«خلي بالك من زيزي»… التشكيل الإبداعي بألوان الدراما النسائية

من عيوب المواسم الدرامية الكبرى كالموسم الرمضاني، ضياع الفرصة على العمل الفني المتميز في زحمة النوعيات والشخصيات والإطارات، فاكتشاف النوع الاستثنائي من المُسلسلات يحدث بالصدفة في كثير من الأحيان، لا سيما إذا أخذ العمل الجاد وقتاً طويلاً في التبلور والوصول إلى ذهن المُتلقي، بتفاصيله وتداعياته وأهدافه، وهو ما حدث بالفعل مع مسلسل «خلي بالك من زيز، فهما الجهتان المسؤولتان عن اختيار توقيت عرض المسلسل، وتقدير حجم أهميته من الناحية الفنية والموضوعية، وهي معايير مُلتبسة وتخضع لشروط لا علاقة لها بالجودة أو التأثير، بل يتم التركيز فيها على نجومية البطل والبطلة والممثلين المساعدين ومدى تأثير أسمائهم في عملية التوزيع والبزنس والسمسرة، وهو مقياس خاطئ ضار بالقيمة الحقيقية للمُصنف الفني وطبيعته ومستواه.
في مسلسل «خلي بالك من زيزي» يبدو الخلل في عملية التقييم واضحاً كل الوضوح، فباعتباره مسلسل درجة ثانية، لا يستند لنجومية أبطال الصف الأول من المؤثرين في تحريك مؤشرات البورصة الجماهيرية، فقد جاء ترتيبه متأخراً في الخريطة البرامجية، وأيضاً في موعد العرض، ناهيك من ضعف الدعاية الإعلانية له، وعدم مساواته بالأعمال الأخرى، ورغم هذا التحدي استطاعت عناصر الجذب المتوافرة، بطبيعة الحال في الكتابة الدرامية الواعية، تحت إشراف الكاتبة مريم ناعوم، وبمشاركة كل من منى الشيمي صاحبة الفكرة وصائغة السيناريو والحوار مع مجدي أمين، أن تلفت النظر بقوة لعمق الموضوع، وتشير بدقة إلى التفاصيل الذكية المُتعلقة بحالة الاضطراب النفسي الناتج عن الإفراط في الحركة، وهو النوع المرضي الخاص واللاإرادي في سلوك البطلة أمينة خليل، والمُتماثل بقوة مع حالة الطفلة التي تمثل الخط الموازي لمحنة أمينة، التي أهمل علاجها في الطفولة، فتضاعفت أزمتها النفسية في سن النضج، فباتت تعاني على مستويات كثيرة في علاقتها الزوجية وبقية علاقاتها الاجتماعية، كونها عاجزة عن ضبط انفعالاتها، والتحكم في ردود أفعالها العصبية، وهو مُنعطف خطير لأزمة إفراط الحركة، التي تظهر بوادرها في الصغر، ولا يتم الانتباه لها، أو يتم التعامل معها بوصفها مجرد عرض عام لنشاط زائد لدى الطفل، وهو ما يُعتبر في حالات كثيرة ميزة من وجهة نظر بعض الآباء والأمهات لربطه المغلوط بالذكاء.
هذا المكمن على وجه التحديد هو بؤرة الخطورة في مقياس المرض المُلتبس، الذي يستبد بصاحبه في فترات معينة من العُمر، بعد أن يكون قد توطن في داخله، وسيطر على كل حواسه ، فالمُعالجة التي تتبعها مريم ناعوم في الكتابة، بوصفها المُشرفة على السيناريو والحوار، جد مُبهرة لشدة التدقيق في التفاصيل والمُنحنيات النفسية العابرة والجوهرية في الشخصية المريضة، وهي بالقطع تستند لمراجع طبية ودراسات بينية تتصل اتصالاً مباشراً بالأزمة، أو المشكلة أو المرض، حيث المُسميات الثلاثة جائزة في تشخيص الحالة الصحية، وأيضاً في الحالة الدرامية وفق المدلول النفسي، والإشارات المُبينة في السيناريو، الذي لا يعتمد فقط على لغة التشخيص المرضي والعلاج باعتبارهما محددان رئيسيان للعمل، وإنما يتجاوز هذا الخط المباشر، وصولاً إلى الأطوار النفسية والإنسانية التي يمر بها المُصاب أو المريض على امتداد مراحله العُمرية، من دون أن يُصنف ضمن المهزوزين أو الموتورين أو فاقدي الأهلية.
وهذا الفارق الدقيق هو ما تم التركيز علية في الحلقات الأخيرة من المُسلسل، بعد استعراض ظواهر المُشكلة بكل جوانبها، والتأكيد على أن فرط الحركة الذي يُصاحب سلوك الأطفال في البداية، يتحول إلى مرض مؤثر بشدة من شأنه أن يُحدث تحولات كثيرة في السلوك العام للمريض في مراحل متأخرة ، وهو ما يجب رصده والعناية بتطوره حتى يتسنى للطبيب المُعالج ضبط الانفعالات وتوجيهها بمنهجية خاصة، بعيداً عن مؤثرات الاضطراب ودواعيه وأسبابه. تلك هي الفكرة التي قامت عليها حكاية زيزي أو زينب، وجسدتها بحساسية شديدة أمينة خليل، أداءً وتمثيلاً، حيث تقمصت الشخصية بوعي وفهم شديدين، في أثناء عرضها لحالتها الشخصية كمُصابة، أو في محاولة نقل خبراتها للطفلة الصغيرة التي ظهرت عليها أعراض الإفراط الحركي ودخلت في طور التجربة القاسية.. في الحالتين قدمت أمينة نموذجين من الأداء مُختلفين ومتعاكسين في الاتجاه ورد الفعل، وهو ما يُعد نمطاً صعباً في فن التمثيل، يستلزم قدرات خاصة لتنويع الأداء والتحكم في الشخصية، بما يُعطي الدلالات المطلوبة للإقناع، وهو ما نعتقد أنه تحقق بدرجة كبيرة بفضل وعي البطلة ويقظة المخرج كريم الشناوي الذي أمسك باحترافية بكل خيوط العمل، فلم تفلت منه تفصيلة واحدة تربك السياق أو تخرج بالمُعطيات الدرامية عن مداراتها الصحيحة.
ولا شك في أن توظيف المُمثلين، محمد ممدوح وعلي قاسم وسلوى محمد علي ونهى عابدين وبيومي فؤاد وأسماء جلال، كان موفقاً إلى حد كبير، ما أدى إلى خروج الأحداث بالمستوى المنطقي المطلوب وقرّب الصورة بشكل كبير فانتقلت من حيز التخيل واللامعقول إلى الواقع الفعلي بزواياه المُختلفة، الاجتماعية والطبية والنفسية والإنسانية.

كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية