البلاغة الصامتة

يعتقد كثيرون أن للصمت صيته التواصلي الذي يبلغ درجة البلاغة، التي يمكن أن نسميها وباستعارة قديمة لكاتب فرنسي مغمور هو فرنسوا داي رو (ت 1633) François des Rues «البلاغة الصامتة». قولة داي رو لا تختصر نظرية، بل تختصر وجهة نظر حكيمة، لأنها جاءت في قالب حكمة يقول فيها الأديب «الجمال بلاغة صامتة».
دعنا الآن من البلاغة الصامتة، ولنلق نظرة على العالم الفسيح المقابل لها، وهو البلاغة الناطقة. اقترنت البلاغة بالكلام، وفي وقت ما التبست البلاغة بالفصاحة وحسن الحديث. من المعلوم أن كتاب أرسطو الذي يحمل عنوان «ريطوريقا» حمل أقدم التعريفات لهذا الفن وهو «تعلم القدرة على تمييز ما هو مقنع»؛ وهذا يعني أن البلاغة في هذا المعنى كانت تقصد الاقتناع في سياق الدفاع عن أصحاب الحق والاحتجاج لآرائهم، وهذا ما يجعلها بعيدة جدا عن معنى الفصاحة، وأقل بعدا عن مفهوم الخطابة، ولكنها لا تقصد الوجهة نفسها مع البلاغة، بما هي علم أو فن يمكن صاحبه من القول الموشى المحكك ويبعده عن القول الفطير. لا توجد بلاغة ضاجة بمعنى بلاغة تبنى بالكلام الصاخب الذي يلهيك لفظه وفخامته عن روح معناه؛ بل كانت البلاغة في الأصل هادئة رصينة متعقلة، تمكن صاحبها من أن يُحسن بناء أفكاره، وفق استراتيجيا دفاعية عقلانية، فيها شيء ما من ذكاء التخطيط، ومن ذُكُو الحرب الباردة بين الطرفين المتبارزين في الدفاع عن حق ثم بعد ذلك في الدفاع عن رأي. للوشيجة بين الحق والرأي، انتقلنا في تاريخ البلاغة من الدفاع عن الحق إلى الدفاع عن الرأي، وبينهما فرق تاريخي يمكن أن يعد شكلا من أشكال تطور هذا العلم.
لقد كانت أقدم أشكال البلاغة، مثلما تقول لنا الرويات القديمة، ولاسيما في اليونان، هي تلك التي ارتبطت بالحاجة إلى الدفاع عن الحق المنتهك بواسطة الكلام. استبيحت أملاك الناس، فاحتاجوا إلى من يدافع عنهم بالكلام ليستردوها كان يقوم بهذا الدور ممتهنو الدفاع بالكلام عن الحق. وبما أنه ليس متاحا للناس جميعا أن يدافعوا دفاعا عقليا، وبالحجة عن الحقوق، انبرى أهل الفصاحة – وليسوا هم من يعرفون كيف يتكلمون، بل أيضا كيف يقنعون – يدافعون عمن لهم حق وليس لهم صوت مبين ومتعقل.
في عرض أرسطو للريطوريقا، ما يفيد بأنها ابتعدت عن هذا الدور البراغماتي اليومي، لتصبح جزءا من المنطق بل إنها تعمل بالآليات المنطقية نفسها، لكي تحتج لا على الحقوق، بل على الآراء. لكن ارتباطها بفن صناعة القول والرأي لا يبعدها عن كثير من مجالات الحياة وأهمها السياسة. إن ارتباط البلاغة بالسياسة هو الذي قربها من الخطابة: عليك أن تقنع الجمهور كي تحشده فيتبعك، ويتبعك كي يوصلك إلى الحكم. من هنا ارتبطت الريطوريقا لا بالدفاع عن الحق المزهوق، بل ذهبت رأسا إلى السلطة، من يقدر على الإقناع والحجاج يمكن أن تكون له السلطة. إلا أن البلاغة لم تتوقف عن الإصداع بالرأي، بل صارت في رأي بعضهم وسيلة لنسج الكلام البهي، بقطع النظر عن دوره الإقناعي. باتت معبرا إلى التأثير بالقول وجدانيا، وليس عقليا، لذلك بُحث عنها في كلام اعتقد أنه مفارق للكلام اليومي، كلام ليس ككل الكلام، بل هو مجنح في الخيال، ولا يقدر على الطيران بجناحه إلا الفنانون من الشعراء أو غيرهم من الراقين إلى تخوم الأدب بسلالم البلاغة.
هذا الضرب من البلاغة هو الذي تعلمناه في المدارس، وما زلنا نعلمه، ونحن نعتقد أنه الوجه الفريد؛ والحق أن ما خفي عنا من تاريخ هذا الفن هو الأعظم.
الوجه الأخير الذي استقرت عنده البلاغة الجديدة كان مع العرفانيين (وهم يختصرونه في الغالب في اسم مهيمن هو الاستعارة ) وقالوا إن الذهن استعاري وإننا لا نستعمل التوشية لتنميق الكلام، بل لأن أذهاننا في أصلها استعارية. وهذا يعني أننا لا نحتاج البلاغة لا للحجاج ولا لبناء الرأي ولا الوجدان، بل لبناء الكون بوجهات نظر مختلفة. لنقل إن البلاغة الصائتة هي تلك التي تستعمل الكلام لتتحقق، بقطع النظر عن أشكال ذلك التحقق وأسبابه. لكن البلاغة الصامتة هي بلاغة لا يعبر عنها الكلام.

ليس للبلاغة الصامتة نظرية صريحة، ولا قواعد يمكن تطبيقها، بل لها قراءة منفعلة في توزع العناصر تردها إلى مقولات جمالية مضمرة غالبا ما تكون موضوع تواضع كاللغة تماما.

عليّ أن أقول لقارئي الكريم إنني لا أوافق على المقابلة بين الصمت والكلام، مثلما عهدناه في تراث كامل عامي أو عالم. مثال العامي قولهم في الأمثال (إذا كان الكلامُ من فضة فالصمت من ذهب) ومثال العالم ما نجده في اللسانيات مثلا من تعريف مبسط ومتسامح فيه للكلام بأنه تلفظ بين صمتين، هو مبسط لأنه يضمر فكرة أسطورية قديمة هي فكرة الكاووس Chaos الربة التي سبقت كل الأرباب، وكانت استرسالا من الظلام الأبدي، الذي يسبق كل انبثاق للعوالم ومنها يقع التناثر؛ وهذا يشبه نشأة الكلام من أنه متناثر على جوانب الصمت. الصمت بمقابلته مع الكلام يحصره في العلامة الصوتية؛ والحق أن الصمت ليس مادة كالصوت وليس إحجاما عن الكلام. ينخرط الصمت – كما الكلام – في نظام علامي واسع، يمكن أن نعبر عنه بالصوت فننتج كلاما، ولكن يمكن أن نستعمل الصمت أرضية عليها ننشر العلامات الأخرى.
لنعد إلى قول «الجمال بلاغة صامتة»، ولنفترض أن المقصود بالجمال جمال بشري في وجه امرأة حسناء، أو رجل بهي الطلعة. الجمال سيكون انسجاما أو اتساقا كاتساق ألحان قطعة موسيقية؛ إذ تتوزع مكونات الوجه أو الجسد توزعا يجد في نفس الرائي لا استحسانا فقط، بل أكثر من ذلك: يجد استملاحا.
تبدأ البلاغة الصامتة حين تكون إزاء كيان لا ناطق (الوجه) ثم تبدأ في استنطاق عناصر جماله. استنطاق عناصر الجمال تعني أن تقرأ المنظر الجميل، لا بما هو كيان تلقائي، بل بما هو عناصر منظمة تنظيما يستحق» قراءة» وتقود قراءته إلى الانطباع، أو استخلاص جماله، وذاك هو الاستملاح الذي يصل درجة الانتشاء والانتعاش. ليس للبلاغة الصامتة نظرية صريحة، ولا قواعد يمكن تطبيقها، بل لها قراءة منفعلة في توزع العناصر تردها إلى مقولات جمالية مضمرة غالبا ما تكون موضوع تواضع كاللغة تماما. أن تقرأ وجها هو أن تؤول المقاييس الثقافية الجميلة فيه تأويلا يتناسب مع انطباع تعتقده خاصا، ولكنه يحمل تاريخيته واجتماعيته في قراءته الصامتة. إن الجمال من دون قراءة بلاغية صامتة، هو جمال لا نفع منه. أن تقرأ بالبلاغة وجها جميلا فذلك شيء، وأن تترجمه باللغة شيء آخر. ترجمة القراءة الصامتة بالكلام يمكن أن نجدها هنا وهناك في النصوص الأدبية التي تستعمل البلاغة الصائتة نظاما في التعبير عن البلاغة الصامتة. هي ضرب مما شعر به زوج الكونتيسة دي ماسكاراي في أقصوصة الجمال غير النافع لموبسان Guy de Maupassant وهو يتأمل وجهها وقد علته حمرة والبلاغة الصائتة هي ما قاله السارد: «كانت جميلة جدا ونحيلة وممتازة بوجهها البيضاوي الطويل وبشرتها العاجية الذهبية، وعينيها الرماديتين الكبيرتين وشعرها الأسود». في هذه الجملة لم تترجم اللغة بالدقة ما دار في خلد الزوج وهو يتأمل زوجته الكونتيسة فيحمر وجهه انفعالا؛ فليس في الجملة (كانت جميلة جدا) اختزال لقراءة الجمال، بل هي توصيف عام تفصله الجمل اللاحقة. إلا أن الترجمة قد تخون، فكونها نحيلة هو قراءة لصفة ينقصها تأويل الجمالي في النحول، وكون وجهها بيضاويا لا يقول شيئا من قراءة المتأمل المتملي في جمالها، أما بشرتها العاجية ففيها شيء من بلاغة اللغة، لكنها خالية من بلاغة القراءة الانفعالية المؤولة للجمالية، التي تميز وجها كوجهها. بلاغة الصمت لم تنقلها بلاغة النص لأنها لم تقرأ عناصر الحسن قراءة علامية دالة في سياق نظامي لا يصور الجمال بل يصور جمالية تلقيه.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري، في أي لحظة من الحياة، نحن كإنسان أو أسرة أو شركة أو دولة، في تقاطع طرق،

    الآن، كيف يجب أن تكون الإدارة والحوكمة في هذا التقاطع، هو الفن أو الذكاء أو الخُبث، تختلف بين أي إنسان وآلة في ردات الفعل، والتّصرّف، على أرض الواقع،

    الذكاء بالنسبة لي، كيف تخلق وسيلة دخل من المساعدة في ذلك،

    ومن وجهة نظري مثال الآلوسي، وفائق الشيخ علي، يستغلان موضوع أهل ما بين دجلة والنيل، ليس لديهم مشكلة مع أي يهودي أو مسيحي أو مؤمن وملتزم بأي شيء أو أخلاق،

    لرفع مفاهيم الليبرالي، من لا يؤمن، غير بالمال أولاً، أو المصالح، بلا أخلاق، ولا احترام، ولا حدود، ولا قانون، كل شيء ممكن لصاحب القوة (السلطة والحكم) تحت عنوان التأميم (سرقة الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمنتجات الانسانية داخل الدولة)،

    ما حصل في عيد رمضان عام 2021، قلب الطاولة على جميع هؤلاء، مثال الآلوسي والمذيع وبقية من شارك في العملية السياسية بعد 9/4/2003،

    وهذا مختصر مفهوم سوق صالح (الحلال)، من تنفيذ مشروع صالح التايواني.??
    ??????

  2. يقول S.S.Abdullah:

    في البداية أقول، الجمال شيء، واللغة شيء آخر، تعليقاً على عنوان (البلاغة الصامتة)، وما ورد تحته لاستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية (د توفيق قريرة)، فمن لا يستطيع التمييز بين أن الكلام من أي مخلوق شيء، والحكمة (الواقع) شيء آخر، والفلسفة (الخيال) شيء ثالث،

    ومن وجهة نظري، تدوين لغة أي مجتمع، تمثل خلاصة خبرته/حكمته/حضارته على أرض الواقع،

    صحيح ما بين دجلة والنيل، كان مهد الحضارات، ومهد الإسلام والمسيحية واليهودية،

    ولكن أولاً كان ميلاد لغة الأبجدية (المسمارية/السومرية)، وبعدها بألفي عام كان ميلاد اللغة الصورية (الهيروغليفية/الفرعونية)، وبعدها بألفي عام كان ميلاد لغة الأشكال (الماندرين، التقليدية (تايوان)، المبسطة (الصين))،

    وكانت ميلاد تدوين لغة القانون (مسلّة حمورابي)، وبسبب أهمية الاقتصاد لأي دولة،

    تم السبي البابلي، وبسبب السبي البابلي، تعلّم اليهود معنى التدوين، فقاموا بتدوين كتاب العهد القديم (التوراة) من كتاب الإنجيل للمسيحية،

    وكما تلاحظ ليس هناك أي شيء له علاقة بأوربا، التي ترفض التعايش والتكامل مع ثقافة الآخر، كما حصل عند تدمير دولة الأندلس، قبل خمسة قرون، أو ما حصل من مذابح في الحرب العالمية الأولى والثانية، أقلها الهولوكوست، أليس كذلك؟!

إشترك في قائمتنا البريدية