العرب وضرورة بناء قناطر تربوية جديدة

لن يختلف اثنان على أننا في هذا العالم لا يمكن أن نعود، بعد شفاء الناس من هذا الوباء، إن شاء الله، إلى إيقاعات الحياة السابقة في تجلياتها الثقافية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية كافة.
سنعرف مجموعة من التحولات على مستوى اختيارات الدول وتوقعات وانتظارات الشعوب. في بساطة، العالم سيعرف على الأقل تغييرا جذريا في طبيعة سياساته التعليمية والصحية، إلخ.
عالم سيعد نفسه لما من الممكن أن يعرف لاحقا من هزات لا قدر الله، قد تكون شبيهة بهذا الوضع الوبائي أو غيره، من كل ما من الممكن أن يعيد العالم إلى وضع غير عادي.
هاجس جر العالم إلى أي خندق بحثا عن الربح والتحكم في حرية الناس، وتحويلها إلى وسيلة لتحقيق أطماع القلة المتحكمة في عالمنا، هو اليوم فعل لم يعد في بقعة الخفاء، وهو ما تحلله الفلسفات المعاصرة ذات الميول والدفاع عن إنسانية هذا العالم، ومن جملتهم طبعا المفكر الفرنسي إدغار موران.

اختيارات العالم والعرب

ضمن هذا الإطار، من الممكن طرح أسئلة عديدة تتعلق بطبيعة اختيارات العالم والعرب على وجه الخصوص، ضمن التحولات الحالية التي يعرفها العالم، وضمن أيضا خطة استباقية لأي جائحة أخرى قد تحل بالعالم.
أسئلة التربية والتعليم، في اعتقادي المتواضع، هي اليوم لب تفكير الجميع، بل عليها أن تكون كذلك وتتبوأ مكانة أولى في حياتنا. المدرس وما يرتبط به من خدمات، مدخل حقيقي لتطوير قدرات المجتمع. إصلاحات عديدة قامت بها كل الدول العربية ومنذ حصولها على الاستقلال إلى الآن. فيها ما هو مرتبط بالجانب الإداري، وما هو مرتبط بالجانب التقني والقانوني والمالي ومحتويات التعلم، إلخ.
لن ننبش في كوننا عربا، لا نملك مشاريع بيداغوجية عربية قحة طورناها انطلاقا من جهود ما تركه العرب القدامى في مجال كيفية التعلمات، وما يرتبط بذلك من جهود حققها البحث العلمي التربوي، بل لنكن صريحين، خرجنا من دائرة هذا التصور، وأدرنا وجوهنا لما يحققه الغرب من نتائج في مجال البحث التربوي، انطلاقا من تقسيمنا كدول عربية، جزء منها تابع للثقافة الأنكلوفونية، وجزء آخر تابع للثقافة الفرنكوفونية، وفينا من يأخذ من هنا وهناك. (نستهلك كل شيء حتى المفاهيم والنظريات التربوية).
هذه هي حقيقة علاقتنا بواقع البحث العلمي التربوي والعلمي ككل، طبعا بدون التنكر لبعض الجهود الفردية والجماعية والمؤسساتية، التي تكون نهايتها الرفوف، بدون استلهام المفيد منها ومحاولة خلق التراكمات المفضية إلى النوع.
ما يهمنا هنا، وضمن الأسئلة المطروحة سابقا هو، كيف يمكن تطوير واقع التربية والتعليم في بلداننا العربية، في ظل الجائحة، وفي ظل التحولات الكبرى التي يعرفها العالم؟
ما زلنا أسيري البحث في كيفية تلقين المحتويات المسطرة في الكتب المدرسية. المدرس بدوره وفي عالمنا العربي، همه في المجمل، كيفية نقل ما هو مسطر و”بأمانة” إلى دفتر المتعلم. والمراقب التربوي ما زال بدوره، وفي المجمل يراقب وفق ما هو مسطر لديه، والكل يراقب وفق ما هو مخطط، ما جعلنا ندور في حلقة مفرغة مفادها كيف نكون “أوفياء” في تلقين ونقل ما سطر من محتويات بيداغوجية، بدون القدرة على التفكير في كيفية تطويعها وفق حاجات المتعلم، وهنا فقدنا لذة التعلم، بل فقدنا كيف نجتهد في ربط التعلمات بواقعنا العربي وطبيعة المتعلم العربي في ظل عالم يتحول، وفي ظل عالم إيقاعاته تسير بشكل سريع ومدهش.
ربط التعلم بالتفكير والنقد، وكيفية البحث عن فن العيش/الحياة والاشتغال على القيم والذات وكيفية إسعادها وربطها بمحيطها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتربية على الجمال ومحاربة العنف والتطرف وغيرها، محتويات من الصعب أن نجدها تحتل أفق تفكير الدرس التربوي العربي في قاعاته من المحيط إلى الخليج. كيف، ومن خلال ما أعلم للمتعلم، أجد قنطرة مرور للذهاب إلى حاجيات المتعلم المجتمعية، والعودة منها نحو ما أقدم للمتعلم، نشاط بيداغوجي وتربوي وثقافي وسوسيولوجي، لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن التفكير في تكوين مستمر وفي كيفية استخدام جوانب من المحتويات التي نعلم، وفق طبيعة المتلقي وحاجياته المجتمعية المتعددة.
في المجمل نجحنا في تكوين مدرس يحسن التلقين وبناء التعلمات كما هي واردة في المراجع التربوية الرسمية، ولم ننجح في جعل هذا المدرس مبدعا في بناء تعليمه وربطه بأفق انتظار المتعلم وحاجاته المجتمعية المتعددة، وانطلاقا من هذه المرجعيات الرسمية، التي بدورها من الممكن أن نجد فيها هوامش عديدة تسمح بالاجتهاد، وبدون الاعتقاد أن هذه القنطرة التربوية تهدف إلى التخلي عما هو مسطر وبشكل رسمي.

قنطرة مرور تربوية

أن تعلمني جدول الضرب، أو قاعدة نحوية، أو معلومة تاريخية أو جغرافية، أو أدبية أو رياضياتية أو طبيعية أو فيزيائية، إلخ، تبقى مجرد معلومة هي متدفقة في الإنترنت اليوم وبشكل مذهل. لكن، أن تعلمني هذه المعلومة وتربطها بحاجاتي كمتعلم، هو التحدي الكبير الذي ما زال تعليمنا العربي غير مهتم به.
نحن في أمس الحاجة إلى بناء قنطرة مرور اصطلحت عليها بقنطرة تربوية رابطة بين القسم والعالم الخارجي. لن أنسى تلك اللطمة الكبيرة على وجهي، حينما لطمني أبي رحمه الله، لأنني لم أعرف أن أقرأ وأنا طفل صغير وثيقة عدلية مكتوبة بغير الخط الذي نقرأ به في المدرسة (وكان رحمه الله قد أتبع اللطمة بسؤال مدو إلى اليوم قائلا: أشنو تيقريوكم في المدرسة؟). أحسست بظلم كبير، لأن أبي، كانت له حاجة مجتمعية تتعلق برغبته، وهو الرجل الأمي، في قراءة وثيقة مكتوبة بخط غير الخط الذي نقرأ ونكتب ونتعلم به داخل القسم (تمزق بين المقروء في القسم وحاجة المجتمع). أحسست حينها أننا نتعلم بخط غير الخط الذي كتبت به تلك الوثيقة. العبرة هنا، أننا نتعلم ما لا يمكن أن يفيدنا في حياتنا الخاصة والعامة. إذا كان هذا إحساسي وأنا طفل صغير، تألم بتلك اللطمة التي كانت على وجهي، وهي اللطمة التي لا أتحمل مسؤوليتها، فما بالك في ظل هذا العالم المتحول دوما؟
نجحنا كعرب في بناء العديد من القناطر الكبرى التي بنيت بطراز جميل وعال، ولم نفكر في بناء قناطر تربوية من الممكن أن تطور عقليات من يمشي ويقطع تلك القناطر الشامخة التي بنيناها في مدن عربية عديدة، ونالت إعجاب الناس. تطوير التعليم العربي، لن يتحقق فقط بالبحث في جوانبه المالية والمادية واللوجيستيكية والقانونية، وتوفير الموارد البشرية التربوية والإدارية وغيرهما، بل لابد من التفكير في الطرق البيداغوجية التي ما زالت بعيدة عن ربح رهان التجديد الحقيقي على الرغم من المجهودات المبذولة.
المعارك الحقيقية لربح مكانة تحت الشمس وفي هذا العالم وعولمته التي لا ترحم، يتحقق ربحها في كيفية بناء تعلمات جديدة ومفيدة ومحققة لتطوير حقيقي، لقدرات المتعلم وذوقه ومخياله وتربيته على النقد والاختلاف والجمال، وربط كل ذلك بحاجاته في زمنه الحالي والآتي ومجتمعه وعالمه ككل، إنه وببساطة ما يمكن تسميته بالتعلم النافع مدى الحياة.

كاتب من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الكريم البيضاوي:

    أنا أزعم أن ” لولا المدرسة الغربية الفرانكوفونية في عهد الاستعمار والحماية لدول شمال افريقيا , لرأينا حال الناس فيها اليوم لايختلف كثيرا عن حال مواطني أفغانستان. يكفي العودة للصور الثابتة والمتحركة من زمان الحقبة.
    لانخدع أنفسنا , صرحاء يجب علينا أن نكون مواطنين عاديين ونخبة , علينا أن ننسى عملية نفخ الصدر ومحاولة الظهور بما لانملكه. علينا أن نتواضع كي نتعلم . أمم سبقتنا ففعلت ونجحت.

  2. يقول CHOUAIB BARAKAT:

    موفق أستاذي الكريم

إشترك في قائمتنا البريدية