صارت الشعرية من الكلمات المعروفة حتى خارج الفئة العالمة. وهذه العبارة إن دلت على اقتران بجنس من القول هو الشعرية، فإن استعمالها في الأجناس الأدبية الأخرى ليس استعمالا مجازيا، بل هو استعمالٌ على المعنى العلمي الحقيقي، ويعني أن تُستعمل الكلمات أو العبارات أو التراكيب في هذه الأجناس استعمالات بعيدة عن أصل ما وضعت له، وأن تكون هناك إرادة في أن تستعمل بعيدا عن معناها الطرازي، الذي لا يعني بالضرورة معناها الحقيقي. فشعرية النص الشعري يمكن أن تدور حول طرائق البناء التصويري أو الاستعاري للكون الشعري، لكن شعرية القصة القصيرة أو الرواية لا تدرك لا في العبارات ولا في التصوير، بل في طرق البناء السردي وفي تشبيك العلاقات بين الفواعل.
غير أن الشعرية اتسعت لتخرج عن دوائر النص الأدبي المكتوب فللعاميات المتحدثة في الأسواق شعريتها وفي المنطوق طرائقه إلى الشعريى تختلف عن المكتوب. واتساع الشعرية أكثر كان بأن بات تسند إلى غير القول فهي سمة من سمات الأشياء والكيانات الدالة في الحياة والتي يمكن أن تحمل محامل سيميائية.
يمكن أن نتحدث عن شعرية المكان وهذا منثور في الدراسات هنا وهناك، ويمكن أن نتحدث عن شعرية الزمان مثلما سيكون موضوع حديثنا هذا.
شعرية الزمان باعتباره موضوع حديث في النصوص المكتوبة والمقروءة شيء، لكن شعريته باعتباره ظرفا أو وعاء للأحداث التي نعيشها شيء آخر، والحديث عنه باعتباره حالة طبيعية أو نفسية أو غيرهما هو أمر آخر.
شعرية الزمان باعتباره علامة دالة في ذاته هو الذي يعنينا في هذا المقال، لأننا سنتحدث عن شعرية العمر، باعتباره زمنا يمضي بين الولادة والحياة، أو باعتباره عهودا مقسمة بين الطفولة والشبيبة والكهولة والشيخوخة. شعرية العمر في هذا الاستعمال هو الدلالات التي تعطى لحقبة من هذه الحقب، شرط أن تكون الدلالة غير طرازية، أن تكون دلالة مبتدعة هاربة من الأنساق المتخيلة، أو المعيشة عن عمر الطفولة أو الشباب. ليس من الشعرية في شيء أن تقول عن الشباب إنه ربيع العمر لأن هذه العبارة، على الرغم من حفاظها على استعاريتها، فإنها معنى طرازي مألوف. شعرية الشباب التي تعنينا ليست الأقوال أو العبارات المألوفة التي تقال عن عمرك وأنت في حقبة ما، بل هي جملة العلامات التي يمكن أن تفصح عنها سلوكاتك لتدل على المعاني غير المألوفة. من شعرية الشباب في الملبس، أن تخرج جماعة عن المألوف في تسريحة شعرها لتقول شيئا جماليا ينبغي أن يفهم على أنه تعبيرة جمالية، حتى إن كانت استفزازية. تلوين الشعر الطويل هو شعرية فإن صار شيئا مكررا بات مألوفا. كان تخريق سراويل الجينز شعرية، حين كان ذلك اللباس درجة فئة ما في عمر الشباب، فلما صار شائعا صار طرازيا بين هذه الفئة العمرية.
شعرية العمر يمكن أن تدرك في سلوك مفارق لسلوك جيل من الأجيال؛ فالعمر الذي يعني الشرطة في جريمة اقترفها طفل صغير، لا يعنيها إن اقترفها شاب في عنفوان الشباب. يمكن للشاب أن يعنف شابا آخر وقد يقتله، فهذه حركة ممكنة الحدوث في هذا العمر، لكن أن يقترف الجريمة طفل، فالشعرية في هذا الحدث ليست نابعة من الفعل في ذاته، بل من الفعل في علاقته بعمر من اقترفه. الشعرية لا تعني بالمناسبة شيئا جماليا يمكن أن يقترن بالخرق، حتى إن كان الفرق بين عنف وعنف وبين قتل وقتل.
تبدأ شعرية العمر حين نضع الجسد والوعي في علاقة إدراك غير نظامية.. علاقة الإدراك النظامية تنشأ حين يحمل وعينا عن أجسادنا حكما زمانيا، فيعطينا سنا ما أو يربطنا بجيل عمري معين. ففي اللغة فإن كلمات (طفل، وشاب وشيخ وكهل) وغيرها، هي كلمات تُمَقْوِلُنا اعتمادا على أجسادنا وهيئاتنا عمريا. المقولة الخارجية بالاعتماد على الجنس والحجم والوزن والعمر لا شعرية فيها، بل فيه استعمال حقيقي للجسد والوعي به. تبدأ الشعرية مع الجسد حين يقرأ وعيك بجسدك أو بجسد غيرك أشياء ليست في معناه المقولي الأصلي. في مقطع من أغنية محرم فؤاد (أبحث عن سمراء قامتها هيفاء) ليس للجسد من شعرية لأن فيه ضبطا لمقاييس مدركة وموجودة لامرأة مناسبة أو مثالية. لا شعرية في بحثك عن امرأة سمراء، إلا في مجتمع تكثر فيه الشقراوات فهذه شعرية تبنى فيها الجمالية على مخالفة الكثرة ولا شعرية في بحثك عن امرأة هيفاء، إلا في مجتمع تكثر فيها السمينات العريضات اللائي تضيع لديهن تفاصيل مرفولوجيا الجسد المؤنث؛ غير أن الهيفاء والسمراء أضمرتا شعرية عمرية، لأن المرأة المبحوث عنها ليست إلا شابة وهذا مفهوم وإن كان خافيا.
أن تقول عن شاب في العشرين إنه ليث فليس فيها شيء من الشعرية بل تكون الشعرية حين تجعل للعمر ذاك رمزية. شعرية عمر العشرين وهي شعرية تلقي على العمر أكاليل من الزهر وأطنانا من الجمال، هي شعرية ما وجدت إلا لتتناقض مع شعرية الخمسين وما بعدها. كتب علينا أن نتذوق شعرية العمر من وعينا الحاضر بالفرق ما بين أجسادنا الآن وأجسادنا الماضية.
شعرية البطء هي شعرية حركية تخفي الأسباب الحقيقية. وراء البطء قلة الخفة أن تعطي للحركة شعرية تقترن عادة بالإيحاءات من نوع أن الخمسيني ليس على عجلة، ولمَ العجلة وهو ذاهب إلى الغياب؟
شعرية الخمسين هي إن شئت أن تعرّفها بالمقارنة، هي شعرية ترتبط بالجسد الظاهر وتعطيه جملة من المعاني كمعنى الحركة. شعرية الحركة في الخمسين هي شعرية الثقل والبطء في ما ظهر من أفعال وأهمها المشي. هي شعرية من يمشي على مهل، لكن ليس في المهلة شيء من الثقل أو التثاقل، الذي يرتبط بشعرية السنين اللاحقة. تبدأ الشعرية حين تقرأ الحركة التي في مشية الخمسيني على أنها شيء مختلف عن حركة العشريني، تبدأ القراءة حين ترسل وعيك على جسد من تراه ماشيا في هدوء، لا سرعة في حركته ولا بطء، لكن فيه شيئا من التملي وأحيانا التأمل الذي يعطيكه بطء الحركة من أجل النظر في الأشياء.
شعرية البطء هي شعرية حركية تخفي الأسباب الحقيقية. وراء البطء قلة الخفة أن تعطي للحركة شعرية تقترن عادة بالإيحاءات من نوع أن الخمسيني ليس على عجلة، ولمَ العجلة وهو ذاهب إلى الغياب؟ إنه بطء يترجم إلى سكون يقود إلى التمهل والصبر على مغالبة الزمان، أو مجاراته، بطء في حركة المشي أو السير كأن فيها نقلا للنظر بين رقاص الثواني في الساعة ورقاص الساعة فيها، وربما إلى رقاص اليوم إن وجد في الساعة رقاص لليوم. ليست شعرية البطء أن يراك الناس تمشي وكأنك تريد أن تأكل الوقت، بل أن يروك وأنت تمشي كأنك أنت من يعطي الإذن للوقت بأن يتحرك.
أمشي مثقلا بالأيام وبالمواعيد المدرسية الدقيقة يسجلني الموظف وأدخل إلى غرفة التلقيح ولا أسأل عن نوعه.. شعرية الخمسين أن لا تسأل ما يسأله الآخرون من سؤالات يراد منها التشبث بالحياة.. شعرية الخمسين أن تقول قليلا وتعني كثيرا وحين تصبح شيخا ستقول كثيرا، وتعني قليلا هي شعرية الإسهاب والهذر.
أمد ذراعي آخذ الجرعة وأتظاهر بأني لا أخاف إبرة تنغرس في لحمتي الحية، لأني أريد أن أكون شجاعا في عين القريب الذي يرافقني وقلبه معي والغريب الذي يرسل إبرته إلى كتفي وقلبه في أغلب الحالات محايد. شعرية الخمسين مرتبطة لا بالعمر بل التجارب التي أوصلتك إلى هذا العمر: رحلتك مع الحياة وتفاصيلها بعبارة أخرى تختلف الشعرية باختلاف المطية التي أوصلتك إلى دائرة الخمسين: أن تصل على ظهر حمار ليس كأن تصل على ظهر فرس، وليس كأن تمتطي الطائرة.. المسألة ليست في الزمان بل في وَعْثَاءِ السفر..
هنيئا مريئا، إن شاء الله نلقاك في التطعيم الثاني.. شعرية الخمسين تجعلك تبتسم لا عريضا وتشكر لا مسهبا، تجعلك تترك للجرعة الثانية نصيبا من الابتسامة والشكر.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية