شحات – أ ف ب: نجت آثار مدينة قورينا القديمة من العنف الذي رافق الثورة الليبية والصراعات التي تلتها والفوضى، لكنها تواجه اليوم تهديدا من نوع آخر يتمثل في العبث بها وتخريبها وجرف أراضيها.
وتتوسط المدينة الأثرية المعروفة أيضا باسم شحات شرق ليبيا، وقد أسسها الإغريق في القرن السادس قبل الميلاد، وهي واحدة من خمسة مواقع في ليبيا أدرجتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي قبل عقود.
هنا تتوسد قورينا منطقة الجبل الأخضر الخلابة التي تتميّز بالتنوع النباتي وبحزام من الأشجار يمتد لعشرات الكيلومترات حولها، ولا تزال أعمدتها وجدرانها التاريخية قائمة، في تشكيل هندسي إبداعي، كأنه بني في الأمس القريب. كذلك لا تزال ترتفع تماثيل وجدران وأعمدة مشيدة من صخور ضخمة باللونين الأبيض والأصفر.
ويتجوّل في المكان عدد محدود من السياح تحت شمس الربيع الدافئة يزورون معبد أبولو أو معبد زيوس الأوسع مساحة من آثار بارثنيون على هضبة أكروبوليس في أثينا.
لكن مصير كل هذه الآثار الضاربة في القدم مهدد اليوم بفعل تعديات بشرية مختلفة، من عمليات تخريب عبر البناء والحفر العشوائي والسرقة.
ويقول المسؤول المراقب لآثار شحات عادل أبو فجرة من المدينة الأثرية «المشكلة الأكبر تتمثل في تعديات المواطن، إذ يقوم أشخاص كثيرون بجرف بعض المواقع التي تضمّ آثارا، وتقسيمها وبيعها، ويتم بناء منازل سكنية فوق هذه المواقع التي لا تقدر بثمن».
وتعود ملكية أجزاء كبيرة من الأراضي المحيطة بالمدينة الأثرية لمواطنين يرفضون قرارات حكومية بوقف استخدامها لأغراض سكنية وتجارية، بحجة أن معظمها تتواجد تحتها آثار محمية.
ويشير الى أنه من الصعب تحديد حجم التعديات «فالمواقع التي تتعرض لاعتداءات ليست ضمن المنطقة المسيجة الواقعة تحت حمايتنا (…) بعض الناس دخلوا الى أراضيهم التي كانت بحوزة الدولة وقاموا بتقسيمها وبيعها وبناء مساكن فوقها».
ويرى مسؤول المتاحف في شرق ليبيا إسماعيل دخيل أن السنوات العشر الأخيرة شهدت أبرز التعديات على المواقع الأثرية في شحات.
ويضيف «تعرضت شحات للكثير من الانتهاكات، من الكتابة على المباني الأثرية وتعرضها للكثير من عمليات الحفر العشوائي، واستخرجت منها قطع أثرية هربت إلي الخارج».
ويتابع «نعاني أيضا من البناء العشوائي، إذ يكثر الزحف العمراني على المواقع الأثرية ويؤدي بدوره إلى انتهاكها وتدميرها بنسبة تصل بين 20 و30 في المئة من إجمالي مساحتها».
وأدرجت منظمة اليونسكو مدينة شحات الأثرية وأربعة مواقع ليبية أخرى على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر في تموز/يوليو 2016، بسبب الأضرار التي لحقت بها والتهديدات الكثيرة المحيطة بها.
وأشارت آنذاك إلى أن ليبيا لا تزال تعاني من «عدم الاستقرار» الذي يجعل هذه المواقع في دائرة «التهديد الأمني» و»التعديات البشرية».
ويعتقد الباحث التاريخي الليبي أحمد فرج أن ضعف القانون من أهم أسباب استمرار التعديات التي تطال المواقع الأثرية، مشددا على ضرورة مراجعتها وإعادة النظر فيها.
ويقول فرج العضو في اتحاد بلديات التراث العالمي في ليبيا «قانون حماية الآثار في الحقيقة رغم عراقته وقدمه في ليبيا (…) يحتوي ثغرات وضعفا».
ويضيف «القوانين لم تعدل وبقيت على حالها، الى جانب ضعف آليات تطبيق القانون بحق المخالفين».
ويعود قانون الآثار وحمايتها في ليبيا الى العام 1995. وبالرغم من معاقبة المخالفين والمعتدين على المواقع الأثرية بغرامات مالية والسجن، يظل القانون بحاجة إلى مراجعة تتماشى وحجم التعديات الحديثة وشكلها.
ويشاطر مسؤول المتاحف في شرق ليبيا إسماعيل دخيل الباحث رأيه، مؤكدا أن ضعف العقوبات جعلت المواطنين «يتساهلون» بالاعتداء على المواقع الأثرية.
ويطالب فرج بفصل مصلحة الآثار والجهات التابعة لها عن السلطة الحكومية المباشرة، وإنشاء مجلس أعلى مستقل للآثار.
في المقابل، يرى سعد محمود، وهو صاحب أرض زراعية في المنطقة، أن على السلطات وضع حلول لقضية أصحاب الأراضي في محيط المدينة الأثري.
ويوضح قائلا «يطالبوننا بوقف استخدام أراضينا الواقعة في محيط الآثار بدعوى أن آثارا غير مكتشفة مدفونة تحتها (…). هذه أرضنا ولكل شخص الحرية في استغلالها».
ويشدد على ضرورة منح تعويضات لأصحاب الأراضي لإنهاء هذه القضية.
ويقول «على الدولة وضع الحلول المفقودة وتعويض أصحاب الأراضي بما يتوافق وارتفاع الأسعار الذي جعل شراء أراضي بديلة صعباً».
كما يطالب بوضع مخطط يوضح للمواطنين المواقع المحتملة للآثار المدفونة «لكي ينتبه المواطن ولا يتسبب دون قصد في أعمال حفر عشوائية تدمر الآثار».