راجت في لبنان مفردة «الثورة» طيلة العامين الماضيين.
هذا على غير عادة البلد الذي لم ينبثق دستوره لا بعد الاستقلال عن فرنسا، ولا في المرحلة التي أعقبت الحرب الأهلية، عن «شرعية ثورية» يبني عليها على منوال معظم الجمهوريات العربية، التي تستلهم مفهوم «الثورة» سواء عنت بها الكفاح الوطني التحرري (الثورة الجزائرية) أو الإنقلاب العسكري الذي يشرّع الطريق أمام تحولات عميقة (23 يوليو) أو هبّات جماهيرية (ثورات الربيع العربي المكرّسة في مقدمة الدساتير المعاد صياغتها، كما في حالة «ثورة الحرية والكرامة» في مقدمة الدستور التونسي الحالي).
في الوقت عينه، أولئك الذين أكثروا من «بهبطة» مصطلح الثورة على أوضاعهم المحلية، إنطلاقاً من تقيّدهم بقسمات مانوية، كمثل ثنائية «الشعب والنظام» والـ»99 بالمئة ضد الـ 1 بالمئة» قلما ذهب رهط منهم إلى طرح الحد الأدنى المقتضى في أي ثورة سياسية، أي الذهاب إلى انتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً جديداً للبلد.
بالنسبة لهؤلاء هذا إما غير واقعي وإما مستكره. ومنهم من سيقول لك أن المشكلة في التطبيق لا في الدستور نفسه، أو أنه انتخاب جمعية تأسيسية في لبنان هو أمر مستحيل، واتفاق هكذا جمعية على دستور جديد هو استحالة مضاعفة.
لكن، اذا كان من غير الواقعي التداول بأمر جمعية تأسيسية تعيد تأسيس الجمهورية وكتابة الدستور فهذا يعني أن إكثار الكلام عن ثورة في وضع كهذا هو أمر غير واقعي. إذا كانت الجمعية التأسيسية مستحيلة التصور، فهذا يعني أن الثورة بحد ذاتها، هي في الوضع اللبناني، إما مكابرة وإما استحالة.
لا يلغي ذلك أن الحاجة لاستخدام مفردة «الثورة» ولو بشكل عشوائي وغير مدرك لأبسط شروطه هي بحد ذاتها حاجة جديرة بالملاقاة والتفاعل معها. فهي تصدر عن سأم عميق، عن شعور حقيقي بأنّ «تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء» اذا ما انتزعنا هذه الجملة لكارل ماركس من سياقها في كتابه «الثامن عشر من برومير». ذلك أن ماركس يتحدث هنا عن تحول تقاليد الثورات السابقة في المجتمع الفرنسي إلى حواجز ذهنية – عاطفية تحول دون صياغة الموقف الثوري بشروط الراهن. وهذا لا يسري على الحالة اللبنانية. ما ينطبق عليها هو بالأحرى أن أجمل ما تحقق في التاريخ اللبناني المعاصر، انتفاضة تشرين 2019 هي التي تجثم كالكابوس الآن على أدمغة وأفئدة الشباب والناس. فليس بديهياً الاستيعاب، نفسياً قبل أي شيء آخر، كيف كانت وثبة الجماهير متاحة بسخاء في ذلك الوقت، ولماذا هي رغبة من المضني والعسير والمتعثر تحقيقها الآن. لكن ما يصل خريف 2019 باليوم هو تحديداً هذا العزوف عن طرح أي شعار يتصل بانتخاب جمعية تأسيسية وصياغة دستور جديد لجمهورية جديدة. وبالتالي، الحد الأدنى من الثورة السياسية غير مطروح اليوم، مثلما لم يكن مطروحاً قبل عام ونصف. هذا قبل الخوض في المشكلة الثانية، وهو عدم استعداد من يكثر من مصطلح «الثورة» لكي تكون هذه ثورة سياسية واجتماعية في وقت واحد.
هذا مأزق أساسي. اجتماعياً، هو بلد رافض حتى النخاع، ومن حيث تكوينه، أي مراجعة في العمق لكينونته كبلد للأغنياء أولاً، بل أنه حين تحصل الانهيارات الاقتصادية والمالية يجاهر بعد أكثر بأنه بلد لكبار الأغنياء فقط، وهذا ما يتصل تحديداً بإصرار المصرف المركزي وجمعية المصارف الخاصة على عدم الاعتراف بالافلاس، في مقابل تدفيع التركيبة الاجتماعية، وبشكل أساسي الطبقات الشعبية، فاتورة هذه المكابرة المزمنة على الإفلاس المريع.
في ظل هذا التعنت المستميت للحفاظ على معادلة «انه بلد للأغنياء أولا، بل لكبار الاغنياء فقط» لطالما كان السلاح جاذب الفقراء لتعديل الأحوال. لكن بالنتيجة كان السلاح مصعداً لقلة من أصول فقيرة أو غير غنية لتكتسب جاهاً ونفوذاً وشوكة، انما الفوارق والمظالم الطبقية والاجتماعية ما انفكت تزداد وتستفحل.
إصرار المصرف المركزي وجمعية المصارف الخاصة على عدم الاعتراف بالإفلاس، في مقابل تدفيع التركيبة الاجتماعية، وبشكل أساسي الطبقات الشعبية، فاتورة هذه المكابرة المزمنة على الإفلاس المريع
سياسياً، يرتبط هذا بوصول مشكلة النظام الميثاقي أو التوافقي أو المحاصص إلى نقطة ما عاد من الممكن فيه ان تدّعي الجذرية «شرط الابقاء على الدستور الحالي». البلد خاضع ليس فقط لنوع رث من الديمقراطية، بل لنوع اكثر رثاثة بعد من التوافقية، أو الـ consociationalism التي اعتبرها العالم السياسي الهولندي الامريكي أرند ليبجارت خاصية لا مناص منا للديمقراطية في المجتمعات المتعددة اثنياً. الفكرة أنه حين تكون الأكثرية والسياسية متعلقة بالأوزان والحسابات الإثنية أولا لا يصبح معها التداول على السلطة بين أكثرية وأقلية سياسيتين متاحاً بنفس القدر، وبنفس الشروط، وبالتالي لا بد من توسيع قاعدة المشاركة في الحكم، وعدالة توزيع الموارد، ولا بد من منع الجماعات المختلفة ضمانات تشابه حق النقض. وكل هذا يطبّقه لبنان تطبيقاً تحويرياً عن مقاصد ليبجارت. مثلا، يربط ليبجارت حق النقض بالمسائل التي تعني الحفاظ على الهويات الثقافية المختلفة، كما يربطها بأن يكون في برلمان البلد المعنى مجلس نواب يقابل مجلس شيوخ، وحق النقض مودع في المجلس الأخير. لكن لبنان ألغى مجلس شيوخه بعد شهور قليلة على اعتماده في دستور 1926، ويقول دستوره الحالي بانتخاب مجلس شيوخ بالتزامن مع «الغاء الطائفية السياسية». وقبل كل شيء، لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية برلمانية وتوافقية في نفس الوقت لدى ليبجارت. لبنان مبني على أن هذا ممكن، وتلك نكبة متأصلة فيه.
رغم كل هلوساتهم، وحدهم دعاة «الفدرالية» يطرحون تصوراً يطرق باب المسائل المتعلقة بإعادة تأسيس العقد الاجتماعي واعادة صياغة دستور البلد.
هذا مع كونهم يبحثون عن فدرالية على أساس ديني، في حين أن ما من نظام فدرالي جدي في العالم من دون علمانية، واحقاق التشريعات المدنية، وفي طليعتها قوانين الأحوال الشخصية. يمكن أن تكون التعددية الدينية وشكل حضورها في الجغرافيا السكانية هي الخلفية الموجبة لصيغة رحبة بل فضفاضة من المعاش الاتحادي. الا انها لا يمكن أن تتحول «خبط لصق» إلى معيار فرز الولايات، وبخاصة في بلد كلبنان، يتكثف أكثرية سكانه في بيروت الكبرى، وبالتالي هو بلد بتمركز سكاني ضخم في عاصمته وحولها، وإيجاد صيغة مريحة لتعدديته عليها قبل كل شيء أن تطرح على نفسها السؤال حول عيش التعدد والاختلاف في هذه المدينة الموسعة التي يتكثف معظم السكان ضمنها. لبنان متأرجح في تكوينه بين نموذجين، الدولة – الأمة والدولة المدينة. تصالحه مع ذلك طريق ثورية غير مطروقة بعد.
لطالما بقيت الفدرالية في لبنان معزوفة لا تعرف كيف تطرح في التداول حتى تسحب، ومحسوبة على أقصى اليمين، واليسار يستشيط غيظاً منها كما لو كانت هذه الدولة المركزية دولته لا دولة كبار الأغنياء أولاً.
ربما كان المجدي هنا مقابلة ذلك مع الحالة النيبالية. في النيبال، طرح الثوار الماويون ضد الحكم الملكي الذي جرى تقويضه عام 2007 النظام الجمهوري والفدرالية والتوجه الاشتراكي في وقت واحد. وأكثر، قالوا بأن هذه الفدرالية ينبغي أن تأخذ بعين الحسبان التعددية الاثنية، إذ كانوا يحتاجون لاستمالة أبناء الأقليات. ليصير الماويون المهيمنون بعد قيام الجمهورية في منزلة وسطى بين من يريدها فدرالية إثنية بحت وبين من يريدها فدرالية جغرافية فحسب، هذا في مقابل «المنتدى الاشتراكي الفدرالي» الذي يطالب بتقسيم الولايات حسب الأقوام بشكل أوضح.
ليست النيبال نموذجاً مثالياً، لكن دستورها بات يقول بالجمهورية، والديمقراطية، والعلمانية، والفدرالية، والتوجه الاشتراكي في وقت واحد، ويجري فيها تداول السلطة بانتخابات فعلية وحرة، من دون أن يتعافى البلد من انقسامه بين النفوذين الهندي والصيني، وبين أبناء وادي كتمندو وبين الأكثرية السكانية المسماة «أقليات اثنية» فيه. لكن على الأقل، هذا بالإمكان ان تسمّيه مساراً ثورياً، ومؤسساتياً، في آن.
برهن ماويو النيبال أنه، بلى، يمكن الجمع بين الفدرالية والديمقراطية والتوجه الاشتراكي، بل الأولى ان يقوم هذا الجمع.
ليس بالضرورة اقتباس دستور النيبال كما هو لبنانياً، لكن ثورة ليست جاهزة حتى في خيالها، كي «تبيض» دستوراً جديداً هي خيال ثورة وثورة لا مكان فيها لا لواقع ولا لخيال. إنما بانسداد. انسداد للفعلين الإصلاحي والثوري في وقت واحد، وادارة ظهر مزدوجة للمهام السياسية كما للمهام الاجتماعية لإنقاذ بلد هو قيد الإضمحلال.
ولم لا يكون لبنان هو الآخر جمهورية ديمقراطية علمانية فدرالية اشتراكية التوجه، كما النيبال؟ رتابة أجندات المجتمع المدني لا تستظرف ذلك؟ جماعة «التوجه شرقاً» فيه لا يعلمون أنه بين ماردي آسيا، الصين والهند ثمة تجربة ديمقراطية نيبالية فدرالية تحت الراية الماوية تستحق، من اللبنانيين تحديداً، استقاء الدروس والأفكار منها؟ هذا غيض من فيض من نضوب.
كاتب لبناني
صحيح، فدستور نيبال التعددي والذى ارسى للحقوق الاساسية لكل المواطنين واذ ان الحزب الماوي القى السلاح واسس اول حكومة بعد انتهاء الحرب الداخلية، الا انه تداول السلطة سلميا مع نقيضه حزب المؤتمر النيبالي. لولا تدخل الجارة الكبرى الهند، لوجدنا نيبال تحقق قفزات اجتماعية واقتصادية. اما لبنان، فالقوم نتاج حالة هجينة عصية على الفهم من تقاطع الاقطاع وتوارث الزعامات حتي في الحزب الاشتراكي مع المناطقية مع الدينية في دستور اشبه بالنكتة السمجة. ولو سمعك احد من الرهط تذكر لهم نيبال لنعتوك بالفلسطيني والسوري واخرجوك من بلدهم، اما هم فلا حرج ان يرتموا بأحضان ماكرون في مشهد محزن مخزيز اخي الكريم: الحل بعودة سوريا الطبيعية كمجتمع تعددي ووجه مشرق للشرق تتساوى فيه البشر امام القانون ويسهم الجميع في المشروع الحضاري
أهمل الأستاذ وسام سعادة العامل الإيراني، الذي سيعمل على ضرب كل مشروع فيدرالي أو اشتراكي أو ديمقراطي. حالة اللاتوازن تتوافق مع طموحات طهران.