سجالات مملة: هل يمكن انتقاد «الصواب السياسي» في السياق العربي؟

يبدو الجدل حول مسألة «الصواب السياسي» في الدول الغربية متقادماً إلى حد ما، فعلى الرغم من سيل الأخبار، التي تثير كثيراً من الضجة، وردود الأفعال، عن أنماط من الرقابة على التعبير، أو فرض شروط معينة على المنتجين الثقافيين والفنيين، أو خسارة البعض لعملهم، بسبب تصريح أو تصرّف ما، إلا أن كل هذه الوقائع لم تعد تشير سوى إلى توجه أيديولوجي معلن، لدى كثير من مؤسسات التيار السائد، على كل العاملين فيها والمتعاملين معها مراعاته، في ما ما تزال أصوات المعارضين للصوابية عالية، ويجدون دوماً منابر أخرى تحتفي بهم، بل صار بعضهم، مثل الكندي جوردن بيترسون، من نجوم الثقافة الجماهيرية. وعموماً قدم أنصار الصوابية ومناهضوها حججهم كاملة، ولم يعد السجال بينهم يحوي كثيراً من القيمة الفكرية أو السياسية، بل أقرب لمناكفة إعلامية مُستهلكة.
السبب الأساسي لفقدان المعركة حول الصوابية بريقها، هو استنادها إلى ما كان يعتبر من البديهيات، حتى فترة ليست بعيدة، خاصةً نموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية، بما يرتبط به من حقوق وحريات، وعلى رأسها الديمقراطية التمثيلية، وحرية التعبير والحركة والعقيدة، والتعيين القانوني والأيديولوجي للذات الفردية، بوصفها الوحدة الاجتماعية الأساسية، الواجب ضمان حقوقها وخياراتها المستقلة، فضلاً عن نمط من الفضائل المدنية، التي من المفترض مراعاتها في السلوك ضمن الحيز العام. فعندما يتهم أنصار الصوابية تصرفاً ما بالعنصرية، أو يرميهم خصومهم بكمّ الأفواه، يحيل الطرفان إلى قيم للمساواة ومناهضة التمييز، والحقوق الفردية، لا توجد خارج الهياكل السياسية والأيديولوجية للديمقراطيات الغربية، كما تكرّست في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويصبح السجال يدور حول أي طرف ينتهك قيم هذا النموذج فعلاً، وهل الأولوية لحرية القول والحيز العام المفتوح؟ أم لحماية الفئات الأضعف من التمييز الهيكلي؟ الجواب لم يعد متاحاً ببساطة، لأن المسألة صارت في أيامنا، وبعد كل الأزمات الكبرى على الصعيد العالمي، أكثر تعقيداً بكثير، والأسئلة باتت تدور حول النموذج الليبرالي نفسه، فأي ذوات وهويات وأنظمة تمثيل وأخلاقيات يجب مراعاتها والالتزام بها؟ وما معنى كل هذا الجدل حول «الصواب» في زمن يمكن تعليق كل ما هو حقوق أساسية فيه بقرار من مسؤول بيروقراطي/تكنوقراطي، بناءً على معطيات إحصائية، وليس نصوصا دستورية؟
رغم هذا ما تزال أصداء الصراع حول الصوابية قوية في العالم العربي، والحجة الأساسية لأنصارها أنه مهما كانت الانتقادات التي يمكن توجيهها لها، فإننا ما نزال نعيش في شرط تمييزي ذكوري، مناهض للحريات والحقوق الأساسية، واحترام خصوصيات الذوات الفردية، وبالتالي فلا معنى لمناهضة الصواب السياسي في سياق عربي لا صواب فيه أصلاً، فهل من المفيد والمجدي فعلاً انتقاد الصوابية عربياً؟ وما النموذج السياسي/الأيديولوجي الذي يحيل إليه أنصارها ومناهضوها العرب؟

صوابية تنويرية

إذا وافقنا على أن الصواب السياسي قد يكون ضرورياً في مجتمعات لم تحقق كثيراً في مجال مراعاة حقوق وكرامة الأفراد والفئات الأضعف، فهذا يفترض أساساً نموذجاً تنويرياً/تاريخانياً، تنتقل فيه المجتمعات البشرية من حال الاستبداد، وتسلّط الفئات الأقوى في المتن الاجتماعي، إلى حال يسود فيه الاعتراف بخيارات وحساسيات الذات الفردية، خاصة إذا كانت تنتمي إلى مجموعات هوية طال إقصاؤها، مثل النساء والأقليات العرقية والثقافية، وبالتالي فما دمنا لم ننجز المهام التاريخية للاعتراف الليبرالي فإن معاداة الصوابية موقف رجعي بالضرورة.

محاولة ناشطين عرب لاتباع الصواب السياسي، بوصفه آخر منجزات الليبرالية، ليس فقط غير فعّال في الشرط العربي، بل يدلّ على عدم إدراك للمشاكل البنيوية للمنظومة العالمية، في كل مستوياتها الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية.

يصعب أن نجد في التنظير الليبرالي المعاصر موقفاً يتبنى بصراحة هذا النموذج التنويري التاريخاني، بل يميل المفكرون الليبراليون عادةً إلى نقد التاريخانية، باعتبارها تحمل ميولاً شمولية قوية، قد تؤدي إلى قمع مظاهر اجتماعية كثيرة في الحاضر، بدعوى تحقيق صيرورة تاريخية، متجهة لغاية معينة. رغم هذا فإن التاريخانية تبقى كامنة في الأيديولوجيا الليبرالية، وربما كان المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، أكثر الليبراليين المعاصرين جرأة في تقديم طرح أقرب للتاريخانية، خاصة في تحليله لدور «الثيموس» أي الطاقة النفسية المتعلّقة بالغضب والشجاعة والإقدام، والساعية لنيل الاعتراف والكرامة، في التمرد على الاستبداد والسعي للديمقراطية، فعلى الرغم من أن عمليات التحديث والتصنيع والتنمية الاقتصادية توفّر شروطاً أساسية لدمقرطة المجتمعات، إلا أنها، حسب فوكوياما، غير كافية وحدها لضمان الانتقال الديمقراطي، ويبقى المحرك السياسي للتاريخ هو الرغبة في الاعتراف، الكامنة في الروح/العقل الإنساني Der Geist.
اعتبر فوكوياما الأنظمة الليبرالية الرشيدة التجسيد التاريخي لتحقق «الثيموس» وعقلنته، ما يجعلها بشكل من الأشكال نهاية التاريخ، أو التركيب الجدلي لحركته على الطريقة الهيغلية، إلا أنه حذّر في الوقت نفسه من الطاقة المدمرة لـ«الثيموس» التي قد تظهر في مطالب غير عقلانية بالاعتراف، تتبدى في أشكال مختلفة من الأصولية والتطرف والشعبوية.
يمكن القول، حسب منطق فوكوياما، إن فئات عربية كثيرة، مثل أي روح إنسانية، تسعى إلى الكرامة والاعتراف، ورغم تعثّر سيرورة التحديث العربي، فإن سعي هذه الفئات يمكن أن يزلزل أسس الاستبداد السياسي والاجتماعي، الذي لا يمكن أن يُكتب له البقاء على المدى التاريخي الطويل، ومن هنا تنبع أهمية الصواب السياسي عربياً، إذا يمكنه أن يساهم بتحوّل القيم الليبرالية إلى نوع من الفضيلة المدنية، المترسّخة في ثقافة ومؤسسات المجتمع، كما قد يؤثر حتى في الخيارات الاقتصادية للأفراد والمجتمعات، ما يشجع على سلوكيات أكثر عقلانية، تؤدي للازدهار المادي، فيصبح احترام الحريات والخيارات الفردية في المحصلة نوعاً من «الثيموس» الاجتماعي، أي اعتزازاً عاطفياً وانفعالياً للمجتمعات بأسلوب تنظيمها السياسي والقانوني، ما يحمي القيم الديمقراطية الليبرالية على المدى الطويل. لكن ما مدى واقعية هذا الطرح في زمننا؟

مشكلتا السيادة والذات

منظور فوكوياما، الذي يبدو متماسكاً، لم يعد مقنعاً للغاية، بعد الأزمات الكثيرة التي شهدناها في السنوات الماضية، فالدول الليبرالية، التي جعلت منح الاعتراف أساساً لأيديولوجيتها المعلنة، تبدو عاجزة عن مواجهة المطالبات غير العقلانية به، التي لم تعد تأتي فقط من هوامش النظام العالمي، مثل التطرف الإسلامي والهندوسي، بل من قلب العالم الغربي الديمقراطي، مع صعود الشعبوية والاحتجاجات الاجتماعية وتفكك الحيز العام، وقد أبدى فوكوياما نفسه، في كتاباته عن سياسات الهوية، امتعاضه من المبالغة في طلب الاعتراف، التي باتت تهدد المنظومة الليبرالية، دعك من أن المفكر الأمريكي بدأ يميل، بعد أزمة كورونا، إلى التركيز على إجراءات السلطة التنفيذية وقوة الأجهزة السيادية، بدلاً من تقييم الدول على أساس طابعها الديمقراطي أو الأتوقراطي، لدرجة أنه لم يجد حرجاً في الحديث عن فعالية إجراءات الدولة الصينية الاستبدادية في مواجهة الوباء.
هاتان المسألتان، أي أزمات الاعتراف وفعالية السلطة، لم يبرزا نتيجةً لتغيّر منظورات أحد أهم مفكري الليبرالية المعاصرة، بقدر ما هما مخلفات لاختلال، يبدو بنيوياً، في أنظمة التمثيل والحقوق الليبرالية، ما يجعل من قضايا السيادة والتكوين الأيديولوجي للذوات الفردية والجمعية، وحدود النظام الليبرالي في معالجتها، الأساس لأي جدل سياسي معاصر، يتسم بالجدية، وليس اللغة المناسبة لمخاطبة حساسيات الفئات المهمشة، وفق بديهيات الأيديولوجيا الليبرالية. بهذا المعنى يفقد الميل الصوابي العربي ظهيره التاريخاني، فنحن لا نتجه خطياً إلى تركيب جدلي لمسيرة وصراعات التاريخ، يوصل الأفراد والأقليات إلى العيش في جنان الاعتراف الليبرالي، وربما كان من الأفضل التفكير في طريقة اشتغال الأيديولوجيا، التي تصوغ الأفراد والأقليات، ونمط السيادة الأنسب لمواجهة الأزمات الملحّة.

تجاوز الصوابية العربية

محاولة ناشطين عرب لاتباع الصواب السياسي، بوصفه آخر منجزات الليبرالية، ليس فقط غير فعّال في الشرط العربي، بل يدلّ على عدم إدراك للمشاكل البنيوية للمنظومة العالمية، في كل مستوياتها الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية. فالنموذج الليبرالي الجاهز، والمنتصر عالمياً، الذي ظن كثيرون، في بدايات الربيع العربي، أنهم سيصلون إليه تدريجياً، بعد إزاحة الحكام المستبدين، لم يعد موجوداً بكل بساطة، كما أن العالم العربي لا يقبع في موقع بدائي في خط التطور التاريخي الحتمي، بل هو معاصر جداً، بكل مشاكله وأزماته، ولن يجد في «دول متقدمة» دليلاً لحلها. ولهذا فربما من الأجدى تجاوز إشكاليات الصوابية السياسية في العالم العربي، وتركها للفئات التي تعتاش عليها، من العاملين في منظمات «غير حكومية» ما زالت مقتنعة ببديهية أيديولوجياتها؛ والبحث عن منظورات جديدة لقضايا التغيير السياسي والحقوق الاجتماعية: ما نمط الذاتية السياسية، التي يجب ابتكارها في مواجهة أنظمة فاشلة على كل الصعد، أوصلت المجتمعات العربية إلى الحضيض؟ وما شكل السيادة المضادة، التي يجب بناؤها في مواجهة السلطة؟ هذان السؤالان قد يكونان أساسيين في تحديد مستقبل مجتمعات، تقبع على هوامش منظومة عالمية مأزومة، وتعاني بشكل مضاعف من كل مشاكلها.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مجدي ابراهيم:

    الليبرالية العالمية و العربية تدعم المافيا السارقة للحكم في الدول العربية اذا كانت تعمل لصالحها مثلا فرنسا و السيسي

إشترك في قائمتنا البريدية