رهان خاسر

حجم الخط
2

سنة 1972 كتب شاب مغربي رواية خطيرة، تحدّث فيها عن البؤس الذي لحق به ضمن الفئة التي وجد نفسه ينتمي إليها. لم يحظ الشاب بطفولته، أقتلعت منه عنوة بسبب الفقر والعوز وبشاعة أخلاق والده، شهد مقتل أخيه وتعنيف والدته، وأمورا أخرى يمكن اختصارها بكل فظاعات الحياة الممكنة. لم يحظ بتربية جيدة، لاحقه طيلة حياته شعور بالاحتقار لذاته، جرّاء الإقصاء الاجتماعي الذي فرضته الظروف على عائلته.

كتب الشاب عن محنته كمواطن مسلوخ من أدنى حقوقه الإنسانية، شعر أن تدوين حكايته التي تشبه حكاية جيل بأكمله في بلاده والبلدان المجاورة، حاجة ملحّة قد تخلّصه من مرارة ما يشعر به من تنكيل لإنسانيته. لكن اللغة التي تعلّمها في عمر العشرين بإصرار واجتهاد فريدين، لم تتعامل مع محنته سوى بمزيد من الإقصاء، فظلّ المخطوط محفوظا في «جاروره» ليضاف إلى كل الأسرار الخطيرة التي يعرفها ويشهد على تعاظمها في الخفاء.

بعد سنة يقرر الكاتب الرحالة الأمريكي بول بولز أن يترجم الرواية إلى الإنكليزية، هو الذي شجع كاتبها أصلا لسرد حياته في كتاب، هكذا بعد مخاض عسير رأت رواية «الخبز الحافي» للمغربي محمد شكري النّور حين نشرها البريطاني بيتر أون بعد رفض أجمعت عليه دور النشر المغربية آنذاك، والعربية عموما. سنة 1980 صدرت الرواية عن منشورات ماسبيرو باللغة الفرنسية، بترجمة مواطنه الطاهر بن جلون، بعد عشر سنوات سيخاطر ناشر مغربي بنشرها، لكن سرعان ما يتم حظرها، ولن تخرج للعلن عربيا إلاّ سنة 2000 كما ورد في كثير من المقالات، مع أنني أرجح أن اللغة لم تكن عائقا أمام شكري، الذي اخترق الفضاء الثقافي العربي من خلال مزدوجي اللغة من قرائه.

حسنا لقد ترجمت الرواية إلى حوالي أربعين لغة، ونقلت بصدق لا يضاهى تفاصيل الحياة المغربية أيام كان المغرب يرزح تحت نير الإستعمار، أي أنها لم تتعرّض للراهن المغربي بشكل مباشر، إلا في ما ظلّ مشتركا بين عصر الاستعمار وما بعده وقد ورد بشكل عفوي غير مقصود في النص، ومع هذا رُفض جملة وتفصيلا لأسباب غير منطقية، كأن يعتبر النص «فاسقا» ويجب أن لا يكتب باللغة العربية المقدسة، أو كأنْ يُحَمّل مسؤولية نشر الرّذيلة، كأنّ ما تحدّث عنه الكاتب مشروعا للمستقبل وليس من أخطاء الماضي والحاضر التي يجب علاجها.

قصة هذه الرواية أو «السيرة» الصّادمة لشكري أثارت الكثير من الضجيج والصخب الإعلامي، فيما تعالت أصوات «المتدينين» باتهامها بـ»لاأخلاقية» محتواها. وهو اللعنة التي لا تزال تتبعها، فحيثما ذكرت الرواية في مقال أو في منشور فيسبوكي، أو غيره تعالت الأصوات نفسها متهمة النص بتهم رخيصة، وكأنه كائن حي شيطاني يريد إلحاق الضرر الأخلاقي بأبناء المجتمع، في مفارقة عجيبة لا يمكن تصدقيها كون مجتمعاتنا كلها لا تخلو مما وصفه شكري في نصه. كل تلك المآسي من جوع وفقر، وسرقات، ونصب واحتيال، وجرائم، خلال رحلة طويلة لمواطن مسحوق بحثا عن الخبز، لم تؤثر في ذلك القارئ الذي يرتدي بزة حارس الأخلاق، وهو قارئ تتواطأ معه جميع الجهات التي تحاصر الكاتب فتحرمه طمأنينة العيش، وتحقيق مدخول جيد من كتابه، يوفر له حياة كريمة في وطنه، عكس الناشر الذي يخدمه المنع، وقراصنة الكتاب الذين وجدوا الساحة العربية خصبة لكل ما هو مقرصن وغير شرعي. يراهن الكاتب على أدبه، وعلى الحقيقة المُفجعة التي يكشفها للقارئ حتى لا يستمر في العيش مغمض العينين، وتراهن جهات أخرى على الاستمتاع بتجويعه، فتحرمه من «خبزه الحافي» جهات أخرى تغطي فشلها في إلقاء القبض على «لصوص الخبز» و»محتكريه» بتسليط الضوء على «الكاتب الفاسق» الذي يريد ضرب المجتمع في قيمه. مراوغات لا تنتهي تنتهز الفرصة للمتاجرة بقصته العجيبة.. وتستمر في محاربته حتى بعد موته إذا فرضت المصالح ذلك.

تنتشر كتب محمد شكري اليوم عبر مواقع كثيرة، بحيث أصبح الكتاب متوفرا حتى التخمة في كل العالم، فما الذي تغيّر في جمهور القراء؟ أو ما الذي تغيّر في مقاييس النّشر؟

تنتشر كتب محمد شكري اليوم عبر مواقع كثيرة، بحيث أصبح الكتاب متوفرا حتى التخمة في كل العالم، فما الذي تغيّر في جمهور القراء؟ أو ما الذي تغيّر في مقاييس النّشر؟ بالنسبة لدور النشر العربية التي تخلو من لجان قراءة، يصعب تحديد مقاييس للنشر، فقلة من الدور تفرض النص الجيد، والفكرة الجديدة كمقياس لصدور الكتاب حاملا اسمها. فيما تكتفي دور أخرى بالتخصص في موضوعات معينة، مثل الدين والسياسة، أو الأدب شرط ألا يحوي النص ما يتعارض مع السائد من أفكار في المجتمع. بالنسبة لدور النشر الغربية يحدث أن تضع الدار شروطا قاسية لكتابها، كأن تمنع تمجيد العنصرية، أو تبجيل الفقراء على حساب الأثرياء أو العكس، كما تمنع دور أخرى الدعوة للعنف والقتل، كما يعتقد بعضها الآخر أن التطاول على الجهات الدينية أو السياسية، أمر يجلب المتاعب ويجب مجابهته بتغطية قانونية متينة.

بالنسبة لمحمد شكري الذي عاش من مداخيل بعض كتبه المترجمة، كان رهانه خاسرا على الأدب، بسبب استغلال الناشرين له، «المحتالون» كما يسميهم، أو «الطاعون» لشدة كراهيته لهم. رهانه على اللغة العربية كان خاسرا أيضا، ولا نعرف بالضبط لماذا اختار الكتابة بها، وكان بإمكانه أن يكتفي ببيع قصصه ما دام قد دخل فضاء العالمية من أوسع أبوابها. فقد روى في حوارات عديدة، أنه يفهم ويتحدث ثلاث لغات هي الفرنسية والإنكليزية والإسبانية، فلماذا ظلّ مُصرًّا على الكتابة باللغة العربية؟ خاصة أن «الخبز الحافي» بقدر ما رفعته عاليا في سماء المشهد الأدبي، بقدر ما دفنت أعماله الأخرى، وكأنّه لم يكتب غيرها. فقد وصف الإعلام الغربي غيابه بعبارة «عندما توفي محمد شكري أخذ قسما كاملا من طنجة معه» المدينة التي حين يمشي في شوارعها يشير الناس إليه «هذا هو الخبز العاري» وكان ذلك يزعجه، ومع هذا ظلّ يكتب حتى انطفأ في الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2003 شارحا الأمر برمته بعبارة مقتضبة «الكتابة بالنسبة لي احتجاج». أمّا أصدقاؤه المقربون فيسرُّون أن الكتابة كانت له نوعا من الطقس الديني. لكنّها أيضا اللباس الذي ستر عريه، والخبز الذي هزم جوعه، والكرامة التي ظنّ أنه فقدها إلى الأبد حين كان طفلا.

في الغالب محمد شكري ولد كاتبا بطريقة مختلفة تماما عن ولادات الكتاب على تنوعهم، وحتى شهرته لم تكن متوقعة منه، فقط كان متأكدا أن «الكتب الحقيقية مثل المؤلفين الحقيقيين لا تموت أبدا» وقد عاش ما يكفي ليشهد على المجد الذي منحه له أسوأ فصل من سيرته، ورغم اجتهاده على تطوير كتابته وتقديم ما هو أفضل في كتبه التالية إلا أنه ظل مدينا بشهرته للخبز الحافي.

اختلف شكري أيضا في تسخير قلمه للتعبير عن الأميين، والذين عانوا من شرور الفقر المدقع، والعنف المجاني، والجنس التعويضي والمخدرات.. كتب السيرة الذاتية للناس الذين يعيشون في الطبقات السفلية، وما يثير الدهشة أنّه صنع لهم جسرا نحو الضوء، وصعد بهم إلى أعلى طبقة ممكنة، بدون أن يراهن على الربح منذ خطّ أول حرف وهو في الواحدة والعشرين من عمره، كان رهانه خاسرا… الرهان على الأدب في عالمنا العربي خاسر، ولا شك أن الخسارة هي التي كانت دافعا لكتابة رواية انتحارية كهذه، شديدة الشجاعة، غير مبالية بلومة لائم، كون الطفل الذي خسره شكري لا يمكن استعادته أبدا، لا في الأحلام ولا في تزيين الكلام.

شاعرة وإعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    مثله مثل دلوعة أمه (دونالد ترامب)، مع طريقة استخدامه للآلة وبرامج التواصل والاتصال أصلاً، الذي لم يصدق أنه خسر انتخابات عام 2020؟!

    فمن يضحك على من، هنا،

    أو من أخبث مِن مَن، هنا،

    أو من يصعد على أكتاف من، هنا؟!

    أو من يرفض التعايش والتكامل مع الآخر غير (الشيعي) أو ممثلي ثقافة الأنا، أفضل من ثقافة الآخر، فلذلك يجب أن تكون تابع لي، لا حقوق ولا أملاك ويجب عليك أن تدفع خُمس دخلك، بلا أي خدمات مقابل ذلك،

    والدفع، فقط من أجل الشفاعة، أو الواسطة ومحسوبية لك في اليوم الآخر، وليس هنا في الدنيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!??
    ??????

  2. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحية للكاتبة بروين حبيب
    بالتاكيد هو العقد المبرم بين السلطة ورجال الدين لاظهار المجتمعات بصورة طاهرة لكي لا يسال الجياع عن الخبز والعراة عن قميص فالمهم هو الشرف والعفة وبذلك فكل مظالب بحقوق هو ساعي لتدمير اخلاق المجتمع وهو ما يحصل الان بالعراق من تهم من قبل الاحزاب الاسلامية للشباب المتمرد على فسادهم

إشترك في قائمتنا البريدية