شعرنا المعاصر إلى أين؟ (16): الشعر الليبي عانى من ظلم المركزية المشرقية ومكر التاريخ

دائما كنت أنظر إلى الشعر الليبي بأنه من أبرز «ضحايا» المركزية الشعرية العربية، فقد ظل في الهامش وخارج المتن؛ فهو سليل تقاليد شعرية (شعبية وعالمة) ونتاج بيئة ثقافية متنوعة للغاية. يتتبع الباحث قريرة زرقون نصر، أطيافا من تلك السلالة الضائعة في كتابه «الحركة الشعرية في ليبيا في العصر الحديث» (2003)؛ إذ يرصد أبرز المسارات التي سلكها هذا الشعر، والاتجاهات المتباينة التي تشكلت، وكانت تتفاعل مع قدرها السياسي ونسيجها السوسيوثقافي، بقدر ما انفتحت على تجارب من محيطها العربي والعالمي.
بدأت مغامرة الشعر الليبي الحديث عندما أقدم الشاعر مصطفى بن زكري في عام 1892، على طبع ديوانه الشعري، لتتتإلى بعده سلسلة من الدواوين المطبوعة لشعراء محافظين، غلب على شعرهم الاتجاه الإحيائي، ودعوا عبره إلى الجهاد في سبيل الله أيام الاستعمار الإيطالي. ومنذ ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت تظهر حركة نقدية تواكب الإنتاج الشعري، وتقوتْ أكثر في منتصفه؛ إذ انبرى دارس ومؤرخ للأدب مكين مثل محمد خليفة التليسي؛ أبرز المنح الليبية المشرقة التي وصل تأثيرها إلى كل البلاد العربية، إلى دراسة هذا الشعر بأدوات جديدة ومتفتحة، وهو يسأل في إحدى مقالاته: «هل لدينا شعراء؟» (1952). وفي كتابه» رفيق شاعر الوطن دراسة عن الشاعر الليبى أحمد رفيق المهدوي والحركة الأدبية الحديثة بليبيا» (1965) لم يتوانَ عن نقد الاتجاه التقليدي الذي كان يرين على الشعر الليبي، ويطالب بأن ينفتح هذا الشعر على آفاق أرحب و»أكوان شعرية جديدة». وقد بدأ النقاش بين المدرسة التقليدية ومدرسة الشعر الحديث، وظهرت تباعا مجموعة من الصحف والمجلات والدوريات المحلية تُغذي هذا النقاش، بل دخلت في الخط مجلات الشعر الحديث الوافدة من المشرق؛ مثل مجلتي «الآداب» و»شعر». كما ظهرت دراسات نقدية تواكب الحركة الشعرية المتنامية. وفي هذه المرحلة وما تلاها، برزت أسماء شعرية شابة أكثر تمثيلا لها؛ مثل: علي الفزاني، وعلي صدقي عبد القادر، وعلي الرقيعي، وحسن محمد صالح، وخالد زغيبة، وغيرهم من ممثلي الشعر الحر أو الحديث.
وقد استمر التجديد الشعري، بل التجريب في الشعر الليبي المعاصر منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين؛ إذ بدت الإرهاصات الأولى لتجربة قصيدة النثر في ليبيا بتأثير مباشر من نصوص التجربة العربية أو المترجمات الأجنبية، ثُم تطورت في ما بعد، كما يعرض ذلك الباحث سليمان زيدان في كتابه «قصيدة النثر في ليبيا: بداياتها وبنياتها» (2020). برز من كُتابها الأوائل: عبداللطيف المسلاتي، ومحمد الكيش، ومحفوظ أبوحميدة، وعبدالرحمن الجعيدي، وفوزية شلابي، وعائشة المغربي، وزاهية محمد علي. وابتداء من تسعينيات القرن وإلى اليوم، ظهر جيل جديد من كُتابها أكثر وعيا بأطروحاتها الفنية؛ مثل: مفتاح العماري، وعمر الكدي، وحواء القمودي، وعاشور الطويبي، وفرج العربي، وفاطمة محمود، وسالم العوكلي، وسراج الدين الورفلي، وخلود الفلاح، وصالح قادربوه وغيرهم.
وعلى الرغم من نشاط روح الشعر في ليبيا، بل إصرارها الدال في كل مرحلة من تاريخها الحديث، إلا أنها أخذت تمتحن، تحت تأثير السياسة والحرب والتجاذبات القبلية والمزاج الرمادي العام، عبورها «الهاملتي» الخاص، وكان ذلك في أحيان غير قليلة يصيب الحالة الشعرية بمغص شديد، ويلحق الشعري بمشروعات البوق السياسي والنواح الفجائعي المستهلك وانهيار الأفق المديني، بل إن نص العصيان والتمرد يخفت شعريا، وتعتري قصيدة النثر نفسها مظاهر «الريف والبداوة» والزعيق الغنائي. وفي أحيان أخرى مقابلة، وغير قليلة كذلك، تشعر بأن تلك الروح ما زالت تتقد تحت الأنقاض، وهي تعاني مخاض ولاداتها على الدوام وتختزن أعظم القصص لتقولها وتعبر عنها؛ فقط عندما تفرغ البندقية من آخر رصاصة ندم، ويعود حفدة عمر المختار لاستئناف وعد الحياة ووعد الجمال.

العقد الثامن من القرن الماضي كان رتيبا، فقيرا، خصوصا بعد اعتقال عدد كبير من الأدباء الليبيين. مع ذلك، لا بد من ذكر أهمية مفتاح العماري، وفرج العربي، وفاطمة محمود، وسالم العوكلي، وعبد السلام العجيلي، وفرج العشة.

عاشور الطويبي: جغرافية ضائعة

ليبيا، هذه الجغرافية التي لم تنصف أهلها ولم ينصفوها في كل تاريخها! مساحة كبيرة، سكان قليلون، ثقافات ولغات متعددة. كانت دائما محطات الغزاة الإغريق، الرومان، العرب، الأتراك، والطليان. لم يفكروا في ترسيخ ثقافة البقاء وقبول الأهالي المحليين. بذا وبعد قرون من الاستيطان، لم يبق منهم إلا سطور ليست بالكثيرة في كتب التاريخ. لغاتهم اندثرت، مثلما نحتت عظامهم رياح القبلي والكراهية. منذ مجيء العرب إليها، في موجتين كبيرتين: قبائل بني سليم وبني هلال، والهاربين من الأندلس بعد سقوطها. هؤلاء صاروا أشرافا، أكلوا العنب وبذور العنب. شعريا، لا يختلف المشهد الليبي كثيرا عن المشهد الشعري العربي، بل كان في أغلب الأحيان يتموضعُ/ يضعه الآخرون، في الهامش وخارج المتن. لكن لا بُد أن أشير إلى ظهور شعراء كان همهم التفرد، الإبداع والخلق الفني. يمكنني ذكر بعض الأسماء الفارقة، خاصة في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين: علي الرقيعي، والجيلاني طريبشان، وعلي الرحيبي، ومحمد الفقيه صالح، ولطفي عبد اللطيف.
العقد الثامن من القرن الماضي كان رتيبا، فقيرا، خصوصا بعد اعتقال عدد كبير من الأدباء الليبيين. مع ذلك، لا بد من ذكر أهمية مفتاح العماري، وفرج العربي، وفاطمة محمود، وسالم العوكلي، وعبد السلام العجيلي، وفرج العشة. منذ سقوط نظام القذافي عام 2011، ظهرت داخل المشهد الشعري ـ مع فورة شبكة المعلومات- أصواتٌ شعريةٌ من الجنسين كثيرة. تتميز بالجرأة والمغامرة والتجريب، مثلما أيضا عاد بعضهم لكتابة القصيدة المقفاة، باعتبارها الأصل في الشعر! وهذا لا شك ـ في تقديري- ليس في صالح الشعر.
في الختام أود لفت الانتباه، إلى نقص في الأعمال المنشورة، يكاد يكون كاملا، باللغات الأمازيغية، التباوية، والتارقية. ونحن في حاجة ماسة إلى الإسراع في ترجمة هذا المنتج الشعري إلى العربية، فهو جزء أصيل من الشعر الليبي. كذلك إعادة النظر إلى أهمية وأحقية الشعر الغنائي، والعامي/الشعبي/المحكي، باعتباره شعراً لا يقل شعرية عن المكتوب باللغة العربية الفصحى.

محمد عبدلله الترهوني: أي شعر.. أي أوضاع؟

أوضاع الشعر الليبي؟ الشعر في ليبيا نائم، ويعيش أحلاما سعيدة ويتنفس بهدوء، لأنه لم يسمع كلمة واحدة من ناقد عن عدم كفاءتهِ. عاش الشعر في بلادنا في أحضان نقد انطباعي يشبه المحاكاة الساخرة للضغط على «أعجبني» في وسائل التواصل الاجتماعي. وإذا تجنبنا الحديث عن القصيدة المحافظة التي تشكل حطاما ضخما، أو قصيدة التفعيلة، التي إذا تخلصنا من الغطرسة والكبرياء المفرط، يمكن القول إنها مجرد صدى لصوت الشعر في المشرق العربي. لا القصيدة المحافظة، ولا قصيدة التفعيلة يمكن القول عنها إنها قصيدة ليبية، فقد كانت لدينا جميعا كعرب عصابة مفلطحة من الهموم والقضايا المشتركة، ونعتقد جميعا أننا مقاومون ومناضلون، وكلماتنا يجب أن تقاتل، لكن فجأة وبطريقةٍ ساخرة تراجع كل شيء، وأصبحنا بلا قوة وبلا أمل. حدثَ اختلافٌ في الهموم والقضايا نتج عنه اختلاف على مستوى الشعرية، وظهرت وسط تلك الفوضى قصيدة النثر، أو مشروع العالم السفلي، وارتبط هذا الموضوع في مُخيلة الكثير من الشعراء الليبيين بموضوع الحداثة، بينما هو في الحقيقة مرتبط بنص ما بعد الحداثة، مع أن لا أحد يعلم ما هو الفرق، إلا أن هناك تكدسا في خانة الحداثة، وهذا غريب حقا، لأن نص الحداثة مغلق «من حيث معناه» في حين نص ما بعد الحداثة مفتوح وغير محدد، وربما لا أحد أيضا يعلم معنى الفرق بين النص الموجود في ولأجل نفسهِ، والنص الملتزم بتبعية ومشاركة القارئ. وكالعادة لم يتم التعامل مع قصيدة النثر بتحليل نقدي، بل تم التعامل معها بطريقة تآمرية صامتة.

الشعر في ليبيا نائم، ويعيش أحلاما سعيدة ويتنفس بهدوء، لأنه لم يسمع كلمة واحدة من ناقد عن عدم كفاءتهِ. عاش الشعر في بلادنا في أحضان نقد انطباعي يشبه المحاكاة الساخرة للضغط على «أعجبني» في وسائل التواصل الاجتماعي.

لا أحد هنا يبحث عن نموذج نظري؛ عدم الكفاءة النقدية سرعان ما يخلف عدم كفاءة شعرية، والكثير من كتاب قصيدة النثر لا يفهمون علاقة هذه القصيدة بالمدينة والحداثة والتخريب لكل قديم وإبعادها لشبح الريف والبداوة. قصيدة النثر لا تعترف بشاعر يتعامل مع الحضارة كقناع، قصيدة النثر مختلفة وتحتاج إلى عقلية مختلفة، ومع ذلك عند قراءة معظم قصائد النثر في ليبيا، نجد العواطف نفسها والتعبير الغنائي نفسه، اللذين نجدهما في القصيدة المحافظة. ما الذي يمكن أن يحدد ويميز قصيدة النثر عندنا في ليبيا باعتبارها قصيدة نثر ليبية؟ الحقيقة لا شيء على الإطلاق يميز هذه القصيدة عندنا، لأن الرواية السيئة ما زالت رواية، والقصيدة المحافظة السيئة ما زالت قصيدة، أما قصيدة النثر عندما تكون سيئة فهي تختفي من الوجود، وتصبح مثل شبح ضال وغبي، والأمر يزداد كل يوم انحطاطا بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك؛ ففيه نجد صفا من الشعراء لديهم كل الإمكانيات لجعل قصيدة النثر نوعا منحطا من الشعر، وجعل الأدب يمشي في طريق عمياء وسرية. هناك فوضى، عارمة هنا، ولا يمكن السيطرة على هذه الفوضى، لأن من يديرها هو إله الجحيم.
يبقى أن نقول إنه وسط هذه الظلال السوداء الكثيفة هناك أصوات شعرية يغمرها ضوء القمر، هذه الأصوات، رغم قلتها إلا أنها تقف على رأس الشعرية في كل الوطن العربي، من هذه الأسماء سراج الدين الورفلي، وحمزة الفلاح، وصالح قادربوه.
أخيرا، يجب أن أنبه إلى تجربة الشعر المحكي في ليبيا، هذه التجربة التي تمكنت من استدعاء كل ما هو ليبي، وتمكنت مع الوقت من الإفراط في التأثير، وقد اكتسبت من خلال خبرة سالم العالم، ومحمد الدونقلي، والصيد الرقيعي، وعبدالمنعم الفليليح، حقها في الوجود.

فرج العربي: سؤال القطيعة

احتاج الإنسان البدائي وسائل جديدة للتعبير، منذ أن اكتشف نفسه أمام كائنات لا يعرفها، يريد استنطاقها ومحاورتها، يشتهي القبض على حقيقتها الأولى. عبّر عن نفسه بالإيماء والرقص والحركة. كان الإنسان فكانت إشكالية اللغة، لأنها ليست إشكالية إبداع فقط، وإنما إشكالية ممارسة، وإشكاليتها ليست في كونها مادة أولية للكلام والشعر والرقص والموسيقى.. بل في السؤال الأول: إلى أي حد يمكن للغة أن تستوعب طقس الإنسان ومناخاته المتغيرة؟ ما مدى قدرة اللغة على كشف حقيقة العالم وكشف حقيقة ذاتها؟ هذا الفهم الشديد للاكتشاف جعلني أفتش عن تاريخ اللغة، بما أنها مادة للشعر، أفتش عن حقيقة الشعر الذي لا يعتمد اللغة كأداة معرفة فقط، وإنما يعتمدها ممارسة وسلوكا وفعلا.

الشعر الليبي تجده في منصات ومواقع التواصل الاجتماعي بأشكال مختلفة، التي تحولتْ إلى منابر ثقافية بدل المجلات والصحف والصفحات الثقافية التي عرفناها.

إشكالية اللغة في الكتابة الحديثة تنطلق من إشكالية القطيعة ذاتها، التي شكلها الشعر العربي المعاصر. فهذا التطور الهائل في اللغة لا يمكنه أن يحدث بصورة عابرة دونما إشكالية في التواصل، لأن هناك هوة قائمة بين اللغة لكونها مؤسسة ماضوية سلطوية، والشعر لكونه يستند إلى لغة متمردة وخارجة عن النظام. الكتابة الشعرية في ليبيا اليوم لا تختلف عن مناخات الشعرية العربية، بل هي متأثرة فيها، وجزء من تحولاتها وتطورها، وأعني هنا الشعرية الحقيقية. القطيعة التي أحدثها الشعر الليبي المعاصر، خصوصا عند شعراء قصيدة النثر، لم تحدث في سياق النظام الفكري، وإنما حدثت في لغة الشعر فقط، ونتجت عن هوة التواصل بين النص والمتلقي، لأن لغة المتلقي لغة مستهلكة، في ما لغة الشاعر لغة منتجة.
الشعر الليبي اليوم نتيجة لكل التحولات يختص عند بعض الشعراء بممارسة اللغة اليومية البسيطة والعميقة في نظرتها إلى العالم من حولنا؛ حالة التدهور المعيشي، وحالة الحرب والانقسام السياسي، وحالات الذات المتناقضة وأسئلة الكون الأزلية. حالات مستقرة ومشتتة تنعكس بشكل وآخر على النص الشعري، وطبيعي أن النص الذي يعتمد السائد في التعبير عنه هو نص مُراوِحٌ يفضي إلى كثير من الرتابة، والشاعر الحقيقي يكون مختلفا ورافضا للبرمجة والسلطة، وهو من يعيش تجربته بامتلاء، وتوازن يجعله يدرك معنى الحياة والحلم.
نحن ندرك أن الشعر ما عادت له الوظيفة الاجتماعية والإعلامية التي كان يؤديها في المدح والرثاء، أو التعبير عن الانتصارات وتحريض الشعوب. الشعر الليبي تجده في منصات ومواقع التواصل الاجتماعي بأشكال مختلفة، التي تحولتْ إلى منابر ثقافية بدل المجلات والصحف والصفحات الثقافية التي عرفناها. هنا اختلط الحابل بالنابل وكثر عدد الشعراء وغيرهم. يبقى أن الشعر الليبي المعاصر عند أسماء معينة، دون غيرها وسط هذا التكالب على ادعاء الشعر وكتابته ونشره. الشعر سؤالنا ودهشتنا الأولى أمام العالم.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية