«القرآنية» موضوع سرديات القرآن الكريم

حجم الخط
8

سألني مرة الزميل الباحث إبراهيم الحجري في حوار أجراه معي لمجلة «نزوى» عن أسطورتي الشخصية، بعد أن اطلع على بعض الدراسات التي جعلتها تدور حول هذا المفهوم في السرد الغربي، فقلت له: دراسة القرآن الكريم.

لقد تولدت لديّ هذه الفكرة منذ بداية الثمانينيات، عندما بدأت أشتغل بالسرديات. وكان لزاما تأجيل تحقيق هذه الفكرة، بسبب الانهماك في تطوير السرديات نظريا وتطبيقيا. ومنذ أربعين سنة، وأنا أشتغل بالسرد الحديث والقديم، عربيا وأجنبيا، ظل اطلاعي على ما يكتب حول القرآن الكريم من قبل العرب المسلمين، والأجانب متواصلا، وفي الوقت نفسه كانت سماعاتي وقراءاتي لهذا النص مستمرة. وفي كل مرة كانت تظهر لي أشياء جديدة، فأدونها طورا، وتارة أتركها تختمر في ذهني.

لا يمكن لأحد أن يزعم الاطلاع على كل ما كتب عن القرآن الكريم، لكن توفر النصوص مع المكتبات الإلكترونية جعلني حريصا على تتبع أغلب ما كتب عنه، وتبين لي أنه يمكننا استجماع أغلب ما كتب عنه في اتجاهين كبيرين، يضم كل منهما اتجاهات متعددة. الاتجاه الأول داخلي يسعى إلى الاشتغال بشرح القرآن وتفسيره وتأويله. والاتجاه الثاني خارجي يركز على ما يحيط بالنص، وظروف تشكله وتدوينه، ومقارنته بغيره من النصوص الدينية. ساهم العرب المسلمون قديما وحديثا بالقراءة الأولى، بهدف تقريبه من المتلقين، يحذوهم في ذلك هاجس تأكيد قدسيته. أما القراءة الثانية فأغلب ممارسيها من المستشرقين، ومن يسير على منوالهم من العرب، وكلهم يسعى إلى نزع القدسية عنه، والتشكيك في ما يسلم المسلمون بخصوصه. اعتمد أصحاب الاتجاه الأول على العلوم العربية القديمة، وعلى رأسها اللغة والبلاغة. أما الاتجاه الثاني فاعتمدت فيه العلوم الاجتماعية والإنسانية والتاريخية. وكانت الفيلولوجيا وعلم الأديان المقارن على رأس تلك العلوم.

تختلف القراءة السردية، التي نروم الاشتغال بها على النص القرآني في كونها تنطلق من النص في ذاته، بهدف فهمه عبر تحليله من الداخل، ولا تهتم بالدرجة الأولى بما هو خارج عنه، سواء تعلق بالسياق أو أسباب النزول، التي تلجأ إليها ليس لممارسة التفسير، لكن لإنجاز عملية الفهم. لا يمكن أن نتحدث عن التفسير دون الفهم. وهذا الفهم يجب أن يتأتى لنا من داخل النص لا خارجه. كما أن هذه القراءة السردية لا تهمها كل الآراء التي تنزع عنه نصيته، بدعاوى فيلولوجية أو تاريخية، لأنها لسبب بسيط لا تقرأ النص، لكنها تظل «تحوم» حوله، وكل ما تقدمه بصدده يظل عبارة عن آراء لها درجة قليلة جدا من المصداقية، لأنها ليست سوى تجميع مواد تاريخية، ومحاولة تلفيقها لتأكيد أفكار مسبقة. إن ما يهمنا هو النص المتداول والمقروء الذي يفرض علينا ضرورة تحديد موضوع دراسته. وما خلا ذلك من محاولات لصناعة نص آخر، فيتطلب قراءة استكشافية أخرى؟ أما القراءات الداخلية فكانت تتعامل مع النص بطريقة تجزيئية وخطية. وحتى القراءات التي ركزت على سور بعينها ظلت بدورها تجزيئية تروم الوقوف على السورة، دون وضعها في نطاق النص في كليته وشموليته.

تختلف السرديات في قراءتها للقرآن الكريم، كما أتصورها، لأنها تسعى إلى ممارسة التحليل المحايث، وحين نقول التحليل نفترض أننا أمام بنية كبرى تتضمن بنيات صغرى، وبينها جميعا علاقات علينا أن نمسك بها، وننظر في مختلف الإجراءات التي تضبطها، سواء على المستوى التركيبي أو الدلالي. ولممارسة «التحليل» لا بد لنا من تحديد «الموضوع» الذي ننطلق منه.

إن السرديتين الأفقية والعمودية، تتقدمان إلينا من خلال نص يتعإلى على الأجناس الكلامية، التي عرفها العرب قبل نزوله. فهو ليس شعرا، ولا خطابة، ولا سجعا، ولا حتى بعده عبر الأجناس والأنواع المعروفة إلى الآن.

بعد إعمال النظر الطويل، انتهيت إلى اعتبار ما أسميه «القرآنية» الموضوعَ الذي يمكنني الانطلاق منه والبحث فيه. وأقصد به «الخصوصية» النصية التي تعطيه صفته المميزة، باعتباره خطابا ونصا يختلف بهما عن غيره من النصوص، التي أنتجت قديما وحديثا. يمكن لمتسائل أن يقول إن موضوع السرديات في كل تاريخها هو البحث في «السردية» التي يتميز بها الخطاب السردي، أيا كان نوعه، عن غيره من النصوص. وتلاؤما مع المقصود من سرديات القرآن الكريم، ينبغي أن يكون الموضوع «سردية القرآن الكريم». اعتراض وجيه., ولا لأحد أن ينكر سردية القرآن الكريم، التي أحددها من خلال بعدين: عام وخاص. أما العام فنجده في كون القرآن الكريم يقدم لنا «قصة» الإنسان باعتباره خليفة في الأرض. وتتحدد هذه السردية، أفقيا، من خلال الأفعال السردية، التي تتأطر على محور دلالي يقع بين الخلق والبعث. أما السردية الخاصة فنجدها في ما يتضمنه النص عموديا من قصص الأنبياء، وأخبار…

إن السرديتين الأفقية والعمودية، تتقدمان إلينا من خلال نص يتعإلى على الأجناس الكلامية، التي عرفها العرب قبل نزوله. فهو ليس شعرا، ولا خطابة، ولا سجعا، ولا حتى بعده عبر الأجناس والأنواع المعروفة إلى الآن. هذه الخاصية الجنسية المتعالية تجعله يضم أنواعا متعددة يحتل فيها السرد مكانة متميزة. لذلك نعتبر «القرآنية» ميزة يختلف بها عن غيره من النصوص، وهي تتجلى في بنياته الكبرى وعناصرها والعلاقات التي تربط بينها. وهنا يتحدد موضوع سرديات القرآن الكريم.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آصال أبسال:

    /إن السرديتين الأفقية والعمودية، تتقدمان إلينا من خلال نص يتعالى على الأجناس الكلامية، التي عرفها العرب قبل نزوله. فهو ليس شعرا، ولا خطابة، ولا سجعا، ولا حتى بعده عبر الأجناس والأنواع المعروفة إلى الآن/.. اهـ
    حقيقة، أخ سعيد يقطين، هذا الكلام ليس دقيقا، ولا حتى صحيحا بالمطلق.. ففي أي من المعاجم العربية العربية المعتمدة، تجد تعريف «السجع»، خاصةً، على النحو التالي: السَّجْعُ هو الكلام المُقَفَّى غير الموزون.. وعلى هذه الشاكلة بالفعل، يسير الكلام في القرآن الكريم في جله، إذا ما قلنا في كله.. وفوق ذلك أيضا، يتخلَّل هذا الكلامَ، في الكثير من المواضع، كلامٌ موزونٌ أيضا، وحتى في آيات بأكملها، وعلى طريقة التفعيل المتَّبعة في الشعر الحديث.. فعلى سبيل المثال، لا الحصر:
    (1)
    «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا».. /فعولن فعولن فعولن/..
    (2)
    «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ».. /فاعلن فَعِلُن فاعلن/..
    إلى آخره.. !!

    1. يقول سعيد يقطين:

      شكرا الأخ أصال على ملاحظتك المهمة. أقصد بالسجع سجع الكهان. والكلام الموزون نجده حتى في اللغة اليومية، وفي المنظومات التربوية، وهو لا يدرج الكلام ضمن الشعر كما نعرفه من خلال التراث الشعري العربي وأغراضه المختلفة.

    2. يقول آصال أبسال:

      وبالنسبة لقولك إن «الكلام الموزون نجده حتى في اللغة اليومية [..] وهو لا يدرج الكلام ضمن الشعر كما نعرفه من خلال التراث الشعري العربي وأغراضه المختلفة»..
      ومن المعروف أيضا أن جل النقاد الكبار وجهابذة الكلم، إن لم نقل كلهم، يتفقون على أن كلام القرآن الكريم يتميَّز بالروح الشعرية في أسمى وأرقى معانيها.. فإذا كان الكلام غير الموزون منه (من القرآن الكريم) يتميَّز بهذه الشعرية السامية والراقية، فإن الكلام الموزون منه لَيتميَّز بهذه الشعرية حتى تميُّزا أكثر، أليس كذلك مرة ثالثة.. ؟؟

  2. يقول S.S.Abdullah:

    أين الله، في عنوان («القرآنية» موضوع سرديات القرآن الكريم)، أو ما ورد تحت العنوان يا (د سعيد يقطين)، طريقة فهم فلان أو علان بعقلية إنسان، مؤمن أو غير مؤمن شيء، وأن يكون الكاتب هو الله شيء آخر، يا (د سعيد يقطين)،

    ومن وجهة نظري دولة (ماليزيا) أبدعت، عندما أصدرت قانون، بعد أن وصلت إلى المحكمة الدستورية، في محاججته، أهل أي دين غير لغة القرآن وإسلام الشهادتين، من استخدام لفظ الجلالة (الله) في تسويق فكره، داخل (ماليزيا)،

    فالشيعة/الصوفية التي تستخدم إضافة (شهادة ثالثة)، وإلا أنت لست بمسلم، منعت الدولة عليهم استخدام لفظ الجلالة (الله) قبل المسيحي أو اليهودي أو البوذي والهندوسي والملحد،

    بل يستخدم كلمة رب أو إلاه (إله) لتسويق فكره في أي شيء من خلال (التدوين اللغوي)، وهذا ما تحتاجه دولنا لو أردنا السلام الاجتماعي،

    وبعد ذلك نجحت (ماليزيا)، في خلق مؤسسة (الحلال)، لمنع الغش والفساد في منتجات يتم تسويقها في الدول الإسلامية.

  3. يقول S.S.Abdullah:

    ولذلك منذ عام 2020 بدأ مشروع صالح التايواني، بداية من العراق وتركيا، تسويق مفهوم أتمتة سوق صالح (الحلال)، من أجل إنقاذ الاقتصاد، من غش وفساد الإتفاق التجاري،

    الذي يأكل حق الدولة من الرسوم والضرائب، لتوفير خدمات أفضل وبكفاءة تستطيع أن تنافس في أي سوق حر في أجواء العولمة مثل دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي، التي نجحت في تكوين صناديق سيادية من أجل (الاستثمار) يستفيد منه الأسرة الانسانية، في كل مكان.??
    ??????

  4. يقول خليل مطران (حفيد شاعر البلدين):

    أؤيد بشدة كلام الأخت الدكتورة آصال أبسال بخصوص السجع ومشابهته بأسلوب القرآن، لأن السجع ذاته (وهو الكلام المقفى غير الموزون، كما نوهت الأخت آصال) كان قد اقترن في العصر الجاهلي بالكهان أصلا، حتى لو كان الأخ سعيد يقصد (سجع الكهان) وكأنه يختلف عن (السجع بدون الكهان)

  5. يقول خالد الربيعي - العراق:

    أستاذ سعيد يقطين جوابك على الملاحظات الصائبة من الدكتورة آصال أبسال يدل على خلل جوهري في فهمك لبنية وماهية السجع في عصر الجاهلية – في هذا العصر في حد ذاته، السجع لم يرتبط إلا بشريحة الكهان، ولم يكن هناك سجع عصرئذ بدون هذا الارتباط في بداياته !!!!؟

  6. يقول عزيز شهمان:

    السرديات تقارب السرد بصفته انتاجا بشريا تخييليا، وليس هناك سرد في القرآن، بل الحكي، والحكي ليس مؤسسا للخطاب السردي في شموليته.
    لا يمكن مقاربة المقدس بأدوات المتغير، والسرديات تشتغل على الدينامية اللسانية الانسانية…

إشترك في قائمتنا البريدية