ما زالت الأزمة بين الولايات المتحدة وإيران حول الاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي تراوح مكانها، ومنذ فترة قليلة أعلن أحد المسؤولين الأمريكيين، ولم يصرح باسمه، أن المسألة النووية الإيرانية لا تتوقف على من يقوم بالخطوة الأولى، وأن أمريكا قد تبدي بعض المرونة في هذا الصدد.
جاء حديث المسؤول الأمريكي بعد فترة وجيزة من تصريح سابق للرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، بأن على النظام الإيراني العودة للالتزام الصارم بتعهداته في الاتفاق الموقع صيف 2015، وحال أقدم الإيرانيون على ذلك ستعود الولايات المتحدة للاتفاق، بينما يشترط نظام الولي الفقيه رفع العقوبات عن البلاد، والعودة للصفقة النووية، قبل البدء في أي حوار جديد بين الطرفين.
أرسل الغرب رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رفائيل جروسي إلى طهران بالعصا والجزرة في الحادي والعشرين من فبراير/شباط الماضي عله يفلح في ما فشل فيه الساسة، لكن الموقف الإيراني ظل متصلباً، بل وحمل مزيداً من التحدي، بإبلاغ الضيف أن إيران ستقلص تعاونها مع الوكالة، ما بقي الأمريكيون على موقفهم. حاولت الإدارة الديمقراطية ترطيب الأجواء مع طهران، بإبلاغ الحكومة الإيرانية أن بإمكانها الحصول على أرصدتها المجمدة في كوريا الجنوبية، منذ عهد إدارة ترامب، مقابل وقف وكالة الطاقة الإيرانية مستويات تخصيب اليورانيوم المرتفعة، والعودة لالتزاماتها في ما يخص الاتفاق النووي، غير أن الإيرانيين تمسكوا بموقفهم ملقين باللائمة على أمريكا. لا شك في أن الجانبين على طرفي نقيض من هذه القضية الحساسة، فإيران تلقي باللائمة على الأمريكيين وتحديداً على إدارة دونالد ترامب الجمهورية السابقة، بينما تعتبر إدارة جو بايدن أن إيران، عدلت عن التزاماتها وبالتالي لا بد من التحقق من النوايا الإيرانية حتى لا يفاجأ العالم وفي القلب منه دول الغرب ـ وفي صدارتها أمريكا – بامتلاك نظام الولي الفقيه للسلاح النووي. لا ترفض واشنطن الوصول لحل مع طهران، بمشاركة الأوروبيين، لكن الظروف تغيرت عما كان عليه الوضع قبل ستة أعوام، عند عقد اتفاق فيينا، فقد زاد النفوذ الإيراني بشكل بات الغرب يخشى معه على مصالحه في الشرق الأوسط، خاصة مع الهجمات التي تنفذها الفصائل الشيعية على القوات الأمريكية في العراق، أو تصعيدات الحوثيين على السعودية، التي تهدد إنتاج النفط، ما قد يؤثر في أسعار تلك السلعة الاستراتيجية، وأخيراً استفزازات الحرس الثوري المستمرة بإغلاق مضيق هرمز، وبالتالي تعطيل حركة التجارة في المضيق المهم، الذي تمر منه 40% من حركة الملاحة الدولية، ما سيضرب مصالح القوى الغربية أو شركاءها الاقتصاديين ـ على حد سواء – في مقتل. ويرغب الأمريكيون من وراء سياسة الضغط التي يمارسونها على إرغام إيران على وقف مشاريعها التوسعية في الشرق الأوسط، خاصة مع ما تمخضت عنه من قلاقل منذ ابتلاع العراق عقب الغزو الأمريكي منذ نحو عقدين.
رغم تصريحات بايدن بأن الدبلوماسية هي ما سيحل المعضلة الإيرانية، إلا أن خطواته التالية خيبت آمال طهران
أما بالنسبة لإيران فالولايات المتحدة يجب أن لا تعيد العمل بالاتفاق وترفع العقوبات فحسب، بل يطمح الإيرانيون في أكثر من ذلك، بتعويض بلادهم عما تسببت فيه العقوبات من متاعب للاقتصاد والشعب الإيرانيين، حتى وصل الحال بالرئيس الإيراني حسن روحاني لاتهام الأمريكيين بالمسؤولية عن تدهور الأوضاع الصحية في إيران، عقب تفشي جائحة كورونا بسبب منع حصول بلاده على أدوية علاج الفيروس، بسبب إعادة فرض العقوبات. تنفس الإيرانيون الصعداء مع انتخاب جوزيف بايدن خلفاً لترامب لكونه ديمقراطيا سيتبع النهج التفاوضي أولاً، وثانياً لأنه كان نائب أوباما وقت وقع اتفاق فيينا النووي، وعلى الرغم من تصريحات بايدن بأن الدبلوماسية هي ما سيحل المعضلة الإيرانية، إلا أن خطواته التالية خيبت آمال طهران. ربط بايدن حل الأزمة مع إيران بالوصول لاتفاق عبر مفاوضات جديدة، فيما توقع الإيرانيون أن يعيد العمل بالاتفاق الموقع عام 2015 فور دخوله البيت الأبيض، لذا جاء رد الفعل الإيراني غاضباً ومتحدياً، وعلى الرغم من تقديم بايدن بادرة حسن نية بإعلان وزارة الخارجية الأمريكية رفع الحوثيين، مندوبي إيران في اليمن، من قائمة الجماعات الإرهابية، وإعلانه إبلاغ النظام السعودي بضرورة وقف الحرب في اليمن، والبدء بمسار سياسي يعطي للحوثيين حصة لا يستهان بها في حكم اليمن الجار الجنوبي للسعودية، كما هو الحال مع حزب الله في لبنان، لكن حكام طهران أعلنوها صريحة: إما اتفاق 2015 أو امتلاك السلاح النووي.
لكل من الطرفين حساباته في هذه القضية الشائكة، فالرئيس الأمريكي يضع ثلاثة عوامل في حسبانه خلال سعيه لحل الأزمة الإيرانية المزمنة سلمياً:
الأول: الخشية من عرقلة الجمهوريين في الكونغرس لجهوده سواء في حل المعضلة الإيرانية، أو خطتي الإنقاذ الاقتصادي ومكافحة كورونا، خاصة مع تصريح أكثر من نائب جمهوري بأن الاتفاق النووي الذي عقده باراك أوباما فيه أوجه قصور عديدة يجب معالجتها.
الثاني: إرضاء الطفل الصهيوني المدلل الذي ما فتئ ـ منذ عهد أوباما- يطلق التهديدات تارة، وينفذ عمليات اغتيال تارة أخرى ضد العلماء الإيرانيين، ليمنع نظام إيران من امتلاك الرادع النووي الذي سيهدد – حال امتلكه الفرس- التفوق الإسرائيلي في الشرق الأوسط، ويعيق طموحات الدولة العبرية التوسعية، وليس أدل على ذلك من زيارة رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي إلى إيطاليا وألمانيا وفرنسا في الأسبوع الثالث من مارس/آذار الماضي لحشد الدعم الأوروبي، لأي تحرك عسكري ضد إيران، في رسالة للأمريكيين أن إسرائيل ستتحرك ولو بحلفاء جدد ضد أي تهديد إيراني، لوجود الكيان الغاصب، وهو الأمر الذي إذا ما تجاهله بايدن سيدفع ثمناً غالياً قد يصل لخسارة انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر/تشرين الثاني من العام المقبل، أو انتخابات الرئاسة المقبلة خاصة مع القوة الهائلة التي تتمتع بها مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل داخل بلاد العام سام .
الثالث: طمأنة حلفاء واشنطن الخليجيين، الذين لا يخفون مخاوفهم من تهديد الإيرانيين لعروشهم، وتحاول إدارة بايدن منعهم من مجرد التفكير في اللجوء لحليف بديل كروسيا الخصم التقليدي لأمريكا، أو التفكير في امتلاك أسلحة نووية لخلق توازن – كما أعلن ولي العهد السعودي ذات مرة – مع إيران حفاظاً على المصالح الأمريكية في هذه المنطقة المهمة والملتهبة من العالم.
أما الولي الفقيه فيضع في حساباته خلال الصراع المحتدم مع أمريكا:
1 ـ الظهور بمظهر المنتصر أمام شعبه، إذا ما نجح في إجبار أقوى دولة في العالم على الرضوخ لمطالبه وهو أمر مستبعد.
2 ـ الحفاظ على مكتسباته التوسعية التي حققها خلال العقدين الماضيين والتي طالما اعتبرها أركان النظام الإيراني نواة لقيام امبراطورية فارسية جديدة، فلن يقبل هؤلاء التنازل عن تحكمهم في أربع عواصم عربية في مقابل رفع العقوبات.
3 ـ تحقيق إجماع داخلي يتمكن نظام القمع الحاكم من خلاله من التهرب من تحقيق معيشة كريمة للشعب وإقامة حكم ديمقراطي.
ستستمر لعبة عض الأصابع بين راعي البقر الأمريكي وأصحاب العمائم السوداء، لكن الانتصار مضمون فيها للقوة العسكرية الأهم في التاريخ، خاصة مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، وتنامي الرفض الداخلي لسياسات مرشد الجمهورية علي خامنئي، التي أوصلت البلاد لذلك الوضع الحرج الذي تعاني منه اليوم وعندما يشتد الخناق على رقبة النظام المأزوم سيرضخ لشروط أسياده الغربيين بدون قيد أو شرط.
كاتب مصري