إن شعرت بالضياع وقلة التركيز لجمع خيوط رواية «الملف 42» للمغربي عبد المجيد سباطة، لما فيها من أقاصيص وحكايات مبعثرة على سلم زمني متحرك، بين الماضي والحاضر، وخريطة مكانية تتموقع بين عدة مدن في كل من المغرب وأمريكا وروسيا، فما عليك سوى أن تذهب إلى الصفحات (378، 379، 380، 381، و382) لتقف على المخطط المبسّط للرواية، وطريقة بنائه الذكية. هذا أولا، أمّا ثانيا فتذكّر أنك أمام نمط جديد ومختلف من الرواية العربية، يجعلك يقظ الحواس منذ انطلاقتك الفعلية في قراءته.
اعتماد الكاتب لسرد أحداث روايته على تعدُّدِ الأصوات، وضمير الأنا يتطلّب فطنة كبيرة من طرف قارئه، لفهم ميكانيزمات تركيبته الروائية، التي حاكها ببراعة بخيوط أقاصيص كثيرة، أخذتنا جميعها إلى بكرة واحدة هي الأصل في سر كل ذلك البناء المتقن، إن الفطرة الإنسانية لا تهنأ إلاّ بالخير، وأي انحراف نحو الشر ستكون أثمانه غالية. هكذا واجه أشخاص سباطة أقدارهم المتشابكة بشرور مفاجئة بعضها وليد البيئة الحاضنة لها، وبعضها وليد الذات.
تمّ ضبط إيقاع كل تلك الشرور حول محور الصدفة أحيانا، التي إن قلنا إنها مبالغ فيها نوعا ما، إلاّ أنها لم تختلف عن مبالغات الحياة أحيانا في واقعها، أمّا محور النوايا فقد ارتبط في الغالب في لحظات تهوّر غاب فيها العقل تحت تأثير غريزة البقاء، التي لا يبدو أنها ضرورية كلما ابتعدنا عن دائرة الجشع الذاتي لإشباعها.
ما لا يختلف عليه اثنان أن هذه الرواية تجعلنا نستحضر «دفاتر الوراق» للأردني جلال برجس، وكلاهما بلغ القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، فما الذي جمع الشامي بالمغربي، في عملين مختلفين التقيا بصدفة عجيبة في بوكر هذا العام؟ يلتقي الاثنان في تكوينهما العلمي الرياضي فالأول مهندس طيران (برجس) والثاني مهندس مدني (سباطة) وكلاهما دخل عالم الأدب بتفوق من باب الرياضيات، وهذا بالنسبة لي من أكبر مكاسب الرواية العربية في هذا الحدث الاستثنائي. تلتقي الروايتان في اعتماد الكاتبين على الحاضر الوثيق بإفرازات الماضي، إذ تعيدنا «دفاتر الوراق» إلى أواخر أربعينيات القرن الماضي، أما «الملف 42» فإلى أواخر خمسينياته، تتقاطع مصائر الشخصيات بشكل عجيب، لكن الجزء الأغرب هو جانب الرحلة الروسية، سواء كفضاء مكاني لأحداث مروية، أو مرجعية أدبية بينت مدى تأثر الكاتبين بالأدب الروسي.
تقسيم الفصول يأخذنا قسرا إلى أعمال عبقرية من الآداب العالمية، خاصة الروسي منها في كليهما أيضا. ولدى كل كاتب شخصياته الأدبية التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى، في رابط سحري بين المخيال والواقع. أما الأهم فإن درجة الإمتاع التي يحظى بها قارئ الروايتين يجعله سعيدا مرتين، مرة لأنه أمام عملين في غاية الإتقان، ومرة لأن هذا التلاقي العجيب بين عملين أحدهما من المشرق والآخر من المغرب في مسابقة واحدة، لمن أغرب الصدف التي تثير الدهشة، وكأنه رسالة لكل من يوجه تهمة لأي من العملين على أنه مزدحم ببعض المبالغات. فهل هناك أجمل من هذه المبالغة القدرية، التي جمعت بين عملين يكشفان عن تقدم كبير في مشغل السرديات العربي، وإحراز درجة تفوق عالية فيه.
ومثل برجس يخرج سباطة وجع الإنسان المهمل، العالق في هامش المواطنة الزائفة، وسط متاهة الخطايا القاتلة، التي قد ينفذ منها الخيّرون بأعجوبة، لكن دون إنجاز يذكر، سوى البقاء على قيد الحياة، كمكافأة وحيدة يمكن اعتبارها المكافأة الأعلى مستوى.
تنتهي الرواية كما تنتهي بعض الأفلام السينمائية المشوقة، بعد رحلة من المغامرات المثيرة، بلقاء متجدد بين الكاتبة الأمريكية والشاب المغربي الطموح، الذي ساعدها في رحلتها الأولى، لبدء مغامرة جديدة بحثا عن أخ محتمل عرفت بوجوده من أحد أسرار والدها المدفونة.
على مدى عشرين فصلا، و424 صفحة، يستحيل إفلات الرواية من بين أيدينا، إنها نص العقد المتجدّدة، وأخطار الإلياذة اليونانية التي تتوالد من العدم أحيانا. كما يمكن اعتبارالمغامرة الروائية لسباطة إنجازا ضخما، فيه من الجماليات ما يكفي لتوصيفها كنموذج ناجح من بين النماذج التي قدمتها القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية للقارئ العربي. لا تكتفي الرواية أيضا باقتفاء آثار أبطالها، بل تأخذنا في رحلة ثقافية ثرية إلى عالم الأدب العربي والعالمي، السينما، الأغنية، خاصة الأغنية المغربية التي نجهلها، يذكرنا بتيارات أدبية شهدها العالم في بعض أصقاعه، يشرح لنا سر لعبة الشطرنج، التي وظفها مرتين بطريقة آسرة، وهكذا كلما ظننا أننا فتحنا بابا وطاب بنا الاستقرار في الباحة، التي يفتح عليها، إلاّ واصطدمنا بباب آخر يجرنا في عملية تجريب ماتعة لمفاتيح جديدة، واكتشاف ما يخفيه من أسرار.
استخدام عامل الإثارة في نسج خيوط الجريمة لا يتوقف عند سباطة عند عتبة جريمة واحدة، فالعقل البشري حين يصبح أسير الغرائز العدوانية، يبدع في جرائمه، بدءا بالتنكيل الجسدي لابن جلدته، إلى التنكيل النفسي الذي يقتل المرء في داخله ويتركه معلقا بالحياة بجثة لا يطالها الموت إلا بعد عذاب طويل. وفي الحقيقة كاتبنا الشاب المبدع لا يبتكر جرائم خارقة لإدهاشنا، بل يحفر في تاريخنا القريب منه والبعيد، لإخراج جرائم حدثت في الواقع، جرائم لهول حجمها، نصاب بصدمة كيف استطاع منفذوها طمسها، والإفلات من العقاب. يؤكد لنا بعدها أن «الخيط الفاصل بين الرواية والحياة لا يكاد يُرى» قبل أن يوصلنا إلى مكان ما يكشف فيه سر تقنيته الكتابية، حين يحدثنا عن جماعة أوليبو الأدبية، «المعروفة بثورتها على البناء الكلاسيكي للروايات والقصائد، ومحاولاتها هدم الجدار الفاصل بين قواعد الرياضيات والأدب». هكذا يقدم لنا معطى مختلفا لكتابة الرواية، منبها إيانا إلى أن كتابة رواية جيدة تبدأ بعملية بحث عمّا لا نستطيع رؤيته جيدا، وهو طيلة الوقت أمامنا. فقد انطلقنا معه من مأزق كاتبة أمريكية تعاني من حبسة الكتابة، ساعدها صديق قديم على رؤية ما صعبت رؤيته في والدها، الذي اعتقدت طويلا أنه رجل عادي أقرب للملل في شخصيته الراكدة من أي شيء آخر، لكنها كانت مخطئة كوننا أكثر جهلا بأقرب الأشخاص إلينا عادة، وبمجرّد نبشها في ماضيه ستكتشف شخصا آخر تماما، مع «باك غراوند» مخيف قادنا لجريمة زيوت الطائرات التي تخلصت منها قاعدة أمريكية في المغرب انتهت في الوجبات الغذائية لأبناء المنطقة، راح آلاف ضحيتها، وتشوه خلقيا مثلهم، وظلت طي الكتمان.
هول هذه الجريمة لن يختلف عن هول جريمة رهائن المسرح في موسكو، وطريقة إبادة بعضهم بغاز غريب، راح ضحيته عشرات من رائدي المسرح، قبل وقوعهم في أيدي مجموعة شيشانية قامت بالعملية لأهداف سياسية، أمّا الرابط بين الحكايتين فهو الشاب المغربي، الذي كان يمكن أن يعيش حياة من الرفاه في المغرب، لولا تهوره في لحظة غرائزية مجنونة هجم فيها على خادمة قاصر واغتصبها.
ثمة دوما نقطة تحوّل كبرى تنبثق من لحظة غرائزية قد تكون «الجنس» أو «القتل» أو «النهم المبالغ فيه للسيطرة على الآخر» وهي نقاط وظفها الكاتب بحكمة، ومنحنا فرصة تتبعها ببطء وتعقل، وكأن الأمر كله متعلّق بإعادة تحقيق كامل في الجريمة الإنسانية وعواقبها حين تنفلت شرارة الرغبة دون رادع عقلاني.
تنتهي الرواية كما تنتهي بعض الأفلام السينمائية المشوقة، بعد رحلة من المغامرات المثيرة، بلقاء متجدد بين الكاتبة الأمريكية والشاب المغربي الطموح، الذي ساعدها في رحلتها الأولى، لبدء مغامرة جديدة بحثا عن أخ محتمل عرفت بوجوده من أحد أسرار والدها المدفونة. كما يمنحنا الكاتب بعد هذا الماراثون المتعب في تقفي آثار أقاصيصه فسحة لتنفس الصعداء، وقد أعاد أشخاصه إلى قواعد سالمة، فجمع الحبيب بحبيبته، وكافأ المجتهد بما يستحقه، وأعاد الابن الضال إلى دياره بعد أن دفع فاتورة خطيئته أضعافا مضاعفة، أعاده مختلفا، ينشد الغفران من الصبية الفقيرة التي غرس في داخلها شعورا أبديا بالمهانة والإذلال.
«الملف 42» رواية بديعة صادرة عن المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء ـ بيروت) للمغربي عبد المجيد سباطة رواية أخرى تعيد إلينا الثقة في النتاج الروائي العربي بقوة.
شاعرة وإعلامية من البحرين
– كتابة الرفوف أفادت غبار المكتبات.
– كتابة البحوث ظلال على أهل الإختصاص.
– الكتابة الإلكترونية تعادل أضعاف الكتابة الورقية.
أما الصورة زمن برق الهاتف الجوال فقد تفوقت عليهم حتى أن المثل الفرنسي عن الصورة:
un bon dessin vaut mieux qu’un long discour. أكده.
– الكتب المسموعة ضائعة في مجاهل الويب.
– القادم أفضل.
عزيزتي الأستاذة بروين شكرا لأنك القيت الضوء على رواية مغربية جميلة، يستحق هذا الكاتب ان يقرأ، لقد ابدع في هذه الرواية كما في سابقاتها، لكنه تميز بابتكار أساليب جديدة لم يتعود عليها القارئ العربي، اعتقد انه متأثر بالأدب الأمريكي.