التشكيل السياسي وأخطار العولمة… خطوة من النقد الذاتي للدولة الوطنية

منظومة الحكم يجب أن تعرّف على نحو ملائم في ما يتعلق بوظائفها الإدارية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وبات واضحا أن الولايات المتحدة والدول الغربية التابعة لمعسكرها، تملك سياستها الديمقراطية الخاصة، وسياسات ديكتاتورية استغلالية لبقية دول العالم.
ومنذ غزو العراق والديمقراطية فلسفة تباع على أنها منتج عملي. وإلى الآن، هناك من يربطونها بالرأسمالية، وآخرون يجعلونها وثيقة الصلة بحكم الأكثرية، ويتوقعون من حزب منتخب ليحكم أن يحقق الديمقراطية، في الوقت الذي نجده على نحو رئيس يقوم برعاية مصالح قاعدة دعمه. وإذا كان الأمر يتم بشكل مماثل في أكثر الأقطار العربية، فليست هذه هي الديمقراطية، وليست حكم الأكثرية بدون موجبات حقوق المواطنة وشروطها الاجتماعية. وحان الوقت لمناقشة طبيعة الديمقراطية وجعلها منسجمة مع العدالة على المستويات الرئيسية.
والشعوب عندما تصوت للأحزاب المريبة، فهي تصوت في الحقيقة لسياسات مريبة. ومن تولوا الحكم إثر موجة الربيع العربي، واصلوا الانخراط في المنوال الاقتصادي الجائر، وفق النمط الأمريكي. وهو ما أدى إلى تدهور الاقتصاد وضياع المفهوم الوطني، لتستأثر قلة بالثروة، وتسمح بالتدمير الليبرالي للدولة الوطنية. وليس هناك تفكير في مراجعة السياسة الاقتصادية نحو نهج الديمقراطية الاجتماعية على طريقة دول شمال قارة أوروبا في شبه الجزيرة الاسكندنافية، التي نجحت في توفير مطالب محترمة من الرفاه والرخاء الاقتصادي والمساواة الاجتماعية لشعوبها.
الديمقراطية ليست اختراعا عربيا، والتحول الديمقراطي له شروطه وقواعده وأصوله، ولا شك بأن إرادة الغرب في تخليص المنطقة من الديمقراطيين قد أرضت إسرائيل. فهم يريدونها دولا عميلة أو هزيلة، مفككة أو ضائعة، مدمرة أو ممزقة، في حين تنعم إسرائيل بالتماسك وتحظى بالأمن. وليسوا منسجمين مع المصطلحات التي يصدرونها. يرغبون في مكافحة الإرهاب ويتغاضون عن أن التحول الديمقراطي هو الركيزة الأساسية لمكافحة هذه الظاهرة. وعدم وجود حكومات شرعية توفر الاستقرار السياسي وتحقق التنمية وتكرس العدالة الاجتماعية، هي بمثابة المناخات الملائمة التي تنتعش فيها ظواهر العنف والفوضى والاحتراب. وزادوا في تضييق الخناق عبر عسكرة العولمة، استنادا إلى التفوق العسكري والاقتصادي. ويسوقون كذبا للديمقراطية في الوقت الذي يحاصرون فيه الاقتصاديات الوطنية، عبر أذرعهم المالية، ويعمقون أزماتها في رغبة واضحة لجعل الشعوب المنتفضة، ضد أنظمة الاستبداد، التي عرفت تحولا سياسيا، ناقمة بشكل أو بآخر على مصيرها المجهول ومعاناتها الاجتماعية. ويدفعونها إلى الحنين للنظام السابق، الذي دعموه وباركوا سياسته الديكتاتورية في مصر كما في تونس. وأزمة الجائحة العالمية، وإن عدلت نسبيا المناخ، فإنها لم توسع الرقعة على حلبة الصحراء الدولية لمصلحة مبادئ التحرر من الطغيان المالي واللون الاقتصادي الواحد، والإرادات المفبركة على نحو متجانس، بل على العكس، لاتزال الليبرالية تعطي السوق الفردية امتيازا فوق جميع أشكال التنظيم الاجتماعي للدولة الوطنية. وعلى نطاق عالمي غير مقيد ينزع نحو الاستهلاك. والدولة العربية سقطت ضحية اقتصاد السوق، وأربكت نسيجها الاجتماعي، ولم تحقق ظروفا معيشية كريمة لأغلب مواطنيها. وسياسة العولمة هي التي تملي قواعد الحياة الاجتماعية الجديدة بشكل ناعم، يمر عبر البرلمانات والمؤسسات المنتخبة، ويوحي بمبدأ سلطة الدولة الوطنية. وفي زمن الوباء، تواصل الشركات الكبرى تغلبها على الحدود، وتبتلع المنافسة المحلية. ولم تحدث الجائحة اختراقا يتجرأ على الحد من التوسع العشوائي أو القسري، والمبرمج للمؤسسات المالية العملاقة كما كان متوقعا. ولم تكبح جماح التكتلات الاقتصادية التي تسعى إلى الاستحواذ على العالم، وفق قواعد الربحية الخالية من الاعتبارات الإنسانية. وبالمحصلة، فإن الرأسمالية تسبب البطالة التي ازدادت معدلاتها في عامين متتاليين. والليبرالية الجديدة تخدم اقتصاد السوق والمنافع الربحية للأثرياء، وتضر بالدولة الاجتماعية والديمقراطية. وما يسود الآن هو عملية تحول تاريخي بأبعاد عالمية واضحة، ينعدم فيها التقدم والرخاء، ويسود التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي، في ضوء حضارة التنميط، التي سعت العولمة لفرضها. والتخبط الذي حصل في توزيع اللقاحات، وجشع الدول الغنية التي استأثرت بجل كميات التطعيم المفترضة، أكبر دليل على قواعد الرأسمالية التي لا تهتم بالدول الفقيرة.

على الدول العربية تمتين روابطها القومية الجامعة كأمة واحدة، ومواجهة تنامي القوميات الأخرى، وطموحها في الهيمنة والتوسع الإقليمي

تضاعف مزيج المشاكل الداخلية والتحديات الخارجية، قلّص آمال الشعوب بمستقبل أفضل من حاصل واقعها اليومي وهشاشة النظم الاجتماعية. والمؤسف في كل ذلك أن بعض العرب مازالوا يأملون خيرا في الإدارة الأمريكية، ولا يرغبون في أن يقتنعوا بأن كل ما يهم أمريكا هو مصالحها الجيوستراتيجية والنفطية أساسا، ومن ثم حماية حلفائها في المنطقة. والغرب الذي تملكته إرادة الهيمنة إنما يخدم مصالحه الخاصة، غير عابئ بهموم الشعوب وحقها في الحياة الكريمة أو تقرير المصير. والأزمات السياسية والاقتصادية المتلاحقة منذ القرن الماضي إلى حدود هذين العقدين من الألفية الثالثة في كل بقاع العالم من آسيا إلى أمريكا وافريقيا وأوروبا، تقف دليلا على تهافت النظام الليبرالي الذي ولّد مثل هذه الصعوبات. والمدافعون عن هذا الخيار الاقتصادي العالمي يتاجرون بآلام الناس، ويخفون حقيقة أن فئات واسعة من الشعوب تدفع فاتورة خيارات رأسمالية معادية للنظام الإنساني وللعدالة الاجتماعية، ومُغيبة للحل الديمقراطي. ونُظم الحكم في المنطقة تستسلم اقتصاديا وثقافيا لهذا النظام المتردي. وليس هناك استراتيجية موحدة للحد من تداعياته. ومن الضروري أن تُستخلص الدروس في هذه المرحلة من تعدد الأقطاب، وبداية تغير ملامح الهيمنة الأحادية، وصعود قوى وتكتلات جيوسياسية واقتصادية جديدة. وعلى الدول العربية العودة إلى تمتين روابطها القومية الجامعة كأمة واحدة، تستطيع أن تواجه تنامي القوميات الأخرى، وطموحها في الهيمنة والتوسع الإقليمي. وتحد من سطوة القوى الرأسمالية التي يقودها النظام الامبراطوري الغربي وحليفه الصهيوني. ولا بديل عن إيجاد أنساق تفتح الباب للديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتضامن الوطني، بعيدا عن الإملاءات الخارجية وفتح الباب لمصادرة السيادة الوطنية واستقلالية القرار.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صالح الصالح:

    مقالة مهمة ورائعة وتسهم في رفع الوعي الحقيقي بدلا من الزيف الذي يتراكم على عقول عقول الشباب العربي.

  2. يقول S.S.Abdullah:

    الإشكالية تبدأ على أرض الواقع من خطأ، اختيار زاوية الرؤية الخطأ، لأي موضوع، كما في عنوان (التشكيل السياسي وأخطار العولمة… خطوة من النقد الذاتي للدولة الوطنية)،

    حيث كمسلم، أؤمن، لا يوجد شيء كامل سوى الله،

    أي لكل شيء مساوئ، ومحاسن، أي فرضية الدولة الوطنية (ملاك) أول خطأ، وأن سوق العولمة وصندوق النقد والبنك الدولي (شيطان) خطأ ثان،

    خلاصة الحكمة الانسانية في الوصول إلى الدولة السعيدة، لخصها صندوق النقد والبنك الدولي ومعهد الحوكمة الكندي ومؤتمره الدولي في بغداد يومي 24 و 25/1/2018، والذي تصادف نفس موعد إقامة معرض الحكومات الذكية في الإمارات العربية المتحدة، في خمس شروط:

    -الشفافية،
    -اللا مركزية،
    -الحاضنة التقنية،
    -الحوكمة الرشيدة،
    -حق تعليم لغات الأقليات نفس حق تعليم اللغة الأم.

    تركيا، تحت قيادة (رجب طيب أردوغان) منذ عام 2002، لديها قطاع عام، ولديها قطاع خاص، بينما دولنا لا تعترف بوجود إلّا القطاع العام (الموظف)، وهنا الفرق،

    يجب أن يعترف الموظف (ثقافة الأنا)، بوجود الآخر (ممثل القطاع الخاص)، وأنه هو (الموظف) عالة عليه، وليس سيده،

  3. يقول S.S.Abdullah:

    كما هو حاصل الآن، بحجة أنه من آل البيت، ومن حقه تحصيل الخُمس، من (ثقافة الآخر) أي الذي ليس من جماعة آل البيت، كما هو حاصل في الكيان الصهيوني، أو في إيران، قبل بقية دول أهل ما بين دجلة والنيل وبقية أعضاء الأمم المتحدة على أرض الواقع،

    الإشكالية، عقلية اللوتي، أو من هو أكثر خبثاً مِن مَن بينهما، ليضحك على الآخر لسرقة ما لديه، بلا ثمن أو منتج مقابل ذلك،

    الإشكالية، في تكريم رئيس وزراء الهند (مودي)، في مؤتمر الحكومات الذكية في دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي في عام 2018، بحجة هو كان الأكثر خُبثاً، في إيجاد أسلوب إدارة وحوكمة لزيادة الإيرادات في الدولة،

    بلا أي زيادة في جودة وكفاءة الخدمات التي يجب أن تقدمها الدولة، بل بالعكس أن أسلوب إدارة وحوكمة رئيس وزراء الهند (مودي) تسبب في قتل 100,000 إنسان ولا حول ولا قوة إلا بالله،

    عندما ربط عدم تغيير عملة النقد الجديدة، بدون فتح حساب مصرفي، على الرقم الوطني، أي عمل (أتمتة للتعداد)، في الوصول إلى شرط صندوق النقد والبنك الدولي، (الشفافية)، لمعرفة ما موجود من أموال في الدولة،

    حتى يأخذ خُمس (آل البيت) كضرائب ورسوم وجمارك، لتمويل صفقات الأسلحة، لتمويل المال الربوي والتأمين عليه لرفع المسؤولية عن الموظف (الآلة/العالة/الروبوت)،

  4. يقول S.S.Abdullah:

    الرئيس (رجب طيب أردوغان)، رئيس الأتراك وعليه خدمة الأتراك، وليس خدمة المصري أو السوري أو العراقي،

    كتعليق على موضوع التقارب، مع الحكومات التي لا تؤدي واجبها مثله تجاه الشعب، كذلك حكومات دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي، أليس كذلك؟!??
    ?????

إشترك في قائمتنا البريدية