوع منها، فالمعدّات والأدوات المستعملة في عملية الصيد يجب أن تتضمن الشباك وهي أنواع متعددة يستطيع الصياد الاعتماد على واحدة منها وأهمها: شباك الإحاطة، الصنانير والخيطان أنواعه: يدوي، ميكانيكي وثابت، الخيوط والبولص، جرجاة ـ شرحيطة، الخيوط الطويلة غير محددة، خيوط الصنانير، شباك الغل ـ البشلولة والشرك الإنجرافية، الإنسيابية، التحويقية، المثبة على أوتاد، الشباك المبطنة، السلال والأقفاص، مع الإشارة إلى أن وسع عين الشباك يجب أن يكون أكثر من سنتيمترين.
وفي ما يتعلق بشروط المراكب وعملية الصيد، فعلى الصياد ترخيص مركبه من قبل وزارة النقل بالتعاون مع وزارة الزراعة اللبنانية، وإخضاعه لصيانة دورية لتفادي الأعطال وسط عملية الصيد، ووضع إضاءة خافتة على سطح المركب، وعدم الابتعاد كثيرا عن الشاطئ الساحلي، والبعد عن مصبات الأنهر، الموانئ وعن المنشآت العامة والخاصة.
كل هذه الأمور والبنود يجب أن يضعها الصياد اللبناني نصب عينيه ليحصل على مورد دائم لعائلته، وللحفاظ على الثروة السمكية مع مرور الزمن.
وتشير سجلات وزارة الأشغال العامة والنقل اللبنانية، إلى أن أسطول الصيد اللبناني يتكون من سفن حرفية صغيرة الحجم يقل طولها عن 12 مترا، ووجود 2662 سفينة صيد، تتوزّع في كل من طرابلس وبيروت وصيدا، وصور، وجونية، وجبيل، وشكا، كما تُشير بيانات قسم مصايد السمك وتربية الأحياء المائية في منظّمة الأغذية والزراعة إلى أنّ مُعدّل إنتاج المصايد اللبنانيّة في السنوات العشر الأخيرة وصل إلى أكثر من 4000 طن في العام الواحد تقريباً.
وسائل صيد السمك
تتنوّع طرق صيد السمك في لبنان، حيث يستخدمُ بعض الصيادين الشِّباك التي تكون غالباً ذات فُتحاتٍ صغيرةٍ للغاية، أيّ أقل من 2×2 سم، وتشمل شِباك اللامبارا أو التحويط الكيسية، والشباك الخيشوميّة، وشباك الجرافات الساحلية والشباك المبطّنة، كما يستخدم بعض الصيادين خيوط الصيد الطويلة، أو سلال الصيد والجدير بالذكر أنّ مُعظم طرق الصيد تُستخدم على أعماقٍ تصل حتّى 50 مترا عدا الخيوط الطويلة. عدد من صيادي الأسماك اللبنانيين، تحدثوا لـ»القدس العربي» عن دوافع ومشقات ومخاطر عملهم وطرق صيد الأسماك.
يقف أحمد شعبان فوق قارب صغير، ويعمل على تنظيف شباكه بعد ليلة أمضاها في رحلة الصيد، لافتا إلى أن أبرز طرق صيد الأسماك في لبنان هي الجاروفة أي الشبكة الطويلة كما قال، مضيفا، وهو أحد الصيادين في مدينة صور اللبنانية، «الجاروفة عبارة عن شبكة عملاقة يبلغ طولها مئات الأمتار، وترمى في البحر ويتم تثقيلها بثقالات من مادة الرصاص من أجل أن تغوص في قاع البحر، ومن الأعلى يتم تثبيتها بفلين من أجل فرد الشبكة في المياه من الأعلى، وبها من الوسط منطقة تسمى العب وهي عبارة عن تجويف كبير، وتربط الجاروفة بحبال من أجل شدها إلى الشاطئ وجر السمك للخارج، وتتميز هذه الطريقة بالسمك الوفير جدًا ويستخدمها الصيادون المحترفون».
