بناء اللغة الشعرية وأنساق العلامات الثقافية

تستهدف هذه القراءة مقاربة شعرية الألم، انطلاقا من الأنساق التي تنتظم داخل بنية اللغة الشعرية، وتساهم في بنائها، كاشفة لمعادلة الكينونة والوجود وعلائقها بالذات. وسنستند في هذا الإطار إلى نموذج شعري، وهو الديوان الزجلي الجديد ‘’ومخبي تحت لساني ريحة الموت’’ للشاعر مراد القادري.
تمثل شعرية القصيدة في هذا العمل، رهانا يحاول أن يستقصي أسلوبا جديدا في الكتابة الزجلية، من خلال التفاعل مع جماليات النص الشعري الجديد. فالنص الشعري يمثل ملتقى حضور خطابات اليومي والسردي والسيري والشعري، فضلا عن إعادة تَمثل الواقع المتخيل، كما يتجلى من خلال الحفر في ميتافيزيقا متخيل الموت، بوصفه أفقا شعريا للقصيدة. فالنصوص الزجلية، التي سنحاول مقاربتها لا تنفصل عن الأسئلة المطروحة على صعيد الشعرية العربية بشكل عام، سواء من حيث إعادة صياغة حدود الشعر، أو من زاوية الإيقاع.
وبتعبير يوري يوتمان فـ«الإنسان ينتج الأشكال والإيقاعات وهذا المنتوج يدل على شيء ما». وفضلا عن ذلك يمكن القول إن القصيدة الزجلية الراهنة، كما نستشف من خلال هذه التجربة، تَتمثل أسئلة اليومي والوجود والواقع كما سيتجلى من خلال تحليل قصيدة ‘’سؤال’’. بيد أن هذا التفاعل وانفتاح النص الزجلي في ‘’مخبي تحت لساني ريحة الموت’’، يرتبط بمبدأي الملاءمة، كما نعثر عليها في لسانيات تشومسكي، ومبدأ انسجام الخطاب، كما يتجلى من خلال الوظيفة المهيمنة مع ياكبسون. وبتعبير آخر، فهذه الخطابات العابرة للجنس الزجلي، تَحضر بوصفها تُشكل طبيعة الشكل الشعري للقصيدة الزجلية، وسيتضح من خلال الفقرات التالية، أن مجموع النصوص التي تشكل المجموعة، تستوعب وتتشرب أجناسا متباينة، دون أن تفقد خصوصياتها، ودون أن تضيع هويتها وجذورها التي تمنحها أفق التشكل، انطلاقا من هوية العلامات التي تكشف المتصل والمنفصل، بوصفهما يؤسسان شعرية النص.
وفي هذا السياق يُمظهر العنوان مجموعة من أنساق العلامات، التي تكشف لاوعي الذات وأثر التلفظ وسياقاته، فالذات لن تجد سوى الكتابة، كما يظهر من خلال العلامة ‘’لْساني’’، فضاء للسكينة والهروب من الموت. وتأسيسا على ذلك، يحاول الشاعر أن يلتقط تجربة إنسانية جماعية ترتبط بالموت من خلال البحث في ميتافيزيقا اللغة؛ إذا استحضرنا تمييز دوسوسير بين اللسان الجماعي والكلام الفردي. فالتقاطع يبدو جليا بين ‘’مخبي’’ المخفي أي الفردي /الكلام، أو ما عبر عنه بنفنست بالخطاب، والجماعي أي اللسان، حيث تنبثق اللغة الشعبية بكل محمولاتها المرتبطة بثنائية الطبيعة والثقافة. وبالتالي تحاول ذات الشاعر من خلال الفعل الفردي الإبداعي التواصل مع الجماعة وتمثل أنساقها، انطلاقا من رصد تجربة إنسانية مشتركة تتمثل في الموت الجماعي الرمزي، كما يتجلى من خلال مجموعة القصائد التي تحيل على شخوص في مواجهة تجربة الموت مثل: ‘’الراجل اللي كان» ‘’ لعكاز’’، «أندادي’’..
وهكذا يمكن القول، إن النصوص الزجلية في هذه المجموعة، تستند إلى أنساق اللغة الشعرية الزجلية، القابلة لاستيعاب لغة النثر وتَشَرب جمالياتها، سواء من خلال حضور اليومي والسيري داخل متون اللغة الزجلية وأنساقها، أو من خلال لغات ولهجات وهويات نصية تنكسر داخل خطاب الذات – الشاعر وهي تحفر في تجربة إنسانية جماعية بلغة متفردة:
وأنت تتقلب في الصندوق
غادي تلقى شلا حاجات
دمعة مخنوقة
فوق خدودك
تحفر الذات الشاعرة في ميتافيزيقا اللغة الشعرية، من خلال استحضار متخيل الموت، وعبر سبر أغوار الذات، ولذا يكشف التوازي الدلالي كما نستشف من خلال البنية النحوية لقصيدة ‘’الصندوق’’، قلق الذات، وهي تعيش تجربة الموت.
إن شعرية النص تتأسس على بنية التكرار، الذي يتجاوز وظيفته البلاغية في بناء انسجام الخطاب، إلى تشكيل إيقاع خارجي ونسج البنى الدالة داخل الخطاب. وبالتالي فتكرار الأسماء وهيمنتها (غادي) سواء في هذه القصيدة أو في غيرها – علامات تؤشر إلى عالم الموت، في ظل انعدام الإحساس وعدم الاقتران بالزمن، باستثناء الأفعال النادرة التي تدل على فعل الموت. ولعل تكرار البنية النحوية وتفاعلها مع البنية الإيقاعية (كمشة، دمعة، قصيدة) جاء ليعري العلاقة بين الداخل (فدواخلك تصدأ وتهرس) والخارج فضاء الموت. فالتكرار الذي يحضر في نصوص متفرقة، وبصور مختلفة، مثل تكرار ‘’لقاؤها’’ التي تكشف التفاعل بين أنساق لغوية تتقاطع فيها اللغة العالمة باللغة الشعبية الزجلية. فالفعل ‘’لقي’’ يتحول إلى مكون شعري زجلي، لكن لكي يستوحي جماليات سردية الموت، من خلال صورة المرأة وهي تواجه الموت والحفر في متخيل الألم. إن القصيدة الزجلية في مجموع نصوص الديوان، وأثناء رصدها لصورة الموت وعزلة الكائن الإنساني، تتمثل وتحاكي النفس القصصي، كما نستشف من خلال قصيدة تحمل الاسم نفسه:
داز الفيروس لشي قلوب. قساها
وداز الفيروس لشيعيون عماها
وداز الفيروس لشي عقول طفاها
وداز الفيروس لشي نفوس وشراها
هذه هي أمولاها. رواها مولاها
وتكشف المقاطع أعلاه أن بينة علامات الترقيم، تشكل أحد الأنساق التي تؤسس خطاب شعرية القصيدة. فعلامات الحذف وغياب الفواصل والنقاط في المقاطع أعلاه، علامات نسقية تحملنا إلى رسم صورة الانزياح الذي يسم اللغة الشعرية. اللغة التي تتشرب اللغتين العالمة والشعبية، وتدمجهما داخل الوظيفة الشعرية المهيمنة. فنقاط الحذف تؤشر إلى انزياح في الوحدة اللفظية ‘’فيروس’’ الذي يتحول إلى قصة تدمر القلوب والأبصار والعقول، أي الحواس. والتالي فما يمكن أن نسميه انزياح هوية العلامة النصية، يرتبط بتفاعل أنساق العلامات التي على التلفظ، والتي تحيل بدورها إلى سياق الخطاب، متجهة إلى بناء لغة شعرية تستحضر جماليات التلقي وأفق الانتظار. وبناء عليه، تنقل لنا الذات – المتلفظة العلامة، ومن خلال الصورة الشعرية ذات النفس القصصي: ‘’غابة من الظلام» فعل استلاب النور الذي يحضر بوصفه علامة رمزية من العلامات التي تؤشر إلى فعل استلاب الحياة والوجود وتمثل الكينونة:
فيروس قديم
طاعون غشيم
قالوا: راه كبر ف غاب مظلامة
كانت تتكره الضوء
تتكرره النور
تتكره عود الوقيد يشعل
إن اللغة بوصفها نسقا من العلامات بتعبير دوسوسير، تؤسس لانزياح هوية العلامات ؛ وتشتغل من خلال الوظيفة المهيمنة التي تقوم بإرساء شكل المعنى كما يتجلى من طرائق بناء بلاغة النص الزجلي. ففي القصيدة الأخيرة تتأسس بنية اللغة الشعرية على تمثل صورة العلامة ‘’عنكبوتة’’، عنوان القصيدة والرحم النصي الذي يتمطط ويشتغل على إنتاج مجموعة من آثار المعنى، ترتبط بسبر ذات الشاعر أغوار الموت، في الاتجاهين العمودي والأفقي كما يتجلى من خلال تكرار هذه العلامة النووية:
وأنا بين خيوطها
مكفن
وسط خيوطها،
ناعس يمكن
ويمكن فايق
كانت العنكبوتة ووحوشها
يقطعوا كريق الساقية
والملاحظ من خلال المقاطع أعلاه ونصوص المجموعة الزجلية بشكل عام، ودور البنية النحوية ‘’وأنا بين خيوطها’’/ وسط خيوطها ناعس’’، ‘’ومخبي تحت لسانك ريحة الموت’’، في تشكل أنساق المعنى المرتبط بصورة الموت. فواو العطف التي تتكرر، والتبئير على الضمير المنفصل، يكشفان انشغال ذات الشاعر بسبر أغوار فضاء الموت وميتافيزيقا اللغة. ولعل موقع هذا النص من بين نصوص المجموعة، يكشف استمرار قصة صورة فضاء الموت بكل شخوصه وأزمنته التراجيدية. وبالتالي يمكن أن نستشف حضور هيمنة حضور فضاءات المغلق، التي تكرس الألم والعزلة والاستلاب الوجودي مثلما الأمر بالنسبة لفضاءات: ‘’المستشفى’’، ‘’الصندوق’’، ‘’خيوط العنكبوت’’. وفي هذا السياق يشتغل الشاعر على فعل تخصيب لغة وأنساق علامات القصيدة الزجلية، بنظام علامات يستوحي جمالياته من اللغة العالمة. وبالتالي فالقصيدة تتحول إلى بناء لغوي يذوب داخل بوتقته نسقان لغويان يكشفان نظام العلامات الثقافية داخل فضاء اللغة. وينتقل بنا الشاعر بين تمثل ثنائيات الطبيعة والثقافة، التي تشتغل اللغة من خلالها على تضعيف المعنى:
ناقص أوكسيجين.. لابس ستر الله
حاصل في اسمك
واحل في جسمك
ومخبي تحت لساني ريحة الموت
وقلب أقصح من فراشة
إن الأنساق المتمثلة داخل بنية اللغة الشعرية، لتكشف صورة الموت بوصفه سؤالا وجوديا يؤشر إلى الألم. فحضور الموت يرتبط بسؤال العزلة الإنسانية من جهة، ويعكس التقابل بين الطبيعة والثقافة. وهذا ما يمكن أن نستشفه من خلال قصيدة ‘’سؤال’’، التي تتمثل طقوسا وأعرافا تفجر العلامات الثقافية، داخل لغة القصيدة الزجلية؛ فضلا عن التقاطعات المشار إليها سابقا بين الطبيعة والثقافة:
شكون غيات صحابو
…….
سيدي في البحر مسلك سفونو،
فالحزة سيدي، ما يبدل لونو،
وقول أسيدي، قول
قمح، شعير، وفول،
وزرعو قفولة.. قفولة
تحجب الضو
في عين الصبيان؟
إن القصيدة في هذا الديوان الشعري الزجلي تتشكل من خلال تشاكل الألم والكتابة، وهو ما كشفت عنه بنية العنوان التي حللنا في الفقرات السابقة. ولذا تتكرر الكناية عن فعل الكتابة الشعرية، كما نستشف في قصائد ‘’لحبل’’ و»الكلمة’’ وغيرها. بل إن الذات لا تجد سوى الكتابة الشعرية محفزا للبحث في سؤال الموت. فهي الذات التي تحاور وتتفاعل مع نصوص إنسانية تستحضر ألم الموت والكتابة بوصفها مسكنا وجوديا تلجأ إليه :
أعطني قلبك… نديرو مخدة،
احرزني بـ ‘’اسم الوردة’’
احرزني قصائد ما قريتها..

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية