دعوا السماء قريبة

حجم الخط
0

ذات يوم قال لي أحدهم هل تستطيع إثبات وجود خالق، قلت أنا الدليل الحي الواقف أمامك على وجوده وتركته ومضيت، لا أشغل بالي كثيرا لجرجرة أحد إلى الإيمان، الإيمان حالة قلبية تراقص العقل، يقين بإله قادر حكيم رحيم، اطمئنان يجتاحك فتنام آمنا كأن السماء تطبطب عليك وتهدهدك كطفل صغير تُحكم أمه عليه الغطاء في ليلة باردة، حالة لا يمكن تفسيرها، ولا وصفها ولا شرحها.
والحقيقة أن الملحد ليس خطرا في ذاته، فغالبيتهم نفوس هشة ضعيفة بحاجة إلى الرحمة. الخطر يكمن فيمن يختطفون السماء ويتعاملون بوكالة حصرية مع مسألة الإيمان. وكالة تبدأ من تبني رأي أحادي يجعل من المؤمن وكأنه يعبد إلها يستحيل إرضاؤه، وتنتهي بسفك الدماء، وهي أعراض طبيعية للدوغما الدينية إذا حكمت أو تحكمت.
في منظومة الفقه الإسلامي خاصتنا توجد أحكام شديدة التفصيل والسرد والاستطراد تمتلئ بها الموسوعات الفقهية، والحواشي الشارحة التي تعد بالآلاف.. كمٌ هائل من التفاصيل الدقيقة تجعلني كلما طالعتها يسرح خيالي بعيدا في السديم الكوني، الذي تسبح فيه ملايين المجرات بمساحات يستعصي على العقل البشري اسيتعابها، ثم أتساءل؛ هل إله بهذه القدرة الجبارة على الخلق يأمر بتفاصيل دقيقة كهذه؟
حقا؛ «وما قدروا الله حق قدره».
الخطورة تكمن أيضا في من يدعو للكراهية باسم السماء. نخرج في مراهقتنا بحثا عن الله بالحب، فيدخلونا إليه من باب الكراهية، فينجو من ينجو، ويكمل طريق الكراهية حتى النهاية من يكمل. عملت فترة في قناة دينية، وكان الشيخ يهدر أمامي في التليفون صارخا في صديقه، حين يئس من محاولة الصلح بينه وبين آخر: ادخر كراهيتك لليهود والنصارى يا أخي. أغلق الخط، فبادرته بالسؤال؛ ثم ماذا بعد كره اليهود والنصارى؟ هل نكره البوذيين والهندوس والسيخ واللادينيين أيضا؟ بيقين قاطع أجاب نعم. ونكره أيضا المتصوفة وفرق الكلام، إلخ؟ بوصفها فرقا مبتدعة حسب السردية الأصولية؛ إجابته «فمن نكره إذن؟» لم تثر دهشتي، ففرقتهم وحدها هي الناجية من هذا الطوفان البشري الهادر. والحقيقة أن الرجل مسكين، فهو ليس بدعا من الطبيعة البشرية، فعلى ضفاف كل الأنهر الأخرى يرى الجميع أنهم وحدهم هم الفرقة الناجية.
أما الأخطر من الجميع فهو من يدعو أتباعه إلى سفك الدماء باسم الدين، وكأنه يدعوا لإله انتقامي متعطش لسفك الدماء. قد يكون للحروب الدينية مبرر في فجر التاريخ البشري، حيث الطوطمات الوثنية، وحيث كل إله ملكية خاصة للقبيلة تخاض من أجله الحروب، وتذبح له الأضاحي البشرية. أما وقد أصبحنا في مطلع الألفية الثالثة من تاريخنا البشري ولا يزال الدم المقدس يراق فهو ما يدعو للعجب.
في سوريا حيث المسرح مفتوح على مصراعيه للوكالة باسم السماء من كل لون، وملة، وطريقة، وحيث الرصاص يبارك قبل إطلاقه في أحياء باسم الحسين، وأبي الفضل العباس، وزينب الكبرى في استعادة دائمة لكربلاء سرمدية أبدية لا تنتهي، وفي أحياء أخرى تجيش الفصائل بخيول أبي بكر، ورايات خالد سيف الله المسلول، وترشم الطائرات الروسية باسم الصليب، كي تسقط البراميل المتفجرة على الآمنين كالمطر، صرخ طفل ملتاع محترق، سأخبر الله بكل شيء قبل أن يسلم أنفاسه الأخيرة ويرحل.
متى يدرك الجميع أن الأديان في جزء كبير منها صناعة بشرية خاضعة لتطور الجنس البشري، وتطور معارفه وعلومه، ولا وجود في الحقيقة لطريق واحد قويم «وهم الأرثوذكسية». فالذات الإلهية ذات متعالية أكبر من أن يحيط بها ولا بمعارفها العقل البشري، وهو ما تؤكده حتى الأدبيات الدينية التقليدية، تتجلى للعقل والوجدان البشري بقدر تطور العقل نفسه الخاضع للترقي والارتقاء، حسب صيرورة الزمان والمكان، كما أن العقل البشري أيضا يسعى لاستكناه مضمونها، فيعطى كلا بقدر سعيه، لذلك فإن لكل طريقه إلى الله. يقول محيي الدين بن عربي في نص شديد الدلالة؛
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صارَ قلـبى قابلاً كلَ صورةٍ
فـمرعىً لغزلانٍ ودَيرٌ لرُهبانِ
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـبةُ طائفٍ
وألـواحُ تـوراةٍ ومصحفُ قرآن
أديـنُ بدينِ الحبِ أنّى توجّهتْ
ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـنى وإيـمَاني.
حري بنا إذا أن نزيل الوكلاء والمتاريس بيننا وبين الله، وأن نعلم أن السماء عادلة ورحيمة وحانية ووديعة، وبارة بابن الإنسان الهومسبيانز أضعف مخلوقاتها. حينها سنرى الله فى كل شيء؛ سنبصره في وردة، ونقابله في البساتين، ونمجد اسمه في ضحكات الأطفال، وسنغفو في نهاية العمر معانقين الأبد، وخارجين إلى النهار، بدون خوف أو وجل.

كاتب وإعلامي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية