مشروع الموازنة المصرية: هل من جديد على صعيد بناء القدرات التنافسية؟

ابراهيم نوار
حجم الخط
0

في العام 2010 احتلت مصر المركز الـ 81 بين دول العالم في جدول التنافسية الدولية. هذا المركز لم يكن لائقا لها، لكنها بعد أكثر من عشر سنوات تراجعت إلى المركز 93 وهو ما يضع على عاتق السياسة الاقتصادية تحديا كبيرا للنهوض بالقدرات التنافسية في قطاعات الإنتاج السلعي، جنبا إلى جنب مع النهوض بقطاعات التنمية البشرية، خصوصا التعليم والصحة والبحث العلمي. إن أحد الملامح المهمة لأي موازنة سنوية جديدة هو أنها تتعامل مع المستقبل وليس مع الماضي، وتتطلع للأمام وليس للخلف. وينطبق هذا القول على مشروع الموازنة العامة الجديدة للدولة في مصر، المعروضة حاليا للمناقشة في مجلس النواب.

الأولويات العاجلة

يكشف البيان المالي الذي قدمه وزير المالية، وبيان خطة التنمية الاقتصادية الذي قدمته وزيرة التخطيط تركيز اهتمام الإدارة الاقتصادية على إنجاز ثلاث أولويات عاجلة، الأولى هي ضبط القوائم المالية للحكومة على جانبي الايرادات والمصروفات لإرضاء صندوق النقد الدولي، والثانية هي سداد عبء المديونية لإرضاء الدائنين والمستثمرين الماليين الأجانب، والثالثة هي الاستمرار في تنفيذ المشروعات التي تتعلق بها الدولة طلبا لإثبات جدارتها وقدرتها على البقاء.

التنمية البشرية

بلغت مخصصات الإنفاق على الصحة 275.6 مليار جنيه بنسبة 3.8 في المئة تقريبا من إجمالي الناتج المحلي، وهو ما يستجيب نظريا للاستحقاق الدستوري بتخصيص نسبة 3 في المئة على الأقل للانفاق على الصحة، ويأخذ في الاعتبار الاحتياجات الاستثنائية للقطاع في ظروف جائحة كورونا. وبلغت مخصصات الإنفاق على التعليم العام والجامعي والفني 388 مليار جنيه بنسبة 5.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي وهو ما يقل عن الاستحقاق الدستوري الذي يقرر ان الحد الأدنى للانفاق على التعليم هو 6 في المئة، أما مخصصات البحث العلمي فقد بلغت 64 مليار جنيه بنسبة 0.9 في المئة من إجمالي الناتج المحلي وهو ما يقل عن الاستحقاق الدستوري المقرر بحد أدنى لا يقل عن واحد في المئة.
وبفحص أرقام مشروع الموازنة يتبين أن أكثر من ثلاثة أرباع مخصصات الإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمي يذهب لتمويل احتياجات الإنفاق الجاري وليس الاستثمار، أي لتغطية الأجور ومستلزمات أداء العمل اليومي من سلع وخدمات وانتقالات ومبيعات وفواتير إنارة ومياه وخلافه. وتظهر أرقام متابعة الأداء والحساب الختامي للدولة أن الحكومة شرعت في بناء مستشفيات ومدارس ولم تكملها، وأنها تعتمد بصورة متزايدة على دور القطاع الخاص، بما في ذلك رجال الأعمال والمستثمرين العرب الباحثين عن الربح السريع.
ومن الأمثلة على قصور تمويل الاستثمارات الجديدة في قطاع الصحة أن نسبة التنفيذ الفعلي من المخصصات للعام 19/20 في معظم المستشفيات الجديدة تتراوح بين 3 في المئة إلى 10 في المئة من قيمة المخصصات الواردة في قانون الموازنة. ففي مستشفى أبو سمبل بأسوان على سبيل المثال بلغت نسبة التنفيذ صفرا، وفي مستشفى الاقصر الدولي بلغت حوالي 10 في المئة، وفي مركز الرمد في كفر الشيخ بلغت نسبة التنفيذ 7 في المئة. وهذا يعني أن وزارة المالية مع الوزارات المعنية لا تلتزم بتنفيذ الخطة المالية طبقا لقانون الميزانية للعام المذكور.

طبخ الأرقام

إضافة لذلك فإن الجهات الإدارية التي تتولى إعداد مشروع الموازنة أو خطة التنمية الاقتصادية تتعمد اللجوء إلى طبخ الأرقام وتضخيمها حتى تظهر وكأن هناك زيادة كبيرة في الاستثمار. على سبيل المثال فإن مخصصات الاستثمار في مشروع الموازنة تبلغ 358.1 مليار جنيه مقابل قيمة متوقعة في نهاية السنة المالية الحالية تبلغ حوالي 232 مليار جنيه، أي بزيادة بنسبة 54.5 في المئة، وهي نسبة ضخمة بلاشك. لكن هذه الزيادة المدهشة تثير الرغبة في إعادة فحص الأرقام واخضاعها للاختبار، خصوصا وأن قيمة الاستثمارات المخصصة للعام القادم تقرب من ضعف قيمة الاستثمارات المنفذة في العام الماضي 19/20 التي بلغت 191.6 مليار جنيه.
نلاحظ أن نسبة زيادة مخصصات الاستثمار في العام المالي الجديد تبلغ 54.5 في المئة عن المتوقع للعام الحالي. وبما أن الناتج المحلي الإجمالي سيحقق زيادة متوقعة بنسبة 6 في المئة، فلا شك أنك يجب أن تصفق للحكومة وتؤدي لها واجب التحية. لكن ظنكا في جدارة الحكومة التي تزعم أن الإستثمار هو محرك التنمية سيخيب فورا عندما تعلم أن المنفذ الفعلي من الاستثمارات يقل كثيرا عن المخصصات المعلنة. ويزيد من فداحة أسلوب «ضرب الأرقام» أن وزارة المالية تفاجئ مجلس النواب في كثير من الأحيان طالبة تعديل الربط القانوني بالزيادة، وهو ما حدث فعلا في السنة المالية الماضية. فقد جاء في تقرير مراجعة الحساب الختامي أن قيمة الاستثمارات المنفذة في عام 19/20 بلغت 191.6 مليار جنيه فقط مقارنة بربط معدل لقيمة الاستثمارات الواردة في قانون الموازنة الذي بلغ 244.7 مليار جنيه، أي أن الاستثمارات المنفذة فعلا تقل عن 80 في المئة من المعلنة. الغريب في الأمر أن مشروع الموازنة الجديدة لا يلتفت إلى تلك الملاحظات، ولا يهتم بتصحيحها، بل ان استهتار الحكومة بمجلس النواب وصل إلى حد أنها لا تقدم للمجلس تقرير المتابعة السنوي للخطة منذ عام 2003 حتى الآن، في حين أن القانون يلزمها بتقديم التقرير كل عام، في موعد لا يتجاوز 12 شهرا بعد نهاية السنة المالية.
وإضافة إلى انخفاض نسبة التنفيذ الفعلي من الاعتمادات الصادرة بقانون، فإن توزيع الاستثمارات يكشف عن استئثار أنشطة البناء والتشييد وحدها بنسبة تتجاوز 70 في المئة من قيمة الاعتمادات، حيث بلغت مخصصات المباني والانشاءات في مشروع الموازنة الجديد 255 مليار جنيه بنسبة 71 في المئة من مجموع الاستثمارات. ويسوء الحال أكثر بالنسبة لمعدل التنفيذ في بد استثمارات الآلات والمعدات.

خطورة أعباء الديون

يعترف وزير المالية بأن مدفوعات الفوائد المستحقة على الديون «تمثل أكبر باب إلى جانب المصروفات منذ عام 2015/2016» ويشير إلى جانب واحد فقط من جوانب أعباء الديون هو مدفوعات الفوائد، في حين أن أعباء الديون تتضمن أيضا سداد قيمة الدين الأصلي، ونفقات إدارة الدين من لحظة الشروع في ترتيبه وحتى اهلاكه.
ونظرا لعدم الشفافية في حساب التكاليف الإدارية للدين، فقد انعقد الاتفاق بين الاقتصاديين منذ زمن بعيد على أن أعباء الديون تتكون من الفوائد وأقساط سداد الدين الأصلي. وتبلغ مخصصات سداد أعباء الديون في السنة المالية الجديدة 1172.6 مليار جنيه بنسبة 16.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، 63.8 في المئة من المصروفات و 85.9 في المئة من الإيرادات، وما يقرب من 120 في المئة من الحصيلة الكلية للضرائب المتوقعة، وهو ما يعني أن المواطن المصري يكد ويعمل ويدفع الضرائب للحكومة، ثم تقوم هي بدفع كل هذه الضرائب كلها للدائنين، وتقترض فوقها ما يقرب من خُمسها لكى تكمل الوفاء بأعباء الدين. الأدهي من ذلك أن قيمة مخصصات خدمة الديون تزيد عن ثلاثة أمثال مخصصات الاستثمار (327.5 في المئة).

الاستثمار الإنتاجي والتنافسية

تقدر وزارة التخطيط معدل النمو الاقتصادي المتوقع للسنة المالية المقبلة بنحو 5.4 في المئة، وأن الاستثمارات وحدها ستكون مسؤولة عن حوالي 78 في المئة من معدل النمو، في حين ان الاستهلاك والصادرات تسهم بالنسبة المتبقية. وليس في بيان الخطة المقدم إلى مجلس النواب ما يدعم هذا الاستنتاج الجريء. وتكشف التفاصيل المعروضة في البيان أن صناعة تكرير البترول، وهي كبرى الصناعات التحويلية في مصر ستسهم بنسبة 6.3 في المئة فقط من النمو الاقتصادي في حين ستسهم كل الصناعات التحويلية الأخرى بنسبة 6.1 في المئة، وأن الزراعة ستسهم بنسبة 9.9 في المئة. هذا يعني أن الصناعة والزراعة ستسهمان بنسبة 22.3 في المئة فقط من معدل النمو، بينما أن القطاعات المنتجة لسلع وخدمات محلية غير قابلة للتداول عبر الحدود مثل المباني والانشاءات والطرق ستكون مسؤولة عما يقرب من أربعة أخماس النمو، وهو ما يؤكد ما ذكرناه من أن مشروع الموازنة لم يتطرق إلى المشكلة الحقيقية التي يواجهها الاقتصاد المصري وهي مشكلة ضعف القدرة التنافسية. وهذا يتطلب ضرورة إعادة ترتيب أولويات الإنفاق، وإعادة ترتيب هيكل الاستثمارات، وتقليل الاقتراض بوضع أهداف كمية محددة لتحقيق ذلك، تمهيدا لفتح الطريق لتعزيز القدرات التنافسية لمصر وتحسين مكانتها إقليميا وعالميا.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية