قالوا قديما: إن الخيل تجري في المروج على أعراقها، وفي الطلب على إقبال فرسانها، وفي الهزيمة على آجالهم. وكأنها السياسة في دوافعها ومساراتها، يحركها اختلاف الأحوال، وتتجه تبعا لرياح المصلحة، متحولة، متغيرة، لا تثبت على قدم، ففي السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، هناك مصالح دائمة، وفقا لتشرشل.
التقارب التركي المصري، حدث الساعة وحديثها، استولى على حيّز كبير من الاهتمام والتداول والتناول لأسباب، منها: أنه أعقب فترة من التوتر بلغت حد الحديث عن سيناريو الحرب المرتقبة، بعد سنوات من الحرب الباردة بين النظامين. ومنها: مصير آلاف المعارضين المصريين الذين فتحت لهم تركيا الأبواب، ووفرت لهم المناخ الآمن لممارسة أنشطتهم في معارضة نظام السيسي، الذي ألجأهم إلى العيش في المنفى، فأصبح الحديث الدائر في الوقت الراهن عن مدى القبول بهم، في ظل توجه القيادة السياسية للتقارب مع النظام المصري. ومنها: الاهتمام السخي بتقييم موقف أردوغان – الذي اتجه إلى التهدئة – وفق أخلاقيات السياسة التي اشتهر بها، بعد أن عارض الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي، وصعّد من لهجته المناوئة للنظام الانقلابي، سواء كان هذا التقييم من قِبل مؤيدي أردوغان أو خصومه.
الحديث عن ردة أخلاقية للقيادة التركية ضرب من الجهل السياسي، فالنظام التركي يدير بلاده كسائر الدول الديمقراطية، على مبدأ تحقيق المصالح وهذا قطعا لا يعيب أي نظام حاكم، بل على العكس من ذلك، فآفة معظم أنظمتنا العربية أنها لا تراعي مصالح شعوبها وأمنها القومي في سياساتها الخارجية، بل تتمحور سياساتها حول الاحتفاظ بالسلطة أطول فترة ممكنة.
لقد كان هذا التقارب آتيا لا محالة، لأن المعارضة المصرية منذ احتضان تركيا لها وحتى اليوم، لم تنجح في صنع ثقل سياسي مكافئ للنظام يمكن أن يعيد إلى مصر موجتها التحررية التي بدأت منذ ثورة يناير/كانون الثاني، في المقابل فإن الكلفة على تركيا كبيرة لا تتحملها الطاولة السياسية، فهناك معارضة قوية في الداخل التركي دائمة الرفض لسياسة أردوغان في التعامل مع النظام المصري، في وقت تحتاج الإدارة التركية إلى تقليص الجبهات، ومواجهة التحديات التي برزت في شرق المتوسط، والملف الليبي، ثم تولي جو بايدن زمام الأمور في أمريكا، وتغير خريطة التحالفات في المنطقة. ولعل من المناسب القول إن تركيا في هذا الشأن لم تغير سياستها في المنطقة العربية، بل استأنفتها بعد فترة استثنائية مع بعض الأنظمة التي تبنت الثورة المضادة للربيع العربي، فحكومة العدالة والتنمية منذ أن تولت إدارة الجمهورية التركية في بدايات الألفية الجديدة، اتجهت لأن تجعل من المنطقة العربية الإسلامية مجالا حيويا لها، استنادا إلى تاريخ طويل من التلاقح الحضاري بين العرب والأتراك تحت راية الدولة العثمانية الإسلامية، فسعت الحكومة إلى يومنا هذا إلى تمتين العلاقات مع الدول العربية قاطبة. نعم كنا نبتهج لتبني القيادة التركية خطابا خشنا ضد النظام الانقلابي في مصر، لتوافقه مع موقف كل الأحرار الساخطين على الانقلاب، وهذا أمر طبيعي، لكن بقانون المصلحة الذي يحكم سياسات الدول، فإننا لا نستطيع تخطئة هذه القيادة، التي لا ترى طائلا من القطيعة مع مصر بسبب نظامها القمعي، وأن الأحرى تعاملها مع مصر على قاعدة الملفات المشتركة، مع الاحتفاظ بثوابت أخلاقيات السياسة التي تنتهجها تركيا، والتي تظهر في استمرار نظرتها للانقلاب، واستمرارها في احتضان المعارضة المصرية، مع التوجيه بتخفيف حدة خطابها ضد النظام المصري، وإلزامها بمواثيق الشرف الإعلامية، لتحقيق التوازن بين رغبتها في تلطيف الأجواء مع مصر، واحتضان المعارضة في الوقت نفسه.
من أسوأ تداعيات هذا التطبيع، ما يجري على ألسنة وأقلام العديد من الإعلاميين في مصر وبعض الدول العربية، من محاولة تصوير القضية على أنها خضوع تركي للنظام المصري، رغم أن حاجة مصر إلى التقارب مع تركيا أشد من حاجة تركيا إلى مصر، فنظام السيسي غارق في الأزمات الداخلية والخارجية، اقتصادية وأمنية وسياسية، مع ضعف شديد في دوره الإقليمي، ويواجه أزمة مائية مع إثيوبيا تنذر بخطر جسيم، ولا ريب أن تركيا كقوة اقتصادية وعسكرية كبيرة في المنطقة سوف تفيد مصر في المجال الاقتصادي، وفي فتح أبواب القارة السمراء التي تملك تركيا مفاتيحها، كما أن مصر تحتاج إلى تركيا كحليف قوي في مواجهة العنت الغربي، في ظل ضعف علاقة الأولى بالخليج، وكلها أسباب تجعل من تقارب مصر مع تركيا ضرورة حيوية بالنسبة للقاهرة.
النظام التركي يدير بلاده كسائر الدول الديمقراطية، على مبدأ تحقيق المصالح وهذا لا يعيب أي نظام حاكم
لا أعتقد أن تركيا ستلجأ إلى التخلي عن احتواء المعارضين المصريين، أو تقوم بترحيلهم أو تسليمهم، وأنها ستقتصر على وضع الخطوط الحمر التي لا تتجاوزها المعارضة، وتحرج على إثرها الدولة التركية، وتضمن لها في الوقت نفسه ممارسة قدر مناسب من الأنشطة المعارضة، لأنه في تقديري لن تأخذ العلاقة شكل التحالف الاستراتيجي الكامل، فتركيا تكرّس لعلاقة ناضجة تقوم على التركيز على المتوافق عليه، فهي دولة عانت كثيرا من الانقلابات، وتأخذ ذلك في الحسبان لدى رسم سياساتها الخارجية، ولن تدخل في علاقة تماهٍ تام مع نظام انقلابي لدولة أخرى، إضافة إلى هذا، فإن تركيا لن تتخلى ببساطة عن مواقفها الأخلاقية التي أكسبتها تعاطفا وتأييدا كبيرين من الجماهير العربية والإسلامية، التي قدمت نموذجا جديدا في الدمج بين تحقيق المصالح ومراعاة المبادئ ما أمكن، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
لا اطيل في الحديث والتحليل ،اختصار اذكر القارئ
بقول المتنبي ( ماكل مايتمناه المرء يدركه ،تجري الرياح
بما لاتشتهي السفن) ،فالرياح تجري عكس تمنيات
اردوغان فهو مضطر لاعادة توجيه دفة سفينة
سياساته.