وأشار إلى أن الجاروفة هي الوسيلة الأمثل لصيد الأسماك في السواحل الرملية بعكس السواحل الصخرية التي تنقطع فيها الجاروفة، وقال، «يلقي الصيادون الجاروفة في الماء بالتدريج في البحر من القوارب، ويقوم الصياديون الآخرون على الشاطئ بسحب الجاروفة بعد فترة أو عندما تمتلئ بالأسماك، فيجد السمك نفسه محاصرا في عب الجاروفة، وحينها يسحب البحارة الموجودين على الشاطئ الجاروفة بالحبال، ويتقاسم الصيادون حصصهم من السمك كما هو متفق عليه بينهم».
وفي مكان آخر قرب مرفأ مدينة صيدا، يؤكد عمر حنينة، أن صيد الأسماك في الليل أفضل بكثير من النهار، لأن البحر يكون مظلما في الليل وبذلك يشعر السمك بالراحة، وكذلك الصياد لا يكون له ظل فيخرج السمك بكثرة وبحرية، ويكون الماء باردا في الليل فيكثر السمك على سطح الماء، ولذلك يكون الصيد في الليل مضاعفا عن النهار».
مهنة صيد الأسماك لم تعد مرضية للكبار في السن، كما يقول عمر، مضيفا، فيما الشباب لا يزال البعض منهم متعلقا بها، ربما لأنها تعطي له دخلاً كبيراً مقارنة باحتياجاته البسيطة.
وأشار إلى أنه يعمل بمهنة الصيد لمساعدة أهله لافتا إلى أنه بدأ عمله إلى جانب والده بتنظيف الشباك، وعن اندفاعه للعمل قال: «أبلغ من العمر 20 عاماً ونحن 7 أفراد في العائلة، ولقد شاركت والدي في المهنة لمساعدته».
وعن سبب عمل أولاده في المهنة قال إبراهيم والد عمر حنينة: «أولادي الثلاثة يعملون في المهنة وذلك بسبب الظروف الصعبة والأحوال الفقيرة التي تجبرنا على العمل كعائلة لكي نعتاش ونؤمّن رزقتنا اليومية».
وأضاف، بعد الأزمة الاقتصادية وتفشي فيروس كورونا وانهيار العملة الوطنية وارتفاع حالات الفقر، اندفع عدد كبير من الشباب اللبنانيين لصيد الأسماك، أولا لأن فرص العمل أقفلت في وجوههم، والإجراءات الوقائية بسبب تفشي كورونا لم تشمل عمل الصيادين في البحر.
وتكاملاً مع الصيد تأتي مهنة بيع الأسماك بالجملة أو المفرّق، وهنا يأتي دور المزاد لتحقيق أفضل سعر لمن يشتري الأسماك الطازجة بالجملة.
تتوزع الأسماك على ألواح ومسطحات الخشب التي نشرت عليها مختلف الأنواع في المسمكة، وهي أسواق خاصة للبيع بالجملة والمفرق قرب موانئ الصيادين عند أطراف المدن اللبنانية، تابعة لنقابة صيادي الأسماك، تتوزع عليها أنواع الأسماك المحليةّ حيث يتّم بيعها بالمزاد العلني.
بسطات بيع السمك
درويش البواب (60 عاما) بائع السمك، قال: «عملية البيع تتم من خلال المسمكة لمن يريد الشراء بالمفرّق وفي نفس المكان يتم البيع بالجملة من خلال المزاد العلني الذي يمكن الناس من الحصول على سعر أفضل» وأضاف «أعمل في بيع الأسماك منذ 30 عاماً ولم أتزوج، فالمصلحة تتراجع يوماً بعد آخر، والرزقة لا تعتمد على الأسماك القادمة من البحر مباشرة بل على المستورد أيضاً، ولقد قامت البلديات بإصدار قرار بمنع الصيادين من البقاء بالقرب من المسمكة لأننا نعدّ بسطات كي لا يؤثر السمك المثلج على الطازج، لكن يمكن التمييز بين السمك العادي والطازج، فالأجنبي الذي يعتمد على التربية في البرك، أسعاره أرخص ويمكن معرفته من خلال سواد العين، فيما الأسماك الطازجة مرتفعة السعر وفيها فائدة غذائية أكبر».
