تكتسب مذكرات التربوي السوداني بابكر بدري (-1864 1954) أهمية توثيقية خاصة، فمن ناحية تعد شهادة مهمة حول إحدى الفترات التي تم تأريخها بالكامل من قبل المستعمر وضباط مخابراته، ومن ناحية أخرى تعد أيضاً من النوادر، حيث تكاد المذكرات الشبيهة لأعلام السودان تعد على أصابع اليد الواحدة، فمن المعروف عن أهل ذلك البلد، أنهم لا يميلون كثيراً للتوثيق الكتابي، بقدر ما يميلون للسرد وتوارث الحكايات.
عاش بابكر بدري حقباً مختلفة من تاريخ السودان الحديث، امتدت من فترة الحكم التركي المصري إلى فترة الدولة المهدية، التي كان أحد المقاتلين في صفوفها، ونهاية بحقبة الاحتلال الإنكليزي، التي عرف فيها رجل علم وتعليم ورائداً لتعليم البنات. كل هذا جعل من مذكراته محور اهتمام للباحثين في التاريخ والمجتمعات السودانية من داخل وخارج البلاد.
الأهم من التعليق على كل هذه التطورات السياسية، كان اهتمام بدري بتوثيق ما لا يهتم به المؤرخون عادة من عادات وتقاليد ودور للمرأة والطبائع الاجتماعية المختلفة، وهو ما يمكن إدراجه تحت مسمى «التاريخ الموازي» الذي يتناول جوانب لا تغطيها بالعادة الدراسات التاريخية التقليدية. من خلال حادثة عابرة مثل، تغيير المهدي اسم «باشا» الذي تسمى به أحد أبطال قصصه، باعتبار أن به ملمحاً تركياً يمكننا أن نفهم نظرة المهدي المؤسس للعلاقة مع الدولة العثمانية، التي كان يشوبها كثير من التنافس والبغض. من جانب آخر، ومن خلال شخصيات مثل المرأة العرافة، أو مثل والدته التي كان لها دور في حياته وكلمة في كثير من القضايا، وعلى رأسها الحماس للجهاد مع المهدي، يمكننا أن نتأكد من كون المرأة السودانية كانت دوماً شخصاً إيجابياً ولم تكن مجرد تابع أو فرد بلا كيان. يتحدث بدري بعفوية كذلك عن الرقيق في المجتمع السوداني ويسرد كيف أنهم كانوا منتشرين في البيوت، كخدم أو كأدوات للمتعة أو التبادل كهدايا، بل يمضي لأكثر من ذلك متحدثاً عن تجاربه في شراء الرقيق لأهل بيته، وعدم اكتراثه بضغوط أصدقائه البريطانيين حول الأمر. لم يجد الكاتب حرجاً في ذلك السرد، باعتبار أنه كان يقص تقليداً شائعاً، لكن الأكاديميين الأجانب من أمثال الأمريكية إيف باول توقفوا كثيراً أمام هذا التفصيل، الذي استخدموه من أجل التأكيد على الفرضية المغرضة التي تدور حول اضطهاد العرب والمسلمين في السودان للعناصر الزنجية وغير المسلمة. لا يخفي بدري إيمانه بالعقيدة المهدية ويلاحظ القارئ تقديره الخاص للمهدي، الذي يذكر اسمه مشفوعاً بـ»عليه السلام» لكن القارئ الناقد، لا يملك إلا أن يحس بالتأثر إزاء بعض الأحداث المؤسفة، كمحاولة عبد الله التعايشي خليفة المهدي، المتهورة لفتح مصر، التي انتهت بمأساة وهزيمة ساحقة لجيش كان فيه عدد كبير من النساء والأطفال المصاحبين لأفراده، في المعركة التي حملت اسم توشكى. لم تنته المأساة عند قتل النجومي أحد أهم قادة المهدية وغيره من المقاتلين، ولكنها امتدت لتشمل أسرة بابكر بدري نفسه، التي تشتت وتفرقت بها السبل قبل أن تستقر أخيراً في القاهرة، في كنف الزبير باشا رحمة، الذي سيعلم بدري في وقت متأخر أنه تزوج البقيع ابنة عثمان التي كانت زوجته. من خلال الحوار المفصّل الذي نجده في المذكرات نكاد نوقن، بأن البقيع كانت ما تزال زوجة لبدري حينما تزوجها الزبير، الذي ظن أنها أرملة وأن زوجها مات. يسرد الكتاب ذلك الموقف الغريب الذي يعبر عن بعض الفظاعات التي تنتجها الحروب. يريد بدري في البداية أن يستعيد زوجته ثم يتركها حين يعلم أنها تزوجت، من دون أن يكترث لعرض الزبير الذي كان وافق على طلاقها وإعادتها لزوجها الأول. يرى بدري أنها لن تقبل به بعد أن عاشت مع زوجها الجديد الذي كان يعد من الشخصيات الثرية وذات الصيت الواسع. الزبير يخبره بدوره أنه يحس أنها ما تزال متعلقة به، وأن عيناها دمعت حين سمعت خبر مجيئه.
السير الشبيهة ليست نادرة حينما يتعلق الأمر بالمشرق العربي، إلا أنها تتنوع وتختلف في مقدار صراحتها وموثوقيتها. على سبيل المثال يعالج كتاب «أفندي الغلغول» للكاتب اللبناني نادر سراج الحقبة التاريخية ذاتها، بتسليط الضوء على حياة هاشم الجمّال أحد أعيان بيروت.
تبقى السير الشخصية مفيدة على المسار التاريخي مهما حاولت التركيز على التجربة الذاتية، بعيدا الوضع السياسي أو الاقتصادي
مثل مذكرات بابكر بدري، فإن أهمية الكتاب لا تكمن في تقديمه معلومات وتفاصيل شخصية عن الجمّال وأسرته وطريقة حياته من خلال جمع كثير من الوثائق والصور العائلية والأوراق الرسمية، وإنما في ما قدمه من نظرة تاريخية عفوية للعاصمة بيروت إبان انتقالها من الحكم العثماني إلى ما يعرف بالانتداب الفرنسي (1845-1940). الغلغول، حسب ما يشرح خبراء اللهجة، هي جذور الشجر، وهو اسم لحي بيروتي قديم شهد حياة هذه الأسرة، ويقع في مكان قريب مما يعرف حالياً بساحة رياض الصلح. يمكن لقارئ الكتاب أن يتتبع التحول الذي طرأ على العاصمة اللبنانية من بيئة شديدة المحافظة إبان الحكم العثماني، لدرجة أنه كان من العادة الاجتماع للاستماع إلى القرآن الكريم ولأحاديث البخاري، إبان مناسبات الزواج إلى مكان أكثر انفتاحاً وليبرالية في الفترات اللاحقة. من الجزئيات اللطيفة ما يقدمه الكتاب من قراءة لأحداث عام 1860، الحرب الأهلية التي استهدف بها المسيحيون، والتي نزحوا على إثرها لبيروت، حيث تمت استضافتهم وإيواؤهم من قبل سكانها المسلمين، لاسيما في حي الغلغول. تشكل هذه شهادة إيجابية، في مقابل القراءات المتحيزة الغربية، التي تستند إلى فكرة وجود صراع ديني أزلي في المنطقة، وإلى كون الأقليات المسيحية غير آمنة، وتهددها الأخطار ما يوجب الحماية والتدخل.
تبقى السير الشخصية مفيدة على المسار التاريخي مهما حاول صاحبها أن يركز على تجربته الذاتية، أو ينأى عن الحديث عن الوضع السياسي أو الاقتصادي، حيث تظهر هذه التفاصيل بشكل لا إرادي من خلال حكايته، ليتمكن القارئ من تكوين صورة لا بد منها لواقع المكان والزمان. لا فرق في هذا بين السيرة الذاتية لشخصية أدبية مثل سهيل إدريس مؤسس دار الآداب البيروتية، التي حكى فيها عن نشأته وعن علاقته بعائلته وتطور عمله ككاتب وناشر، ويوميات رستم حيدر وهو مقاتل سوف يحكي في يوميات تفصيلية عن طريقة سفره إلى حوران والتحاقه بقوات الأمير فيصل العربية، وما دونه السوري فخري البارودي، حينما حكى عن الطعام السائد في الخمسينيات. كل هذه الاتجاهات في الرصد والتأريخ مهمة ولا غنى عنها من أجل تكوين صورة أكثر دقة وواقعية عن شكل الحياة في القرنين الماضيين، وتتبع التحولات التي طرأت على المجتمعات العربية. يمكن أن يجد المؤرخون مادة خصبة لبحوثهم في هذه السير، وإذا كان أغلب المؤرخين عندنا مشغولين بالشق السياسي المحض، فربما يمكن الاستفادة من مثل هذه السير في إنعاش الدراسات الأنثروبولوجية، التي تتابع تطور المجتمعات. يمكن أن تساهم المعلومات المتناثرة في هذه السير حول العائلات والمدن والمجتمع كذلك في تأسيس ما بات يعرف بالأنثروبولوجيا التاريخية، العلم المزدهر حالياً في الجامعات الغربية، لكن الذي لا يحظى بكثير من الاهتمام عربياً، رغم أن المنطقة شكّلت، وما تزال، حالة دراسية مثيرة لشغف الباحثين الأجانب والمستشرقين.
كاتب سوداني
اقول ان هناك خطة ممنهجة لخلط الاوراق وتزييف التاريخ واعادة كتابته من جديد تحت اسم التاريخ الموازي وهو يقع ضمن خطة يراد بها خلط الحقائق في عقل الانسان وتشكيكه بصحة اي معلومة بنى عليها عقيدته ..ولهذا بدات دوائر مجندة لاظهار اثار فجاة تظهر او كتب او مخطوطات ليبدؤا كتابة تاريخهم الموازي الذي يوجهونه الى مايريدون ..ومن يعارض يقولون له هذه الاثار وهذه الكتب القديمة التي جميعها ظهرت الان فجأة وبدأ تجنيد لها كبار الاسماء ليتغير شيء فشيء التاريخ الذي نعرفه..وقد يفرض ذالك على المدارس على اعتبار ان الحقائق العلمية المبنية على هذه المكتشفات هي الحقيقة ..ولكنها هي المزيفة