الخيال ينقسم إلى قسمين: قسم اتخذه الإنسان ليتفهم به مظاهر الكون وتعابير الحياة، وقسم اتخذه لإظهار ما في نفسه من معنى لا يفصح عنه الكلام المألوف. ومن هذا القسم الثاني تَوَلَّدَ قسم آخر ولَّدته الحضارة في النفوس أو ارتقاء الإنسان نوعاً ما عمَّا كان عليه، وهذا القسم الآخر هو الخيال اللفظي الذي يراد منه تجميل العبارة وتزويقها ليس غير. والقسم الأول هو أقدم القسمين في نظري نشوءاً في النفس؛ لأن الإنسان أخذ يتعرف ما حوله أولاً حتى إذا ما جاشت بقلبه المعاني أخذ يعبر عنها بالألفاظ والتراكيب، ولما مارس كثيراً من خطوب الحياة وعجم كثيراً من ألواء الدهور وامتلك من أَعِنَّةِ القول ما يقتدر به على التعبير عمَّا يريد، أحس بدافع يدفعه إلى الأناقة فى القول والخلابة في الأسلوب، فكان هذا النوع الجديد من الخيال، هذا النوع الذي عمد إليه الإنسان مختاراً، فكان منه المجاز والاستعارة والتشبيه وغيرها من فنون الصناعة وصياغة الكلام.
ولزيادة البيان عن هذا الفكر الذي أريده أقول: إن الإنسان شاعر بطبعه، في جِبلته يكمن الشعر وفي روحه يترنَّم البيان. إذ أيُّ إنسان لا يهتاجه المنظر الساحر والمشهد الخلاب، وأيُّ امرئ لا يستخفه الجمال في أي مظهر من مظاهره وفي أية فتنة من فتنه؟ ولكن الناس يتفاوتون في إدراك الجمال والشعور به على حسب قوة هاته الغريزة الشاعرة أو ضعفها، فمنهم من تضعُف فيه هاته الغريزة ضعفاً بَيّناً حتى توشك أن تموت؛ لأن نفسه قد استحوذت عليها غريزة أخرى شغلت كل ما بها من فراغ. ومنهم من تقوى فيه هذه الغريزة حتى تتمرد فتطغى على كل ما عداها من الغرائز البشرية المتطاحنة. لأن النفس الإنسانية مضمار رحيب تتقارع فيه الغرائز وتتصارع فيه الميول والشهوات، وبقوة هاته الغريزة أو ضعفها يتفاوت الإحساس والشعور فيتفجَّر الشعر الخالد من بعض الأفئدة البشرية على حين أن الأخرى لا ترشح بغير الصديد. وتتكشف بعض النفوس عن عبقريات جبارة عاصفة على حين أن البعض الآخر لا يلد غير الغباوة المستخذية النائمة.
ولكن قوة هاته الغريزة أو ضعفها هي في كثير من الأحيان وليدة الحوادث والظروف. فرُبَّ دمعة يائسة أيقظت ألف عاطفة نائمة، ورُبَّ ابتسامة حالمة أهاجت سواكن الوجود، ورُبَّ مشهدٍ رائع أحيا عبقرية خالدة، ورُبَّ فكرة واحدة صدعت أركان قلب كبير …
وهكذا هبط الإنسان هذه الأرض مُزَوَّداً بتلك الغريزة الشاعرة فكانت هي الأمل الجميل الذي ينير له مسالك العيش ويمهد له سبل الحياة. وكانت هي الخيبة القاتمة التي تقذفه في هُوَّةِ اليأس وتُشقيه في نار الألم. كذلك هبط الإنسان الأرض لا يملك غير حِسِّهِ ونَفْسِهِ وغير قلبه وشعوره، أما عقله فما زال يحلم في مهد الحياة، فكأنَّ له من مشاهد الكون ومظاهر الطبيعة ألغازاً غامضة ومعاني مستترة، تبدو له ملتَفَّةً في ثوب من ضباب كما تبدو الذكريات القَصِيَّةُ في زوايا القلوب حتى إذا ما حاول أن يمسكها توارت عنه كما تتوارى الأشباح، وكان فيما بينها كالنائم السادر في أحلام الليل ورؤاه تبهجه هذه وتبكيه تلك وتفزعه واحدة وتسكنه أخرى، ولم يكن له من عقله في تلك الساعة ذلك العقل القوي الجبار الذي عَبَّ من نهر الحياة المندفع فاشتد أسره وتوثَّقَت قواه، بل كان عقلاً ضعيفاً واهناً متهدماً لم تضرسه الحياة ولا علمته الخطوب.
وما كان الإنسان بخامد النفس ولا هامد الحس حتى يغضي على ما حوله زاهداً فيه ويقنع بالجهل الأخرس والصمت الكئيب، بل كان قويَّ المشاعر متحفز الخيال. فذهب يعلل مظاهر الكون بما شاء له الشعر أن يذهب، وأخذ يفسر تعابير الطبيعة الداوية بما يملي عليه الخيال المرح والشعور النشيط، دون أن يَعْلَقَ بوَهْمِهِ قَطُّ أنه سادرٌ في الخيال بعيد عن جدد الحقيقة، وإنما كان على ثقة ويقين من أن ما وصل إليه هو في الصميم
من الحق وفي الحبة من الصواب، ومن هنا كانت بذور الأساطير الدينية الأولى تثمر في النفوس وكانت المعتقدات الوثنية تتكون في أعماق القلوب تَكَوُّنَ الجنين في بطن أمه. وهذا هو منشأ الخيال في الفكر البشري القديم قبل أن تصقله الحضارة وتشذبه المدنية.
وصفوة القول أنَّ الإنسان مضطر إلى الخيال بطبعه، محتاج إليه بغريزته؛ لأن منه غذاء روحه وقلبه ولسانه وعقله. وأن اضطراره إليه جعله في نظره الأول حقيقة لا خيالاً وما أصبح يعرف الخيال من الحقيقة إلا بعد أن تطورت نظرته إلى هذه الحياة وأصبح يعرف أن الليل والنهار والعواصف والبحار ليست أرواحاً ولا آلهة، وإنما هي مظاهر لهذا النظام الإلهي العتيد الذي يسخّر كل شيء.
فقرات أولى من كتاب «الخيال الشعري عند العرب»، 1929
ويل لأمّة تلبس من أكفان الموتى
لم يكن مألوفاً، في سنة 1929، في تونس، وضمن أجواء جامع الزيتونة المحافظة، أن يخرج فتى في العشرين من عمره، ليقول التالي عن الأدب العربي: «مادي لا سمو فيه ولا إلهام ولا تشوّف إلى المستقبل ولا نظر إلى صميم الأشياء ولباب الحقائق، وأنه كلمة ساذجة لا تعبّر عن معنى عميق بعيد القرار ولا تفصح عن فكر يتصل بأقصى ناحية من نواحي النفوس»؛ خاصة في العصرين الجاهلي والأموي، حين كان ذلك الأدب «خالياً من الشعور بجمال الطبيعة والحديث عنه إلا أصواتاً ضئيلة خافتة تنطلق من حين لآخر كغمغمة الحالم الذي لا يفْقَهُ ما يقول»؛ واضعاً ذلك الأدب في تناظر معاكس مع آداب «الغربيين»، الذين اتجهوا إلى «ما وراء المادي، بما زاد من حضور الأسطورة والخرافة في شعرهم ونثرهم».
كذلك لم يكن مألوفاً أن يقول ذلك الفتى، نفسه: «لا خير في أمة عارية تكتم فقرها ولا خير في شعب جائع يظهر الشبع»؛ أو: «شرّ من كل ذلك أمّة تقتني أثوابها من مغاور الموت، ثم تخرج في نور النهار متحجبة بما تلبس من أكفان الموتى وأكسية القبور»؛ أو أن يضيف، شعراً هذه المرّة: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة/ فلا بدّ أن يستجيب القدر/ ولا بدّ لليل أن ينجلي/ ولا بدّ للقيد أن ينكسر!».
الأرجح أنّ الفتى، نفسه، أبو القاسم الشابي (1909 ـ 1934) لم يكن ينتظر، ولا كانت أسرته أو أصحابه تأمل، أن يصبح شاعر تونس الأهمّ في العصور الحديثة؛ وأحد كبار رجال الاستنارة والإصلاح في العقود الأكثر اضطراماً من تاريخ البلد؛ أسوة بأمثال الطاهر الحداد، أبرز دعاة تحرر المرأة؛ ومحمد علي الحامي، مؤسس أول منظمة نقابية تونسية؛ والحبيب بورقيبة نفسه، الشخصية الوطنية الرائدة. وكيف للفتى، الذي رحل عن 25 سنة، أن يتكهن بما ستفعله أبيات قصيدته الأشهر «إرادة الحياة»، على امتداد التاريخ العربي في القرن العشرين، في الكفاح ضدّ الاستعمار وضدّ الطغاة من أبناء الجلدة، على قدم المساواة.
ومع ذلك فإنّ الشاعر، في أعماق الشابي، لم يكن إصلاحياً وتنويرياً وداعية ثورياً، فحسب؛ بل كان، في المقام الأوّل، شاعراً فناناً، طليق الأدوات وجسور الخيال، عاشقاً للطبيعة مرهف الإحساس بطاقاتها، مثقفاً عصري الذهن وحداثي التفكير رغم عدم إتقانه لأية لغة أجنبية، منتمياً إلى حركات التجديد الشعري، وسجالياً في مواجهة مدارس التفكير التقليدية. ولقد ظلّ وفياً لأنوار الحياة، ضدّ ظلمات الموت، حتى في ذروة اشتداد المرض عليه؛ فرحل مغنياً: ومن يتهيب صعود الجبال/ يعشْ أبد الدهر بين الحفر!
نصّ: أبو القاسم الشابي
حقا اذا اردنا نحن العرب ان نفاخر العالم في فن الشعر, فلنا في خصوبة الشابي و حكمة المتنبي مناهل متدفقة.