وقال حسن أبو دلة مقاطعا: «لدينا عائلات ونقوم بدفع إيجار للمنازل، ونعتاش من وراء هذه البسطة، فكيف نستطيع كلبنانيين العيش إذا تمت إزالة بسطات بيع السمك، فهل نسرق أو ماذا نفعل؟ فوالدي يعمل صياداً أما أنا فأبيع السمك، خارج المسمكة (سوق بيع السمك) ولسنا في داخلها، فنطلب إيجاد بديل مناسب لنا كي نستمر في العيش».
مشاكل متعددة تواجه العاملين في صيد الأسماك وبيعها، يضاف إليها الواقع الاقتصادي الضاغط، الأمر الذي يزيد العبء على الصيادين وبائعي الأسماك.
ويصنف أبو دلة الصيادين في لبنان من ضمن الفئات الاجتماعية والحرفية الأكثر فقراً، ولا يتمتعون بأي من الضمانات الاجتماعية والتأمين ضد الأخطار ويفتقدون إلى النقابات والتعاونيات الجدية والفعالة، مشيراً إلى أنهم يعتمدون على مدخول هذه المهنة رغم افتقار أغلبية مراكب الصيد إلى أبسط وسائل السلامة من أجهزة اتصالات وتحديد المواقع GPS.
ولفت إلى أن ما يزيد من معاناة الصيادين في لبنان التحدي المرتبط بفقر المخزون السمكي، الذي يتأثر بعوامل عدة طبيعية وبشرية.
وأوضح أن ثمة عوامل طبيعية تضيق بفرص الصيد، إضافة إلى ضغوط بشرية، مشيراً إلى أن الصيد مسموح فقط ضمن مسافة 6 أميال بحرية بعيداً من الشاطئ، وذلك لدواع أمنية ولسلامة الصيادين ومراكبهم البسيطة، ما يضيق المساحة المسموح العمل فيها ويزيد من الضغوط في الرقعة الصغيرة والمحدودة التي تتعرض لكل أساليب الصيد الجائر، «ولكي نحافظ على نظافة البحر، يجب أولا نشر الوعي البيئي، ووضع محطات لتكرير المياه على طول الشاطئ. وتطبيق القوانين فهذا الأمر سهل جدا ويستلزم فريق عمل، ومراقبين على طول الشاطئ لهذا الغرض».
الساحل اللبناني يستقطب الكثير من الصيادين من حول العالم المحترفين والهواة لما يحتويه من أسماك كما ذكرنا، وتتنوع طرق الصيد فيه.
وقد نظم «الاتحاد اللبناني لرياضة صيد الأسماك» وللمرة الأولى في لبنان، بالتعاون مع «مهرجان لبنان الرياضي المائي» في 21 تشرين الأول/أكتوبر 2018 البطولة العربية لصيد الأسماك لعام 2018 في خليج مدينة جونيه شمال بيروت، بمشاركة صيادين.
صيد الأسماك في لبنان مهنة شاقة وممتعة، عمل فيها اللبنانيون منذ قرون طويلة، وكانت تشهد ازدهارا أو انحسارا حسب التطورات الأمنية والاقتصادية التي يتعرض لها لبنان، إلا أن هذه المرحلة ومع الأزمات الأمنية والاقتصادية والطبية يجد بعض اللبنانيين من صيد الأسماك مهنة لتأمين لقمة العيش.