داعش أميرا على أعدائه قبل أتباعه!

حجم الخط
0

قد تكون المرحلة الراهنة التي يحياها عالمنا العربي فريدة نوعها في تاريخه الحديث. فهي كما لو كانت مرحلة تصفية عارمة لما سبقها، بل ربما حفلت كذلك بمقدمات وبوادر لمرحلة أخرى آتية. فهي بهذا المعنى ليست حقبة انتقالية، وإن كانت حافلة بأمارات الماضي كما بأمارات القادم المجهول كذلك. إذ إن الوقائع اليومية لا تحمل دلالاتها مقدماً. وهو المراقب المتخصص الذي يمكنه أن يضفي عليها ما يشاء من رموز الدلالات. حتى تلك المتناقضة فيما بينها.
فلم يعد من السهل أن توصف المرحلة بالثورية، ولا بالفوضوية، ولا باللامعقولية والعبثية، فهي لها كل صفات هذه التصنيفات، ولكنها حاملة معها احتلافاتها بل نقائضها. قد تبرز واقعة (داعش) كما لو كانت ذروة اللامعقولية، لكن التمعن الهادئ في تشكلها سوف يكشف أن لها أسبابها ومقدماتها. ذلك أن لا معقولية داعش ليست سوى رد على لا معقولية المصير العام الذي آلت وتؤول إليه كوارث الحاضر المحدقة بأهم أقطار المنطقة. كأنما تبرز داعش كتجسيم مادي عضوي سفاح وفاعل لهذه اللامعقولية الجبارة المسيطرة، والممسكة بتلابيب كل حراك عمومي، مرشح لإحداث تغيير ما في حياة الناس، في نظمهم السياسية أو الاقتصادية أو التربوية. فمنذ أن حالت طلائع الثورات الربيعية، تفتَّق الواقع الاجتماعي سريعاً عما سيكون له من تماهيات مع مصطلح الثورة المضادة. ولقد أمكن تعميم هذا المصطلح على مختلف القوى والحركات التي لا مصلحة لها في أي تغيير لخارطة الواقع القائم، فكيف يكون أمرها مع مشروع التغيير الأكبر الذي تبشر به ثورة عارمة حقيقية. غير أن النجاح لم يكن حليفَ أية ثورة مضادة حاولت اجتثاث جذور الحراك الجماهيري، وإن أوقعت تجارَب محلية هامة في مسلسل من الانتكاسات، بل استطاعت الغدر ببعض هذه الثورات كلياً وإسقاطها في أسوأ كوابيسها، كحال كل من الثورة السورية والليبية. حتى يمكن القول إنه لم يكن لتظهر داعش لو لم تكن الثورة المضادة قد بلغت أوج قوتها، بما توشك بعدها على الانهيار التام إن لم تطلق صاعقتها الكبرى. فتعلن نوعاً من حرب دولة قائمة وقادرة، تكتسح ساحات شاسعة من سورية والعراق، وتبني كياناً سلطانياً، نموذجاً وهمياً للدولة العربية الإسلامية الكبرى الشاملة، كما تدعيه.
المرحلة المدعوة بالانتقالية تفقد تسميتها تلك إذ تخرج عن تصنيفها في سياق الاسم العام للربيع العربي. تغدو مرحلة انتقالية في سياق المشروع المضاد كلياً لذلك الربيع البائس. بينما تجيء ثورة داعش هذه كأنها صناعة متكاملة بأيدي مخططين ومهندسين بارعين، فهي مخلوق سياسوي مفتعل، فاقد أصلاً لأسبابه الطبيعية، لكنه متوفر على عوامل تقنية، تمنحه مناعةً خاصة، قد لا تتمتع بأمثالها ثورات ربيعية ناشئة في كنف ظروف طبيعية ومزوّدة بمشروعية تاريخية مسبقة. وبناء على هذا الاختلاف الجذري في أصول النشأة قد يوحي التفاؤليون لأنفسهم بأن لا مستقبل للمشروع الداعشي، بينما كل المستقبل هو من حظوظ هذا الربيع رغم تعثّره وتعرّضه لمختلف العداوات المعروفة ضد حريات الشعوب.
إذا كان العرب يعيشون اليوم، وللسنة الرابعة على التوالي، أنفاقاً مظلمة من مصطلح المرحلة الانتقالية، فليس هناك ثمة وعي وطني أو قومي قادر على استيعاب الحالة الراهنة. بل يبدو لكل مشروع وعي من هذا المستوى أنه واقع مقدماً تحت طائلة الوقائع التي لا يمتلك عنها أية معرفة ولو جزئية، فليس بمقدوره البتّة التدخل في مؤثراتها. كما لو أن المصير العربي أمسى مقبوضاً عليه في مركب، ومقذوفاً به في لُجَج من المصائر الأخرى، الغيبية، لكنها الحاسمة. لقد نسي المرفأ الذي انطلق منه، ولا يدري إلى أية مرافئ أخرى هو متجه. وهل لا تزال على بعض الشواطئ ثمة مرافئ تؤوي الضالين من مراكب العواصف التائهة.
مرحلة الانتقال، ليست هي عنوان الضياع وحده، لكنها تتحول إلى جملة مسالخ بشرية، تلك التي ترمي بلحومها الحية يومياً على جوانب دروبها المكتظة بوحوش الغابات المندسة منذ دهور تحت أديم الحضارات الزائفة، فمن هو المرتحل المتبقي لما بعد هذه (الانتقاليات) وتجاربها الرهيبة. ليس غريباً أن يتخلّى معظم الجيل العربي الحالي عن أسئلة المستقبل. فالزمن في هذا الشرق المدلهم قد انحنى وتقوّس ظهره. لم يعد أمامه ثمة أفق يتجاوز مدى بصره. أمسى يدور حول ذاته. لا بديل لهذا الحاضر سوى الحاضر الأسوأ منه. هكذا تريد (داعش) أن تؤطر عالمها باعتباره آخر العوالم الممكنة، حتى وإنْ كان هو العالم المستحيل في ذاته.
ما كانت تعنيه المرحلة الانتقالية مع هبوب أول ثورة ربيعية هو الحاجة العملية التي يتطلبها التغيير بين إسقاط النظام القديم، والشروع في توفير شروط الحكم الديمقراطي ونظامه الدستوري الجديد. كان الاصطلاح الانتقالي يهدف إلى أدلجة هذه المسافة الشاقة بين لحظتي الهدم والإعمار في الفعالية الثورية. كان المطلوب النفسي هو تهدئة الوجدان الجمهوري وتدريبه على تحمل انحرافات الطريق والتمرن على تجاوز عقباته ومؤامراته. لكن ما حدث كان فجائياً ودافعاً يومياً إلى اليأس وتعميقه من هاوية إلى أخرى، فلم تنجح أية ثورة من الأربع المعلنة في استكمال طريقها ما بين لحظتي الهدم والبناء. ذلك أن الهدم كان وحده هو الذي يولّد أبناءه وأحفاده حاملين سلالته وخصائصه. أما البناء فإن وعوده مؤجلة تارةً، ومستبعدة تارةً أخرى، بل ومنسية في النهاية. كانت مرحلة الانتقال تتهاوى إلى أنفاقِ متاهات، تتكشّف عن عقد دفينة من أمراض اللاوعي الجمعي. كان المجتمع المنتفض يتعرّى عن عيوبه الدهرية الدفينة. كانت «الوحشية» جاهزة لممارسة فظائعها. فما (ينتقل) إليه المجتمع الثوري هو سلسلة أفخاخ ضد «نواياه الحسنة». لم تكن هي الثورة التي تنضج بذورها، وتصعّد فروعَها، وتُنَضج ثمارَها، أمست مرحلة الانتقال أقرب إلى كونها مرحلة انحلال. تراقصت على أطلالها رموز عنيفة عائدة إلى مصنفات الثورات المضادة التي عرفتها أو لم تعرفها مهالك التاريخ المدونة أو المحجوبة.
ولادة داعش أخيراً هي المحصلة التركيبية لأعطال المرحلة الانتقالية، هي صيغة التركيب الكيماوي لعناصر تلك الأعطال. لكنها تأتي مضاعفة الشدة والقوة والفعالية. داعش لم تعد تقبل بالجريمة النسبية، لم تعد تقبل بالأعطال العرضية، لم تعد تتساهل مع الصدف العفوية. لم تعد تنذر الأفراد والدول والأحزاب والميليشيات الأخرى بنيران جهنم. لم يعد أمراً شاذاً أن يتلاقى خصوم الأمس واليوم، أن يأتلف أعداء العقيدة والتنظيم، أن يجتمع الغرب والشرق، أن تقوم حرب عالمية ضد تنظيم اسمه داعش. فهو لا يوزع أخطاراً متناثرة، إنه قادم بالخطر المطلق، ومع ذلك لا يتجرأ أنواع أعدائه على التوحد الواضح ضده خشية البطش غير المحدود وهم فرادى أو مجاميع مهلهلة دائماً.
منذ أربع سنوات يسيطر حديث موسم واحد اسمه الربيع العربي. لكن سريعاً لم يعد هذا الاسم يعني سوى كل نقائضه ـ لماذا لا يختصره وحش واحد اسمه داعش. فالجميع يمتلكون لديه حصصاً معينة ومعتّقة. وهو الوحيد الذي يكاد يمتلكهم جميعاً. إنه القابض على مفاصل غريبة عجيبة لانتقالاتهم العبثية في كل حين، ونحو كل اتجاه. لا يمكنهم القضاء عليه، وإلا قضوا على مبرر وجودهم.

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية