في التاريخ أحداث ماضوية، متسارعة وخبيبة في الزمن، يدركها الباحث عن طريق التقصي الفكري والمعرفي، إنه موت صغير عندما يُرادف بالرحلة والترحال، شرقا وغربا وجنوبا.
«موت صغير» رواية اقترنت بالسعودي محمد حسن علوان، فيها كشف عما طـُمر من تاريخ الأشخاص الفاعلين في البنية الثقافية والمذهبية في المغرب.
بين المرابطين والموحدين عراقة في السياسة والأدب والحكاية، وها هو محيي الدين بن عربي الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، نبت كأزهار اللحلاح الصغيرة في مرسيه، وشب في دار العلم والأدب والسياسة. في أحضان محمد بن مردنيش، الملك الذي استغل خفوت صوت المرابطين في الأندلس وصعود الملثمين، كان صوته في الخطبة ينذر بشؤم وحزن ووجل، خوفا على ذهاب إمارة في مرسيه، واندحار سلطانه فيها، الشيء الذي دفعه إلى مد يده السابغة إلى الفرنجة… وما فـُسد كان أعظم.
استنكف علي الحاتمي الطائي مجون جنود الإفرنجة بمرسيه، ليالي السبع الملاح أمام أعين وجلة من مستقبل مدلهم وغابش، فزاد الحصار من وطأة الحياة، فضلا عن وباء الطاعون، الذي أتى على أغلب مواشي مرسيه، فكانت قلاقلُ ومحنٌ تنساب من كل حدب وصوب. بالموازاة مع ذلك، كانت تفرض إتاوات وتجنى ضرائب من رعية ضاقت بهم سبل الأرض، وبدأوا يناجون السماء، فجاء الحلمُ كنداء من وراء غيم «يا علي، إن موقع الشامة من وجهك يعني أنه يولد لك ابن يرفع لك ذكرك، ويحفظ لك قدرك، لكن مكانها تحت عينك، يعني أنه يخالف دربك». اصطبغ هذا الحلم، الذي راود الحاتمي، بالسفر والترحال على مد العمر، من مرسيه المدينة المحاصرة تحت حكم الموحدين، إلى شعاب بيت الله الحرام مرورا بالفاطميين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة، وانتهاء بسجن مغمور في مد القاهرة. بالزنزانة الحجرية الضيقة الأركان والمساحة، كان شريط الرحلة يجيء إلى الكبريت الأحمر شلالا من ضوء يكسر عتمة هذا المكان الموحش.
ـ أكنت فارا من سيوف الموحدين؟ يا ابن العم؟ سأل سجين يلعب بالحصى على المتربة.
ـ لا، للنجاح ثمن.
في ذلك المجلس العلمي، تعالت أصوات تندد بعلم آت من الأندلس، لا، لا للخوانق أليس فينا أنبياء ومجالس الملائكة، حتى تقبلوا بعلم لم يخرج من صلبنا وترائبنا؟
في رواية «موت صغير» وثيقة تاريخية، تنهض بأساليب الحكم في المغرب، وتقاطعه مع مسار محيي الدين ابن عربي الصوفي الأندلسي، من خلال مجالس الذكر والوعظ و الإرشاد.
اعتاد الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، أن يتذكر رحلته إلى الشرق رفقة الحصار، للبحث عن أوتاد العلم. فالحصار عالم بالهندسة والجبر، بينما ابن عربي تاريخ من المعرفة وشعاب التصوف، كل هذه الأشياء يجرها كعربة الحكائين وراءه، حكى له عن ابن مردنيش، وعلاقته بأبيه. فضلا عن فاطمة بنت المثنى وعن إشبيلية، وملكها العاشق للأدب ومجالس الفكر، والكومي وابن رشد فيلسوف قرطبة، الذي أبعد عن مساجد الله. ابن رشد ومنفاه في أليسانة، وأبو مدين الغوث الذي قضى نحبه، وهو متجه إلى مراكش، إنه شيخ العارفين والمتصوفين.
بخلاف شب عن أي المذاهب أصلح و أبقى للرعية، أللمالكية أم للظاهرية؟ فالموحدون ظاهريون، سندا وعملا بما جاء به ابن حزم الظاهري الأندلسي صاحب «طوق الحمامة» إنه التيه في ظاهر نصوص مهاجرة دون العمل بالتأويل والقياس. إلا أن أبا مدين الغوث، في بجاية ضواحي تلمسان، التابعة لنفوذ الموحدين، أصبح له أتباع كثر، وبذلك خالف الخليفة في مراكش، مستشعرا خطرا آت من الشرق.
أضحى الأمر شاقا أن يستدعي الغوث إلى رحاب الخليفة في مراكش، وهو رجل مسن، فدمعت العيون تحسرا على فراق أليم لوتد علم، ينضاف إلى أوتاد أخرى متفرقة في بلاد الله. كان الإحساس، الذي يخالج ابن عربي، وهو متجه إلى بجاية لمعرفة أسباب تأخر أبي مدين عن مجالس الخليفة في مراكش، حلما في الكرى، وهو يقضي ليلته الخامسة في العراء. جن الليل وشعر بدنو الأجل. يقول أبو مدين الغوث «إن منيتي قدرت في غير هذا المكان، ولا بد من الوصول إلى مكان المنية» وهو يردد «الحمد لله الذي قيض لي من يحملني إلى مكان منيتي». شاع الخبر بعد الوفاة في كل أرجاء بجاية وتلمسان، ولم يكف الناس والأتباع عن الصلاة إلى حدود اليوم الموالي. حدث جعل من الكبريت الأحمر أن يتموقف من أمر الخليفة الموحدي يعقوب المنصور، لأنه يؤدي أولياء الله وأتقياءه. في غضون ذلك، ارتسمت أمام محيي الدين بن عربي، طريق وعرة، كان مستهلها أن خالف أمر على الحاتمي الطائي، الذي لا يبرح بلاط الخليفة إلا لماما، أو لأمر فيه قسوة وشدة.
كان هذا الحادث في الرواية، موت أبي مدين الغوث، يطل على حدث آخر أشد وطأ وأقوم قيلا، تم الكشف عن علاقة ربطت بين يعقوب المنصور الخليفة الموحدي وفيلسوف قرطبة ابن رشد. بيد أن النفي إلى أليـُسانة، إحدى مقاطعات قرطبة، الواقعة في وهاد الأندلس، كان النقطة التي أفاضت الكأس، علاوة على أمر حرق كل ما خلفه ابن رشد من كتب ومؤلفات. ومن أجل تكفير عما سببه الخليفة لأولياء الله ودعاة التنوير والحرية في الفكر والمعتقد، عفا عن ابن رشد من منفاه، فالوقوف أمام الجلاد أعطاه محمد حسن علوان صورة شاعرية متحركة، تنم عن شجاعة أهل العلم والتقوى. فالمدة التي قضاها ابن رشد في أليسانة، وهي ثلاث سنوات، منع على إثرها من طرف الدهماء، دخول بيت الله. يقول ابن رشد:
ـ لقد بقيت في أليسانة ثلاث سنوات لم أدخل فيها بيتا من بيوت الله.
هل تعلم هذا؟ هل تعلم؟
فقال الخليفة:
ـ خفف ملامك يا ابن رشد.
ـ سيحكم الله بيننا يوم القيامة يا يعقوب.
أدار ابن رشد ظهره للخليفة، وانصرف بخطوات بطيئة، تاركا وراءه الخليفة كاتما غيظه وحنقه عليه. كانت هذه الواقعة تجري أطوارها، كوقع حسام على جسد مهيض، أمام الشيخ الأكبر، ما أشفى غليل هذا الأخير، بما تفضل به ابن رشد من قول ولوم ومؤاخذة شديدة اللهجة، وهو في حضرة الخليفة يعقوب المنصور. لم يتخل ابن عربي عن تفاعله المطلق مع أحداث عصره، خصوصا تلك التي تهتم بالعلماء والفقهاء، لأنه يراهم من منظوره الخاص أو عباءته امتدادا شرعيا بقوة العلم والمعرفة لعباءتهم. توفي ابن رشد بعدما رفع القضاء إلى السماء، كوجه حقيقي للعدالة الربانية في هذا الوجود المترامي. ذاع الخبر مجددا فضاقت الأرض بالخليفة الموحدي، قاهر الفقهاء والعلماء، فقرر الترويح عن نفسه من لوم جائر قد يصيبه، حيث إن الأوراق بدأت تتساقط تباعا، بعد الغوث أتى دور ابن رشد، ليجعل ابن عربي مكانه بعد هؤلاء.
سافر يعقوب المنصور إلى قصره في مدينة سلا، ليسلي نفسه من المصائب والمحن، التي تأتيه من كل حدب وصوب، وفي هذا المكان كان اختفاؤه مدبرا، وخروجه من المشهد السياسي برمته. فسار هذا الاختفاء لغزا محيرا في تاريخ المغرب الوسيط، فألقي اللوم على القشتاليين شمالا، وعلى مهد القرطاجيين شرقا بنو غانية، ليتولى بعده ابنه محمد بن المنصور قلائد الحكم في المغرب.
في «موت صغير» لمحمد حسن علوان وثيقة تاريخية، تنهض بأساليب الحكم في المغرب، وتقاطعه مع مسار محيي الدين ابن عربي الصوفي الأندلسي، من خلال مجالس الذكر والوعظ و الإرشاد. موت صغير، أهو إحياء لماض قد تولى؟ أم إزعاج ونفض غبار عن مرحلة جد حساسة من تاريخ المغرب الوسيط؟
كاتب مغربي