ظلّ مصطلح الجيل يحتفظ بنجاعته في دراسة الظواهر الفنية التي مرّت بها الشعرية العربية، لكن مع انفجار متون هذه الشعرية وتجدّد حواملها الثقافية صار من الصعب تأطير الحالة الشعرية الراهنة، بما في ذلك الحامل التكنولوجي الذي أتاح للشاعر المعاصر قدرا كبيرا من الحرية والتواصل والانتشار، بدون الحاجة إلى الانضمام لجماعة، بقدر ما قضى على خصوصية الشعر ونخبويته الفنية على الأقل، إلا أن ذلك في المقابل وسّع من هامش الادعاء، وأطلق الحبل على الغارب في غياب نقد جادّ ومتفاعل أو حوار شعري- شعري.
تتجاور في مشهد الشعر المصري مجموع الأشكال الشعرية، لكنه تجاور «خادع» لا يعكس الفروقات الزمنية والفنّية والأبعاد السوسيوثقافية، بل أحياناً يكرس ثقافة «الشيخ ومريديه» ويجرّم قتل الأب، ومن ثم يعطل مسيرة الإبداع والتجدد. ورغم الهيمنة الظاهرة لقصيدة النثر، فالمشهد يتمدد أفقيّاً باستمرار، ولا يعكس أسئلة في الصميم، ولا صراعًا بين الأجيال، فوراء كلّ شكل شعري معيّن حوافز خاصة (مادية، اعتبارية..) ومريدون ووسائل دعاية.
لكن هذا لا ينفى الرغبة الدائمة في التجديد، وفي تأسيس التراكم النوعيّ، الذي بدأ جيل السبعينيات واستأنفه من جاء بعدهم، على تفاوت بينهم في التأثير وفي تجذير المنجز الفنّي واستحقاقاته الجمالية، بما في ذلك شعراء العامية.
سامح محجوب: الشعر.. الراهن والمرتهن
قبل عقدين أو ثلاثة كان يمكن تأطير الحالة الشعرية في أي مدينة أو دولة ببساطة؛ حيث كانت الظواهر ومسبباتها واضحة، ويمكن رصدها بسهولة ويس، من خلال الصحف والدوريات الأدبية والثقافية، إلى جانب الحضور في الوسط الشعري كمشارك أو متلقٍّ أو متابع صحافي، لكن بالكسل والتقليد والتقاعس سرنا جميعًا وراء مجموعة من مؤرخي الأدب المحافظين، الذين صنفوا الأجيال الشعرية بشكلٍ زمني، وصنفوا الظواهر الفنية على أسس بالغة السذاجة والتعاسة في آن؛ لكون معظمهم كان يتعاطى الشعر كهواية بجوار مهنتهم التي أساء معظمهم لجلالها وخطورة تأثيرها في العقل الجمعي لأمم كانت تتلمس هوياتها المتنحية والمسروقة والمغيبة من قِبَل إمبريالية استعمارية حاقدة وغاشمة. فقد درجنا جميعا على تسمية الشعريات باسم عصرها السياسي، وكأنها منفصلة جغرافيا وفنيا وعرقيا، فهؤلاء ينتمون لقبيلة الشعر الجاهلي، وهؤلاء أبناء عصر صدر الإسلام، وتلكم من العصر الأموي، والعباسي، والأندلسي إلى آخر المسميات التي جرت على هذا الافتئات الذي أضر كثيرا بالشعر كحالة ثقافية وفنية وحضارية، كما أطاح بظواهر فنية بالغة الخصوصية كتجربة الشعراء الصعاليك؛ التجربة الأكثر ذاتية وسط طوفان من الشعر لم يتخلص بعد من صوت الجماعة ممثلة في القبيلة والدولة.
وتجربة شعراء الثورات التي قاومت شعوبية العرب وإقصاءهم لكل من لا ينتمي لجنسهم، والإصرار على معاملتهم كخدم وجنود وجوارٍ وبشر من الدرجة الثانية، حتى من تفوق منهم، وأظهر نبوغًا كبشار بن برد وأبي نواس، اللذين قتلا ونكل بهما لأسباب ظاهرية تعود لفساد في الدين، وأسباب حقيقية تعود لكونهما من أصول غير عربية، ما سهل على منافسيهما الدَّس عليهما في دينهما وأخلاقهما، على هذا النحو تم تأريخيا استبعاد كل شعراء الثورات، سواء كانت دينية كالخوارج، أو سياسية كالبرامكة والزنوج. هكذا سار التأريخ للأدب ورصد ظواهره الفنية والثقافية وفقًا لعقلية المؤرخ الرسمي، الذي يمتثل كليةً لمن بيده السلطة، والفقيه الذي يمتثل كليةً لسلطة الدين غير البريئة في معظم الوقت، من تبعية السلطة السياسية بدليل ما حدث للحلاج والسهروردي. هكذا صارت الأمور ما قبل بداية القرن العشرين بعقد أو عقدين، حيث بدأ الشاعر ينظر إلى داخله بعد قطع مسافات طويلة من النظر والتحدث باسم الجماعة، التي سخّفت وشوّهت وصادرت الشعرية العربية على مدار قرون عدة كان التخلص منها يحتاج لروح جديدة وثقافة جديدة وجدا ضالتهما في ثائرٍ سياسي عظيم هو محمود سامي البارودي، أبرز قادة الثورة العرابية، الذي – ويا للمصادفة – لم يكن ينتمي بشكل كلي للعرب كعرق، وإن كان ينتمى روحا وقومية ولغة لهم.
امتد البارودي في شوقي الذي كرّس بقوة موهبته وحضوره كشاعر ذائع الصيت للنص الكلاسيكي، الذي يلتف كليةً حول مقولات القصيدة العربية بكل زخمها لغة وأسلوبية ومجازا.
كان البارودي – الفارس الذي خذلته الثورة والشاعر الذي لم يخذله بعد الشعر- قد نظر حوله ليجد الشعر ترفا وسجعا ومحسنات بديعية لا يتجاوز ألفاظه إلى أي معنى غير التلاعب باللغة، واللعب بها على يد بعض المشايخ والفقهاء الذين كان جُلّ همهم أن يكتبوا بيتا يُقرأ من صدره كما يُقرأ من عجزه، فكان أن نظر بعيدا كأيّ مثقف واعٍ وحالم ينظر إلى أقصى نقطة ضوء في نفق الأمس، ليشعل بها فتيل الحاضر الذابل. كتب البارودي الشعر مستحضرا أهمّ شعرائه ونماذجه في أبرز عصوره ليسمى هو ومجايلوه من الشعراء بشعراء (البعث والإحياء)، ولأول مرة في تاريخ الشعر العربي يتم توصيف الشعر فنيا وثقافيا، بعدما ظل ينعت بالزمن السياسي، ولأول مرة أيضا يتخفف الشاعر بعض الشيء من صوت الجماعة، متأملًا ذاته وعصره وذوات العاديين من حوله. امتد البارودي في شوقي الذي كرّس بقوة موهبته وحضوره كشاعر ذائع الصيت للنص الكلاسيكي، الذي يلتف كليةً حول مقولات القصيدة العربية بكل زخمها لغة وأسلوبية ومجازا. وتوالت الأزمنة الشعرية وقفز إلى السطح مصطلح التجييل (الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات) بكلّ ما يمكن أن يؤخذ عليه من ملاحظات فنية، إلا أنه يظل المصطلح المطروح بقوة في الدرس الأدبي والمرجع الوحيد لدراسة الظواهر الفنية التي مرّت بها الشعرية العربية، التي كان لا بُدّ أن أعود كل هذه الأزمنة لرصد ما وصلت إليه من تشظٍّ وانفجار فني، نتيجة هزات متلاحقة ومتتالية مرّ بها العالم والمنطقة العربية في العقود الثلاثة الأخيرة، التي شهدت عدة حروب، وعدة ثورات فاشلة، كما شهدت ميلاد ثورتي الاتصالات والمعلومات، وما نتج عنهما من تغيير جذري في البنية العقلية والمعرفية لسكان هذا الكوكب، وقد أصبحوا على مقربة زرّ في لوحة مفاتيح حاسوب بات يحكم العالم، ويشكّلُ عقله ممتداً لهواجسه ومشاعره ليجد الإنسان والشاعر تحديدا نفسه متخلصا تماما من سطوة عدة مركزيات في الكتابة والتلقي والحضور، ظلّتْ لعقود طويلة تحكم بنية كتابته لكي تظل على مقاس المنطقة الآمنة في السائد والمتاح. أصبح لكلّ شاعر الحقّ في أن يمتلك دوريته الأدبية، أو منصّته الخاصة التي تتيح له أن يصل لكل العالم، أين ومتى شاء، بدون الحاجة إلى انخراط في جيل أو جماعة أو نمط كتابي؛ الأمر الذي بقدر ما أتاح للشاعر من حرية وسعة في الحضور والتواصل، بقدر ما قضى تماما على خصوصية الشعر ونخبويته الفنية على الأقل، ليسقط في يد جماعات من النمل الأبيض وسّعت من هامش الادعاء، في غياب الفرز الذي كانت تمارسه الدوريات الثقافية والأدبية المتخصصة، وتعتمد معايير واضحة الأبعاد في شكل ومضمون الكتابة. تجاوز الخلاف على شكل القصيدة إلى القصيدة نفسها، ليصبح الشعر نصا معرفيا منفتحا، يصعب تأطيره وتوصيفه بالجيل والظاهرة الفنية، في ظل غياب تزامن نقدي يمكن أن يكرّس لظواهر وأنماط كتابة آخذة في التشكل والتكوين، بسيولة غير مسبوقة في ظل مناخ استقطابي لا يعترف بالتجاور والتنوع والحوار، وإن أُعلن ذلك ظاهريّاً.
مَنْ يمتلك صكوك الشعر إذن؟ الشعراء الحالمون الذين يتقاطعون مع ذواتهم حريةً وانفلاتا وتخليصا لفكرة الشعر كضرورة وجود، والذين يتقاطعون بالضرورة مع الشعر- الفن الذي يطوّر نفسه ذاتيا – لغةً ومُخيّلةً ومجازاً؟ أم الكتبةُ الذين أصابتهم عدوى التصحّر، وصاروا يُدبّجون القصائد العصماء العاطلة من الشعر والخيال لصالح مسابقات وجوائز رجعية تقف وراءها نظم سياسية راديكالية تكرّس لماضوية ثقافية، تضمن لها البقاء مدة أطول في المشهد؟ أم من لا ينتمون لهؤلاء أو لهؤلاء ويتمترسون خلف قناعات ثابتة في الكتابة، تحرمهم من حرق مراحل طويلة قطعتها الشعرية العربية، ليصيح الشاعر الممثل الأول والوحيد لنصه؟ لا أحد يمتلك اليقين لرأي أو توصيف أو تصنيف لهذه الحالة المربكة التي آلت إليها الشعرية العربية في العقدين الأخيرين، ولعل ذلك كله مقدمة لمنعطف جديد قد ينحاز إليه الشاعر في المقبل من الزمان.
عادل ضرغام: شعرية التجاور وتفاوت حدود الصرخة الشعرية
الشعر المصري هو شعر التجاور للأشكال الشعرية، على الرغم من النفي الموجود لدى أصحاب كل توجه للتوجهات الأخرى. وهذا التجاور يعتبر سمة عامة للشعر المصري، يكشف عن التعدد بداية من حركة الشعر التفعيلي في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، ومن خلال الالتفات إلى مصطلح الجيل الأدبي وتداعياته الخاصة بإهمال أصوات وفصائل شعرية، لا تنتمي إلى هذا التوجه الإبداعي، أو إهمال أصوات شعرية داخل هذا التوجه، لأنها – لأسباب عديدة – لم تحقق نصاعة النمط المقبول للدخول إلى حدود وتحديدات الإطار المسيّج بفكرة الجيل، التي تمّ تدشينها من خلال معطى زمني، ومن خلال معطى لا يقل أهمية يتمثل في الفن وظواهره. هناك بجوار صلاح عبد الصبور وحجازي، شعراء داخل الاتجاه الإبداعي نفسه، لم يكتب لشعرهم الشيوع والانتشار والتأسيس، بالإضافة إلى وجود شعراء يرفلون في ثياب تقليدية قديمة، وأطر تجديدية باهتة لم تعد قادرة على التقاط صرخة الفن وتصفيتها بشكل حيوي وفعّال.
أعتقد أن هذا التجاور جزء أساس من طبيعة الشعرية المصرية، وأظن ـ أيضا – أنه جزء من طبيعة الشعرية العربية، حيث نجد أدونيس والماغوط والبياتي والسياب، على الرغم من الفروقات الزمنية والفنية يتجاورون. في ظل ذلك التجاور يظل التمذهب الأدبي دائرا داخل إطار التأثر، وليس نتاج فلسفات متباينة أو نتاجا لمتغيّرات في بنية اجتماعية. ويمكن أن نشير استنادا إلى التأمل، إلى أنّ هذا التجاور ما زال يمارس دوره وتأثيره ووجوده وهيمنته، فهناك في أي لحظة زمنية داخل الشعر المصري هناك الشاعر التقليدي الذي يملك يقينا متفردا في ارتباطه بالقديم والمكرّر، وله مريدون، يتحرك معظمهم في ظل قوالب وفنيات تصحرت وتآكلت بكثرة الاستعمال، وفقدت بريقها، ولكن أصحاب هذا الاتجاه لا يزالون يؤمنون بشرعية وجوده، على الرغم من تلاشي أسس مقدرته على التقاط الفن أو الوصول إلى غائر داخل الذات تستطيع أن تشعل نورا حوله مشيرة إليه. والتقليدي في التحديد السابق لا يقف عند حدود العمودي، وإنما يضمُّ إلى جواره الخطاب الشعري الستيني، الذي لم يستطع أن يؤسس نتاجا شعريا يكفل له التمدّد، وهذا يباين وجود الصرخة الشعرية الأهم في الشعر المصري المتمثلة في جيل السبعينيات الذي استطاع شعراؤه من خلال هجراتهم الفنية العديدة في إطاري القالب واللغة الفنية وآلياتها أن يستولدوا نسقا شعريا وفكريا له أهميته في الشعر المصري.
أما جيل السبعينيات فهو من خلال المنجز الإبداعي المرتبط حتما بالفن، ظلّ الجيل الذي أسس خروجا واضحا ولافتا، بعيدا عن المؤسس والمقيد، فمن خلال شعرهم تتجلى أولى محاولات الانفلات من سطوة نسق مستمر.
استطاع شعراء الأجيال التالية أن يؤسسوا منجزهم الشعري، مثل جيل الثمانينيات الذي جاءت صرخة شعرائه أقل ضجيجا، وأقل تأثيرا من شعراء السبعينيات، ربما لأن إبداعهم جاء بعد إبداع جيل أسس لمغايرة جذرية فنية، من خلال حلمي سالم وعبد المنعم رمضان ومحمد سليمان وحسن طلب ورفعت سلام وأحمد طه وعبدالمقصود عبدالكريم وفريد أبو سعدة. وإذا كان مصطلح الجيل بحمولاته الفنّية، وبما له من تداعيات قد أثر في تشكيل ذلك التجاور، فإنه في الوقت ذاته كاشفٌ عن استمرار قيمة المنجز النصي لكلّ جيل من خلال تداوله وبقائه حيّا في إطار التفاعل المستمر، سواء بالإضافة أو الاختلاف، والدخول من خلالهما إلى مناحٍ فنية وفكرية مختلفة. فهناك أجيال ظلت محافظة على تمددها وبريقها، وهناك فقدت قدرتها في التواجد، وظلت قدرتها على اجتراح آفاق فنية جديدة محدودة. التفاوت في التأثير وفي تجذير المنجز الفني، ظلّ عنصرا ملموسا في الشعر المصري بأجياله المختلفة، خاصة إذا اعتبرنا أن نسق المقاربة المعتمد على فكرة الأجيال ظل النسق الأكثر مشروعية في القدرة على الارتباط بحياة الناس وآمالهم وإحباطاتهم، بالإضافة إلى شعر العامية المصري، من خلال أعلامه ونماذجه الشعرية، ذلك الشعر الذي يفتقد اهتماما نقديا يكشف عن خصوصية وتفرد يحتاجان للتجلية والكشف؛ فشعر العامية نظرا لخصوصيته الشفهية وارتباطاته الموغلة في الامتداد إلى النصوص الفرعونية الأولى، وثيق الصلة بالهوية المصرية، وقادر على أن يخرجك خروجا لحظيا من كل الإشكاليات التي تحيط بها. في ظلّ ذلك الفهم نجد أن شعراء الخمسينيات بمنجزهم الشعري ظلوا محافظين على وهجهم، لأنهم يحملون طفرة البداية، بينما جاء منجز جيل الستينيات واقفا عند حدود معينة، مشدودا للثبات، وغير قادر على النفاذ باستثناء شاعر أو اثنين، ولكن صوتهما الشعري ظل دائرا في حدود المقهور السياسي، أو التنميط اللغوي. أما جيل السبعينيات فهو من خلال المنجز الإبداعي المرتبط حتما بالفن، ظلّ الجيل الذي أسس خروجا واضحا ولافتا، بعيدا عن المؤسس والمقيد، فمن خلال شعرهم تتجلى أولى محاولات الانفلات من سطوة نسق مستمر. وقد مهّد ذلك الدور الخاص بالسبعينيات، تأسيس توجه فني يغادر الفردية ويلتحم بالجماعية في اختيار قصيدة النثر، كأنها اختيار يمثل أعلى درجات الحرية، وذلك بداية من جيل الثمانينيات، من خلال عاطف عبدالعزيز وأسامة الديناصوري، وإبراهيم داوود، وفتحي عبدالله، ومحمود قرني وعماد غزالي. أما شعراء التسعينيات فقد جاءت صرختهم الفنية أكثر علوا وتميزا؛ فعطاء الأجيال الشعرية في مصر يقاس بما أضافه شعراء كل جيل انتهاء إلى شعراء الألفية الثالثة الذين يتحصنون بمعرفة لافتة وثقافة نوعية مشدودة لإطارات فلسفية.
فتحي عبد السميع: انكسار صرامة الحدود
المشهد الشعري في مصر واسع جدّا، وهو يتمدد أفقيا باستمرار، حيث يظهر كل يوم شاعر جديد، وهذا الاتساع يتوزع على القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة، والنص الشعري الجديد المعروف باسم قصيدة النثر، وهو لا يتوزع على تلك الأشكال بالتساوي، ولا بشكل ثابت، أو من خلال منطق داخلي يتعلق بالشعر وحده بدون اعتبار للسياق الخارجي. لقد انكمشت القصيدة العمودية فترة أمام قصيدة التفعيلة، لكنها بدأت تظهر الآن بشكل أقوى مع ظهور الجوائز الخليجية الكبيرة المخصصة لها، مثل جائزة «أمير الشعراء»، وقد نجحت تلك الجوائز في استقطاب عدد كبير من الشعراء، في ظل ظروف اقتصادية بالغة الصعوبة، واختفاء الحوافز الأخرى، حيث لا توجد للشاعر ميزة اجتماعية، أو مساحة إعلامية، أو أي مكانة يمكن أن يتطلع إليها، خاصة في بداية تجربته، وهكذا ظهر شعراء يكتبون وفق مقاييس اللجان، لا وفق مقاييس الشعر. هناك أيضا شعراء يكتبون عن إيمان بقدرة القصيدة العمودية على استيعاب المتغيرات العصرية، والتفاعل مع التطورات النظرية التي حدثت لمفهوم الشعر، لكن ذلك الإيمان لم يعبر عن نفسه بالشكل المناسب لتلك التطورات.
يعاني المشهد المصري من أزمة غياب المُراجعة، والمُساءلة، ويحتاج إلى الحوار الجاد والشجاع حول تجاربه الجديدة، وهو ما يضاعف من حالة العشوائية التي تؤدى إلى ظلم تجارب وانتصار تجارب لأسباب خارجية، لا دخل لها بموهبة الشاعر أو اجتهاده.
قصيدة النثر هي أكثر الأشكال حضورا في المشهد الشعري الآن، من حيث الوعود التي تقدمها، ومن حيث التفاف العدد الأكبر من الشعراء حولها، نظرا لما تتمتع به من حرية كبيرة، وتلك الحرية لا يتمتع بها المبدعون المجتهدون وحدهم، فكثيرا ما تظهر كقناع للمستسهلين، وتظل القيمة في الشعر أبعد من فكرة العدد، لأن الكتابات الضعيفة تظل غالبة على أي إنتاج أدبي في كل المراحل ومع الأشكال الشعرية كافة، وتبقى التجارب الاستثنائية أو الناجحة هي المعيار حتى لو كانت قليلة. هناك نماذج شعرية تنتمي إلى قصيدة النثر، نجحت في إبداع نصوص متميزة جدا، وعلى النحو الذي يشكل إضافة نوعية للشعر العربي، ويظهر ذلك عند أسماء كثيرة نجحت في التكريس لشعرية مختلفة، تقوم على سمات معينة، مثل التمرد على التركيبات اللغوية التي تحولت إلى قوالب شبه جاهزة أو مجانية، والتمرد على صرامة الحدود بين الأشكال الفنية، والتركيز على الهوية الفردية، أو الشخصية للشاعر، والحفاوة بإضفاء الطابع المصري على التجارب الشعرية، وغيرها من السمات، لكن نجاح تلك الأسماء أو الأصوات، لم يسفر عن ظهور الشاعر العَلَم، أو النجم، بخلاف أجيال النصف الثاني من القرن العشرين، ويعتبر هذا مأخذا عند المناوئين للتجربة الجديدة، وهناك بالطبع أسباب ثقافية عامة صارت تدعم فكرة التجاور، على حساب فكرة الشاعر النجم أو الشاعر الأوحد.
في مقابل انكسار صرامة الحدود بين الأشكال هناك انكسار في صرامة الحدود بين الأجيال، فلم نعد نشهد صراعا بين الأجيال، ولم يعد هناك جيل يظهر كل عقد، ويصبح راية يمشى خلفها عدد من الشعراء، كما هو الحال مع جيل الستينيات، والسبعينيات، والثمانينيات، والتسعينيات، لقد اختفت تلك التسميات، وبتنا الآن أمام جيل واحد، لا يلعب فيه عمْر الشاعر دورا من أي نوع، فالعبرة كلها بخصوصيته وقدرته على إبداع قصيدة لافتة. ويتميز المشهد المصري بحضور أكبر للشاعرات، حيث يوجد الآن عدد كبير من الشاعرات قياسا بأي وقت مضى، وهو أمر مفهوم، مع زيادة المساحة الممنوحة للمرأة، خاصة مع ظهور شبكة الإنترنت، وانهيار الكثير من الحواجز والعقبات، ولا يتوقف هذا الحضور عند مستوى الكتابة، بل يتجلى في مظاهر جديدة، مثل ظهور جماعة كجماعة (ذات للشاعرات)، التي أسستها الشاعرة عبير عبد العزيز، أو دار نشر (هن) التي تأسست لكسر احتكار الرجال لمجال النشر، وغيرها من التجليات الثقافية التي كانت حكرا على الرجال، وكل هذا يجسد حضورا غير مسبوق للمرأة المصرية، ويجعلنا نتوقع نموا متزايدا في شعرها، كمَّا وكيفا.
الشعر المصري يعاني من تخلف المؤسسات الجامعية في متابعة الشعر، وندرة الرسائل العلمية التي ترصد وتحلل وتساهم في نقل الشعر من الورق إلى الواقع، أو توسع دائرته المحدودة، عن طريق غرس القدرة على تذوقه في وعي ملايين الطلاب، وتلك المؤسسات تذهب ـ للأسف ـ إلى الطريق المعاكس، ويظهر ذلك في بؤس القدرة على قراءة الشعر لدى طلاب كليات الآداب مثلا. لقد أصبحت تلك المؤسسات أداة لتقليص مكانة الشعر، وتجفيف منابع تذوّقه. كما يعاني المشهد المصري من أزمة غياب المُراجعة، والمُساءلة، ويحتاج إلى الحوار الجاد والشجاع حول تجاربه الجديدة، وهو ما يضاعف من حالة العشوائية التي تؤدى إلى ظلم تجارب وانتصار تجارب لأسباب خارجية، لا دخل لها بموهبة الشاعر أو اجتهاده، ويظهر ذلك في أمور كثيرة، مثل تمثيل الشعر المصري في المهرجانات الخارجية، أو الترجمة، أو المختارات، وما يحدث في كل هذه الأنشطة لا يعبر بشكل حقيقي عن الشعر المصري، وكثيرا ما يؤدي إلى تشويهه عن طريق اختيار أو تكريس تجارب ضعيفة جدا، والصمت الكبير عن أصوات تستحق الحضور ولا ذنب لها إلا ضعف علاقاتها الشخصية، أو فساد القائمين على الكثير من تلك الأنشطة، ويخطئ من يتعامل مع المشهد الشعري المصري من خلال انعكاسه في تلك المرايا المضللة في أغلب الأحوال.
شاعر مغربي
قرأتُ هذا الجزء كغيره من الأجزاء للاستفادة.. لكن كما قال تعالى: “كسرابٍ بقيعةِ يحسبه الظمآن ماءً”. والحمدُ لله فقد قال الله تعالى ” فأمَّا الزَّبدُ فيذهبُ جفاءً”.
أرجو أن يكون الموضوع مُجرَّد وصفٍ لما يدور في ذهن كاتبيه لا يتعداهم..
كتابة بليغة المعرفة تعكس الشعر وهمومه وتجلياته في أزمان متعاقبة .تضيء على حضور القصيدة في وقتنا الحالي واسترسال الكتابات دون ضوابط .فيه أكثر من زاوية وجميعها مفيدة ومجدية .