صعوبة نوعية الاقتراع الجديد الذي تبنته السلطة لأول مرة في الجزائر، المعتمد على قائمة النسبة المفتوحة، وكثرة الترشيحات الحزبية والمستقلة، التي بلغت 22000 ترشيح، يجعل من الصعب ظهور نتائج الانتخابات في اليوم الموالي للانتخابات، كما كان يحصل في السابق، وهو ما يفرض علينا الاكتفاء بمناقشة بعض الأرقام المتعلقة بنسب المشاركة في هذه الانتخابات، في انتظار صدور معطيات أخرى، يمكن ان نعود اليها بالتفصيل لاحقا، بعد الانتهاء الكلي من الفرز بعد عدة أيام.
لنكتفي بالقول إننا امام متغيرات ديموغرافية وتاريخية ـ ثقافية وسياسية، وسمك نخبوي، هي التي تفسر السلوك الانتخابي، الذي يملك علاقة تفسيرية واضحة بالكثافة العمرانية والديموغرافية، لدرجة فيها امام شبه قانون سوسيولوجي، يمكن اختصاره بهذا الشكل، كلما كانت الكثافة السكانية كبيرة كان الاتجاه نحو المقاطعة أكبر، وكلما كانت الاستفادة أكبر من الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي قلت المشاركة في الانتخابات، بل انعدمت في بعض الأحيان، كما هو حال منطقة القبائل ومدن الشمال.
معطيات أولية، تخبرنا في هذا السياق ان نسبة المشاركة في هذه الانتخابات ستكون في حدود الثلاثين في المئة وربما أقل – مشاركة جزائري واحد من أربعة – بعد إضافة نسبة مشاركة المهاجرين، التي كانت الأضعف في تاريخ الهجرة حتى الآن. عدة اعتبارات منها ما هو متعلق بالاتجاهات الثقيلة التي تعيشها الهجرة الجزائرية، التي عرفت عدة تحولات نوعية على المستوى السوسيو – ثقافي، انتقلت بموجبها من هجرة عمالية وشعبية، كانت مقتصرة في السابق على فرنسا، إلى هجرة أكثر نخبوية، بعد تحسن مستواها التعليمي وتأهليها، ما جعلها أقرب في سلوكها الانتخابي إلى الفئات الوسطى المؤهلة، المقيمة داخل التراب الوطني. زيادة على ما يتوفر لها من شروط الحرية التي يتمتع بها المهاجر الجزائري في الدول الغربية – عكس مواطنه المقيم في الدول العربية، الغائب سياسيا حتى الآن – ما يجعل سلوكه أكثر استقلالية وقدرة على التعبير الحر، علما أن جزءاً مهماً من المهاجرين هم من منطقة القبائل، تعلق الأمر بفرنسا أو كندا كوجهة هجرة جديدة بالنسبة للجزائريين، تعرف مواقف معارضة وغليانا سياسيا، قرّبها مما يحصل في الجزائر في الشمال والمدن الكبرى.
الانتخابات أكدت مرة أخرى للجزائريين أنه من الصعب التعويل عليها، كوسيلة تغيير سياسي جربوها لأكثر من نصف قرن
اعتبارات متعلقة بالحدث، تفسر هذه النسبة المتدنية، التي عبّر بها المهاجرون، ذات علاقة أكيدة بالتعامل الرسمي الغريب، الذي قامت به السلطات العمومية وهي تمنعهم من دخول بلدهم وتفرض عليهم اشتراطات لم تفرض على الأجانب. سلوك رسمي غريب استعدى المهاجرين، وقرّبهم أكثر من المعارضة والمواقف النقدية. عبروا عنها بالمشاركة القوية في مسيرات الحراك، وهم يقترعون في الانتخابات، بهذه النسب الضعيفة، الأقرب لمنطق المقاطعة. الدخول في تفاصيل الأرقام والنسب المعلنة القليلة حتى كمشاركة في هذه الانتخابات، التي كان التحدي الوحيد فيها للسلطة، عكس ما يتم التصريح به من أعلى السلطات – تصريحات الرئيس تبون – تؤكد اننا أمام المشهد القديم نفسه، الذي يميز السوسيولوجيا الانتخابية في الجزائر، منذ مدة طويلة لم يمسسها التزوير، الذي مس النتائج وتقسيم النتائج على الأحزاب، التي تم العبث بها على الدوام، ما أفقد الانتخابات على الطريقة الجزائرية كل مصداقية ونفّر المواطنين منها، بعد أن اقتنعوا بأنها ليست وسيلة تغيير سياسي. سوسيولوجيا انتخابية تخبرنا من جهة أخرى أن التراب الوطني مقسم انتخابيا من حيث سلوك أبنائه إلى عدة جهات أفقيا وليس عموديا، قابل للتفسير بعدة متغيرات، منها ما هو متعلق بالكثافة الديموغرافية ـ العمرانية والحيوية الاقتصادية، زيادة بالطبع على التاريخ الاجتماعي والثقافي، في بعده السياسي، كحضور النخب وكثافتها وقدرتها على الفعل. مناطق تحتل فيها منطقة الشمال الساحلية بمدنها الكبيرة والمتوسطة ـ الجزائر العاصمة – بليدة – وهران -عنابة – قسنطينة، إلخ التي تعيش فيها أغلبيه الجزائريين، المكانة الأولى كتمركز بشري -67% من الجزائريين يعيشون داخلها ـ ما يجعلها مركز الثقل البشري الأول في الجزائر، كان ولا يزال المركز الأساسي للمعارضة والنشاط السياسي والحزبي الذي يعرفه البلد، كما أكدته مسيرات الحراك الشعبي التي تركزت في هذه المناطق، هي الفضاءات الحضرية نفسها التي كانت حاضرة في السابق في كل أشكال الاحتجاج الشعبي التي عاشتها الجزائر، بما فيه ظاهرة الإسلام السياسي الجذري، التي عرفتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي. منطقة الشمال هذه بمدنها وكثافتها السكانية هي التي تعارض وتقاطع الانتخابات منذ عقود.
المنطقة الثانية التي يمكن الكلام عنها في هذا السياق هي منطقة الهضاب العليا التي تمثل العمق الثقافي والأنثروبولوجي للجزائر، منطقة ذات كثافة سكانية وعمرانية متوسطة، متميزة بمعارضة سياسية أقل ومشاركة أكبر في الانتخابات التي نظمتها الجزائر، منطقة متوسطة الإنتاج النخبوي، رغم بوادر توجهها نحو معارضة أكبر عبرت عنها في السنوات الأخيرة نتيجة بداية حضور نخبة من أبنائها الذين استفادوا من انتشار التعليم، قد تعبر عنها الجلفة كمدينة أكثر من سطيف أو باتنة الأقرب، لما يسود من اتجاهات في مناطق الشمال، رغم تمركزها في منطقة الهضاب العليا.
منطقة القبائل بكل ما يميزها من كثافة سكانية وخصوصيات ثقافية وسياسية وحضور قوي للنخب وقرب من العاصمة، تبقى منطقة متميزة على الدوام، في معارضتها التي عبرت عنها منذ الأيام الأولى للاستقلال، دعمتها مع الوقت وهي تسجل نسب مشاركة متدنية لم تصل الى 1% في هذه الانتخابات التشريعية التي قاطعتها للمرة الثالثة بعد الانتخابات الرئاسية والاستفتاء على الدستور. مقاطعة يجب عدم الاستهانة بها كما تفعل السلطة وهي عاجزة عن إيجاد الحلول الفعلية لها، في وقت يزداد فيه حضور تيار سياسي وفكري يميني متطرف بقراءة إثنية، يمكن أن يوجه الرأي العام ويصبح اكثر حضورا في وقت زاد فيه منسوب أزمة النظام السياسي، وقلّ فيه ذكاؤه السياسي وقدرته على اقتراح الحلول الجدية التي تحتاجها الجزائر، وهو يتخبط في مشاكل من كل نوع سياسي واقتصادي واجتماعي، يمكن أن تساعد على توسع هذه القراءة الخاطئة التي يقوم بها هذا التيار المحافظ، الأقرب لمنطق اليمين العنصري والمتطرف.
عكس المناطق الثلاث الأولى، يتميز سكان الجنوب بكثافتهم الديموغرافية والعمرانية الضعيفة جدا، بنسب مشاركة قوية وقوية جدا، عبروا من خلالها دائما، كأبناء مناطق محرومة وضعيفة الإنتاج النخبوي، فقيرة ثقافيا وعلميا، رغم ما بدأ يظهر كسلوك على بعض الحواضر الجنوبية كورقلة وتمنراست وتندوف، بكل ما يميزها من حساسية موقعها الجغرافي الحدودي وخصوصيتها الإثنية ـ منطقة بلاد الطوارق.
إنها بعض دلالات نسب المشاركة، في انتظار معطيات أكثر تفصيلاً، لم تنشر بعد عن التقسيم السياسي والحزبي لهذه الانتخابات، التي أكدت مرة أخرى للجزائريين انه من الصعب التعويل عليها، كوسيلة تغيير سياسي جربوها لمدة أكثر من نصف قرن.
كاتب جزائري
مقاطعة الانتخابات والعزوف عنها ظاهرة عالمية وان أخفتها بعض الانظمة القمعية في منطقتنا العربية، وهو مالم يحدث في الانتخابات التشريعية الجزائرية الحالية.
لست من أنصار “نظرية المؤامرة” بل أنني أمقتها، لكن قراءتي للأحداث ومتابعتي لمايجري في المنطقة تمكنني من القول أن الجزائر مستهدفة في أمنها واستقرارها ومكانتها الدولية، وهي مقومات وجود وبقاء أهم من أي استحقاقات انتخابية تأتي بفولان او تذهب بعلاّن،مهما كانت أهميتها للمسار الديمقراطي على المدى الطويل.
انت من أنصار “نظرية المؤامرة!!!!!!!!!
الديموقراطية لن تاتي بين عشية و ضحاها المهم لم يتم تزوير الانتخابات و تمت بكل شفافية بغض النظر عن نسبة المشاركة و هدا يبقى شان داخلي جزائري بحت
اليست استنتاجاتك مبكرة يا استاذ؟