تُوحِّد المجتمعات البشرية حاجات فطرية أساسية كالتوق إلى الحرية والسعادة، في حين تفرّقها عـــــوامل عديدة من أهمها مستويات الرفاهية والتقدّم العلمي، غير أنّها، وعلى مدى تاريخها كانت تأخذ من بعضها البعض فتتقدّم أمم وتنهض بضوء علوم وتجارب أمم أخرى.
في مطلع القرن العشرين استفاقت الأمة العربية على فجوة هائلة بينها وبين الغرب المتحضّر، فلم يكن هناك بدٌّ من استنساخ تجاربه ونقلها إلى مجتمعاتنا. بدأت أولى ملامح النهضة ببروز عدد من الأدباء قدموا معظم نتاجهم الأدبي عبر أربع مدارس أدبية أوروبية، فظهرت تلك المدارس وتعاقبت خلال الربع الأول من القرن العشرين، في حين احتاجت عدة قرون لتظهر وتتطور من مدرسة إلى أخرى في أوروبا، وإلى الآن لا تزال تصوغ حياتنا التجارب الغربية، ولعلّ أهمها الديمقراطية. وهذه التجربة بحدّ ذاتها ليست عريقة حتى مهدها الأوروبي، فقد بدأت تتوطّد هناك بعد الحرب العالمية الثانية، رغم أنّ بذورها الأولى تعود لتواريخ أقدم، كالثورة الفرنسية عام 1789، ولكن يظلّ عام 1848 الذي شهد ما يسمى «الربيع الأوروبي، تاريخاً مميّزاً لأنّه تميّز بحراكٍ شعبيٍ عمّ معظم أرجاء القارة. بدأ في صقلية ثمّ امتد ليشمل أغلب الدول الأوروبية عدا إنكلترا وروسيا وإسبانيا وبلجيكا. نجح الصقليون فأسقطوا أسرة البوربون الحاكمة وأسّسوا جمهوريتهم ووضعوا لها دستوراً، قلّدهم الفرنسيون فظهرت جمهوريتهم الثانية واُختير لويس نابليون رئيساً، كما استمرت الموجة بالتحرك لتبلغ ألمانيا، حيث اجتمع المفكرون والمثقفون الثوار في البرلمان في فرانكفورت وأعلنوا عن مشروعهم لتوحيد ألمانيا وإنشاء دولة حديثة.
استمرّ الحراك حتى عمّت الثورة أغلب الدول الأوروبية، لم يكن أمام جميع الملوك بديل سوى القبول بطلبات الشعوب الثائرة أو حتى مجاراتها والإصغاء إليها. غلب على الحراك الطابع الاشتراكي؛ قادته وشاركت فيه الطبقة المتوسطة، كما صدر البيان الشيوعي بالتزامن معه، إلا أنّهم كانوا على درجة من الواقعية في مطالبهم، فحتى ماركس نفسه خفّض من سقف مطالبه لتقتصر على توحيد ألمانيا والاقتراع وإلغاء الرسوم الإقطاعية، لم يشفع كلّ ذلك للحلم الألماني الذي انهار سريعاً عقب نشوب الحرب الألمانية الدانماركية ليدرك المجتمعون في برلمان فرانكفورت أنّهم بلا حول ولا قوة، وقبل انقضاء عام 1849 عادت أسرة البوربون لتحكم صقلية، كما عاد الملوك لممارسة سلطتهم المطلقة على باقي الشعوب الثائرة، بعد تحرك جنرالاتهم الذين قضوا على تلك الثورات، مستعينين بتحالفات في ما بينهم وأخرى مع ممالك لم تصلها تلك الثورة كروسيا، لتكتمل خواتيم ذلك الربيع في فرنسا بإعلان رئيسها نفسه إمبراطوراً عليها، واتخذ اسم نابليون الثالث. لم يكن الانتصار الجزئي لتلك الثورات في بداياتها واقعياً، وإنّما رضخ الملوك لمطالب الثوار لكسب الوقت فقط، ولإعادة تنظيم الصفوف، ومن ثمّ الانقضاض على الثورة، كما لم يكن لدى الثوار قوة يدافعون بها عن أنفسهم في وقتٍ حافظت فيه الجيوش التقليدية على ولائها للملوك، التي كان جنرالاتها وقادتها ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية التي كانت تدين بوضعها الاجتماعي للنظام الملكي، ثمّ تقلّبت معظم الدول الأوروبية بين الملكية والفاشية لمئة عام أخرى؛ قبل أنّ يفرض انقسام العالم بعد الحرب العالمية الثانية إلى معسكرين رأسمالي واشتراكي وتنافسهما، الحاجة لمواجهة المد الشيوعي الذي تميّز بالحكم الديكتاتوري الشمولي، ولعلّ هذا هو أهم الأسباب وراء ظهور الديمقراطية وانتشارها في غرب وشمال القارة العجوز عدا إسبانيا، التي انتظرت حتى وفاة ديكتاتورها فرانكو عام 1975 لتبدأ الحبو على مدارج الديمقراطية، ثمّ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لم يكن هناك بدٌّ من وصول عدوى الديمقراطية إلى أوروبا الشرقية فسقطت الديكتاتوريات فيها، لتهبّ مؤخّراً نسائم الحرية والديمقراطية على الدول الخارجة من عباءة الاتحاد السوفييتي نفسه.
لا تكفي حركة التاريخ ووعي وتقدم المجتمع لإنجاح الثورات الشعبية وإنّما تحتاج لظروف خاصة كي تنجح؛ وهذا ما انطبق تماماً على النموذج الأوروبي منذ ربيعه الأول عام 1848، وحتى بدء ظهور وتبلور التجارب الديمقراطية أواخر الأربعينيات من القرن العشرين. تكرّرت تجربة الفشل تلك في الربيع العربي وسقطت معظم الثورات بالآليات نفسها التي سحق بها الربيع الأوروبي، كما تميّزت دول الربيع العربي بوجود كم من السلبية لدى الفئات المستفيدة منه، التي كان من المفترض أن تدعمه؛ وهذا ما يظهر جليّاً في نتائج الانتخابات؛ فبماذا يُفسّر وصول شخص مثل أحمد شفيق الذي كان يمثّل نظام مبارك بكلّ حذافيره إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية المصرية، قبل أن يخسرها بنسبة لا تتجاوز 1%، وكذلك حصول السبسي على أعلى نسبة من الأصوات في الجولة الأولى في الانتخابات الرئاسية في تونس، وهو الذي تقلّب بين العديد من المناصب منذ زمن بورقيبه كان آخرها عضويّته في اللجنة المركزية للحزب الحاكم زمن المخلوع زين العابدين بن علي حتى عام 2003، كما تنطق كل تفاصيله بما يؤكّد تمثيله للحرس القديم، لا يفسّر ذلك إلا بإحجام الكثيرين عن لعب دورهم والمشاركة في الانتخابات، يضاف إليه الدعاية الإعلامية التي قصرت الحراك الثوري الشعبي على الإسلاميين، ثمّ راحت تخوّف المجتمع منهم، وكلتا الفكرتين ليس صحيحاً، إذا ربح السبسي فستكون تونس أسوأ تجارب الربيع العربي، بعكس ما يروج له في الإعلام؛ لأنها رغم تمتعها بالهدوء فهي إذ ذاك ستكون الدولة الوحيدة التي خمد فيها الحراك الشعبي رغم فشل ثورته.
إذا اعتمدنا على الناحية النظرية في حساب الوقت اللازم لاستنساخ التجارب، فالمدارس الأدبية الغربية استغرقت فقط خمسة وعشرين عاماً لتتبلور وتتعاقب بأجمعها على الساحة الأدبية العربية، يعود هذا لأنّ التجارب المستنسخة عادةً ما تؤخذ نتائجها النهائية فقط ويتمّ تجاوز مراحل ظهورها وتطورها، ومن هذا المنطلق فلسنا بحاجة لمئة عام حتى نصل إلى الديمقراطية في الدول العربية أو بعضها، ولكن بالنظر إلى الحاجة إلى ظروف لإنجاح تلك التجربة تتعلق ببساطة في حالتنا بإرادة دولية تمنحنا ترخيص استخدام التجربة الديمقراطية الغربية، فربما علينا الانتظار إلى انتهاء المصالح الغربية التي تقتضي من منظورهم حتميّة بقاء بلداننا تحت حكم أنظمة ديكتاتورية، ولعلّ هذا ما لن يحدث قبل انتهاء عصر النفط أو سنحتاج إلى حدوث شيء في منطقتنا لا أعرف ما هو، يضطر الغرب إلى مواجهته بالديمقراطية وهذا ما أنصح بالبحث عنه وفعله فهو يظلّ أفضل من انتظار نفاد النفط.
٭ كاتب سوري
بشار عمر الجوباسي
سامحك الله يا أستاذ بشار
هل تريدنا الانتظار لمئة سنة حتى ينجح ربيعنا العربي كما نجح ربيع أوروبا
كلا لن نطيق الاذلال والعبودية بعد الآن
والآن الآن وليس غدا
ولا حول ولا قوة الا بالله