دمشق ـ «القدس العربي»: هل تخيلت نفسك يوماً غراباً يحلّق فوق المدينة؟ غراباً يلقي تحية الصباح على أهلها، ويراقب قطط الشوارع فيها وهي تتمطى مع بداية النهار. يمسك بأيدي أصحاب المحال فيها، وهم يفتحون أقفال الأبواب ويكنسون حجارة الأرصفة، معلنين بدء يوم جديد. يعيش مع نسائها وأطفالها وهم ينتظرون الحصول على قوت يومهم. يراقب كل حالات الحب والدهشة والغضب والكسل والحزن والانكسار فيها. ومع نهاية اليوم يطمئن لعودة الجميع إلى منازلهم، وإن كانت مظلمة، ليضعوا رؤوسهم على وسائدهم العتيقة، ويخلدوا للنوم حالمين بغد أفضل.
هل تخيلت كل ذلك يوماً ما؟
هذا ما فعله المصور والفنان السوري عمر ملص، على مدار السنوات الثلاث الفائتة، لتكون النتيجة كتاباً بصرياً حمل اسم «عين الغراب» ومعرضاً فردياً بالعنوان ذاته، وقد فتح أبوابه للزوار مطلع الأسبوع الفائت داخل صالة «قزح» للفنون في العاصمة السورية دمشق.
يوم دمشقي عادي
تبدأ رحلة الغراب في الكتاب الذي يتضمن خمساً وسبعين صورة بالأبيض والأسود، في الصباح الباكر. يعرفنا عن نفسه ضمن تعليقات مكتوبة بلسانه إلى جانب الصور، بأنه يعيش على سطح بناء وسط دمشق، دون سقف، ومن هناك يطير ملتقطاً تفاصيل الحياة في المدينة، التي يراها بهذين اللونين فقط. يلقي تحية الصباح على رجال مسنين وعمال يجلسون في أحد المقاهي الشعبية وسط المدينة، محاولاً الترويح عنهم وسط الهموم اليومية، ويرى فتيات يلتقطن صوراً لهن، ضمن حديقة عامة، فيها أيضاً رجل ينام على كرسي خشبي صغير، غير آبه بما يدور حوله، أو ربما يائساً من حياة تبدو وكأنها لا تسير نحو أي هدف. ولا بد له أيضاً من المرور إلى جانب أشخاص ينتظرون دوراً ما، فيصورهم ويكتب معلقاً: «في الصباح أرى الناس مصطفين بانتظام، يبدو المشهد حضارياً، لكن لا أعرف لماذا رأيتهم ذلك اليوم، كالأولاد المطيعين».
يستمر الغراب بالتحليق فوق الحديقة وشوارع المدينة، ليرى الناس وكأنهم في حالة انتظار دائمة، وهم يحملون همومهم على أكتافهم كأنها أشجار ضخمة، والزمن توقف لديهم، أو لم يعد له أي معنى. نرى أشخاصاً مسحوقين طحنهم ثقل الحياة، ويشبّههم الغراب بأنهم «ناس من حديد، يعيشون وسط الخراب» وهو خراب نلمحه بشكل واضح في بعض الصور التي نرى فيها من بعيد ما حلّ بأطراف المدينة خلال سنوات الحرب الماضية.
ولا ينسى بطل الحكاية وسط ذلك ملاحظة مدى تقديس سكان دمشق للعمل اليومي، وكأنه سر حياتهم ووجودهم، فنرى باعة في شوارع دمشق القديمة التقليدية، وآخرين في أسواق الخضار والفاكهة الشعبية، وهم يبتسمون أمام بضائعهم الأنيقة المرتبة. وفي الوقت ذاته لا تغيب عن الغراب ملاحظة حالات من الحب والجمال المنتشرة في زوايا المدينة، كامرأة تلاعب طفلها، وزوجين يعملان معاً، وفتاة جميلة تستلقي على السطح، ويسترق هو النظر لها، وشاب يبيع التماري وهي أكلة شعبية دمشقية، وطفلة مبتسمة بحياء على باب منزلها وضوء الصباح يغطي جزءاً من وجهها.
ويختتم الغراب يومه عندما يأتي المساء، مع سيدة تجلس على أحد الأرصفة حائرة مع أولادها الأربعة، وكأنها تبحث عن إجابات لأسئلتها الكثيرة، وامرأتين تعودان مسرعتين إلى منزلهما، وشوارع توقفت الحركة فيها واصطفت السيارات على جوانبها، ومن ثم طائر سنونو عابر، يبدو وكأنه يعلن بتفاؤل عودة الربيع إلى المدينة.
ومن هذه الرحلة الطويلة، اختار الفنان اثنتين وعشرين صورة تلخص أهم ما عاشه الغراب في يومه ذاك، لتكون ما يراه الجمهور على جدران الصالة أثناء فترة المعرض، وقد طُبعت بأحجام مختلفة وزُينت بأطر عتيقة تشبه روح المدينة.
«أنا هو الغراب»
في التعريف عن المشروع يكتب عمر ملص على غلاف كتاب «عين الغراب»: «دمشق. تلك المدينة الوادعة، القديمة والمهترئة، تسكنها مجموعة من البشر، يفصلهم عن الجنون جدار رقيق، لا يتمزق بسهولة. أحد هؤلاء السكان وهو مصور، استطاع العبور، فوجد نفسه قد تحول إلى غراب، يلتقط صوراً للناس ويطير هارباً، تماماً كما يلتقط الغراب طعامه، فهو يطير عالياً بكل حرية فوق المدينة، يراقب الناس وهم غارقون في همومهم اليومية، ويبقى خائفاً من أن يمسكه أحدهم».
وتحدث الفنان لـ«القدس العربي» من داخل صالة العرض عن حالة التماهي التي حدثت بينه وبين هذا الطائر خلال فترة العمل على المشروع: «بحكم أن منزلي يقع في الطابق الأخير لأحد الأبنية في دمشق، ولأنني اعتدت التقاط الصور بكاميرتي خلال السنوات الماضية بمزيج من الخوف والرغبة بالحرية، شعرت بوجود تقاطعات كبيرة بيني وبين الغربان، التي أتواصل معها بشكل يومي، فهي تلتقط طعامها من بين الناس بخوف وحذر، وبالطريقة نفسها أنا أصوّر تفاصيل الحياة والأشخاص، وشعور دائم بالقلق يساورني، وفي الوقت ذاته يكون لديهم هم أيضاً الإحساس نفسه بالخوف من الكاميرا». لم يتوقف الأمر عند ذلك، إذ تساءل ملص خلال رحلة عمله على المشروع، عن سبب استمرار الغراب بالحياة في دمشق: «لمَ لم يختر هذا الطائر الهجرة والبحث عن حياة في مكان آخر؟». هذا التساؤل قاد الفنان إلى قناعة أخرى بأن الغراب أيضاً هو جزء من المدينة، حاله حال أولئك الجالسين في المقهى الصغير والقادمين من كل أنحاء سوريا، وذاك الرجل الذي يستيقظ كل يوم ليكنس الرصيف أمام محله، رغم أنها تبدو عملية أزلية لا جدوى منها، والبائعين المنتشرين في كل الزوايا والأسواق والشوارع: «مثلهم مثل الغراب. هم جزء من المدينة ولا يمكن أن يغادروها، مهما كانت الأوقات التي تمر عليهم صعبة وقاسية» يضيف.
وتضمنت الرحلة كما يشرح لنا ملص محاولة لإظهار جوانب من التناقض الموجود في دمشق، فهي غنية بأسواقها ومحالها التي تفتح أبوابها منذ الصباح الباكر عارضة كل ما يمكن للمرء أن يشتريه، وفي الوقت ذاته يعيش قسم كبير من سكانها في فقر رهيب. ورغم قسوة الحياة فيها، يسعى الناس جاهدين للعمل والعيش بسلام، وإن كان من خلال مهن بسيطة كبيع التماري أو الفول أو أكواز الذرة.
إذن، هو توثيق للحياة اليومية في دمشق المنهكة من سنوات الحرب، من زاوية ووجهة نظر الغراب بكل ما تحمله من خصوصية ومعنى. يقول الفنان في ختام حديثه: «يبدو لي الغراب اليوم وكأنه طائر أزلي في سماء هذه المدينة، وقد سعيت من خلال الكتاب والمعرض لأن أرى الأمور بعينين: الأولى ترصد ما يراه الغراب وتتحدث بلسانه، إذ لم أرغب بأن يبقى صامتاً، والثانية ترصده هو بحد ذاته، من خلال مجموعة بورتريهات له، يظهر فيها محلقاً فوقنا، أو واقفاً على سطح أو مدخنة ما، متفرجاً علينا وعلى تفاصيل حياتنا».