نار الثأر التي تؤججها الدراما الجنوبية فتنة تنتظر شرارة البدء

كمال القاضي
حجم الخط
0

تُعد قضايا الثأر من القضايا الرئيسية في صعيد مصر، فهي على المستوى الواقعي تُمثل أمراضاً مُزمنة تهدد استقرار المواطن وأمنه. وبرغم الجهود المُكثفة المبذولة للقضاء عليها إلا أنها ما زالت مستوطنة وباقية في جسم المجتمعات القبلية والريفية، ولعل من دواعي استمرار مشكلة الثأر في المناطق الجنوبية تحديداً، تلك المعالجات السطحية والساذجة التي تتطوع الدراما بتقديمها فتُشعل النيران مُجدداً في قلوب الخصوم كلما خمدت. فعلى عكس ما يقصد الكُتاب والمخرجون والنجوم تأتي النتائج في غير محلها، حيث تتأثر بعض الشخصيات التي تستقي ثقافتها من الشاشة الصغيرة بما يُعرض من مظاهر الكبر والغطرسة وتتقمص أدوار الأبطال في المسلسلات فتزداد مساحة التنافس والتناحر في الواقع الجنوبي المُعاش فعلياً فتتقلص فرص الصُلح بين العائلات المُتنازعة وتبقى نيران الغضب مُستعرة في النفوس.
آخر ما تم عرضة من مُسلسلات في هذا الخصوص كان «نسل الأغراب» للمخرج محمد سامي وبطولة أحمد السقا وأمير كرارة وإدوارد ومي عُمر، ولأن ما أثير حول المُسلسل من مشكلات تتصل بالموضوع والأداء وحجم الإنتاج والمردود السلبي للحدوتة المُلفقة كان زائداً عن الحد، فقد أخذت القضية حيزاً أكبر مما تستحق على المستوى النقدي والجماهيري، ولهذا انتقلت العدوى سريعاً لمحيطات الثأر في المناطق الموبوءة بالمرض فتجددت النزاعات والاشتباكات واستيقظت الفتن النائمة، في دلالة واضحة على التأثيرات السلبية العميقة، وكان من الممكن أن تؤدي إلى كوارث كبرى لولا المُعالجات الأمنية الفورية التي حالت دون التمادي في الصراعات العائلية والقبلية في المناطق النائية التي تقل فيها الخدمات الثقافية والترفيهية وتتراجع فيها التوعية المُجتمعية.
ومن النوعيات الأخرى الحديثة لدراما الصعيد والثأر والدم، مسلسل «موسى» لمحمد رمضان وسمية الخشاب والذي عُرض أيضاً في توقيت متزامن مع مسلسل «نسل الأغراب» في الموسم الرمضاني الفائت وكان له نفس الأثر السلبي برغم أنه على المستوى الموضوعي تعدد في أطروحاته وجوانبه، لكنه لم يبتعد بأي حال عن النقطة المحورية المُثيرة للقلق والتوتر والباعثة على إحياء الثأر القديم ولو بعد حين، حيث أزمة المُحاكاة والتقليد الظاهرة في المُجتمعات الجنوبية تزداد وضوحاً وانتشاراً أمام المُستجد من الأعمال الدرامية ومداراتها وشخصياتها الكاريزمية التي تلفت النظر وتكون مدعاة لإعادة إنتاج الشخصية الدرامية بتفاصيلها وسماتها واقعياً وفعلياً ومن دون تمييز بين ما هو خيالي من بنات أفكار الكاتب وما هو موجود لحماً ودماً.
وعلى سبيل المثال فإن مسلسل «الضوء الشارد» الذي عُرض قبل سنوات كان محل اهتمام بالغ من جمهور الصعيد، إذ خلق حالة درامية مُبهرة شارك فيها كل الأبطال، الفنانة الكبيرة سميحة أيوب والفنان الراحل ممدوح عبد العليم الذي جسد شخصية رفيع بك، الرجل المرموق القوي صاحب الحيثية المهمة وعضو البرلمان الدائم بالوراثة أمام يوسف شعبان الذي جسد بدوره أيضاً شخصية وهبي السوالمي أحد كبار الأعيان ذوي الجاه والسُلطان والهيبة. ولأن المسلسل اقترب من منطقة الخصوصية والجذب فقد صارا كل من رفيع بك ووهبي السوالمي نموذجين شديدي التأثير من الناحية الشكلية والموضوعية، فتم تقليدهما تقليداً حرفياً في الواقع وهو ما تأكد بعد ذلك من تكرار النماذج الدرامية المماثلة التي صاغها الكُتاب على خلفية النجاح المُذهل الذي تحقق فحولوا الصورة النمطية الانطباعية إلى صورة واقعية بالفعل قريبة الشبه تماماً من الصورة المعروضة على الشاشة وهو مكمن الخطورة، لأن كل ما يتعلق بهذه الصورة الافتراضية من تفاصيل جوهرية أو فرعية يتم استنساخه وفق المُعطيات المتوافرة في العمل الدرامي مع إغفال الفروق الجذرية بين لعبة الخيال وطبيعة الواقع!
ولم يكن مسلسل «الضوء الشارد» هو العينة الوحيدة التي أخذت بألباب جمهور المجتمعات الجنوبية، لا سيما البسطاء من الناس فيها، وإنما كانت هناك أعمال سابقة اتسع مجال تأثيرها بشكل ملحوظ كمسلسل «سلسال الدم» لرياض وعبلة كامل ومسلسل «ذئاب الجبل» للنجمين الكبيرين الشقيقين حمدي وعبد الله غيث، مع أحمد عبد العزيز وسماح أنور ومجموعة متميزة من نجوم الأداء التمثيلي والحضور القوي، وبالفعل أحدث «ذئاب الجبل» ضجة مدوية إبان عرضه الأول. فقد زادت مُعدلات المتابعة الجماهيرية للحلقات وتناوله النقاد تناولاً جاداً مما ضاعف تأثيره الشعبي وأوضح ظاهرة التقليد أو التأثر بالحالة الدرامية في عمومها، بخلاف التأثر الخاص بأداء النجوم والأبطال في طريقة الكلام والحركة والأداء الزعامي في تعاملهم مع قضاياهم الشخصية، وهو ما يُفسر علمياً ونفسياً بالاستهواء، أي أن الحالة الدرامية قد تستهوي البعض فيعايشها ويستغرق في تفاصيلها، وهذا وارد في أي مجتمع مهما كانت درجة تقدمه، ولعل السينما الأمريكية قدمت نماذج أكثر وضوحاً في مسألة التأثير والتأثر عبر أفلام الأكشن والعنف التي غزت العالم كله فصارت نمطاً سلوكياً مُقلداً في معظم المُجتمعات بما فيها المجتمع الأمريكي نفسه.
وبالعودة لأصل الموضوع في الدراما الصعيدية فالنماذج كثيرة ومُتعددة وأوجه التفاعل لا حصر لها، خاصة مع المسلسلات الناجحة والتي تصدر بطولة بعضها الفنان السوري جمال سليمان وأحدث تأثيراً منقطع النظير سواء في مسلسل «سيدنا السيد» الذي قدمه منذ سنوات أو غيرة من أدواره المُعتبرة والمتميزة، ولو رجعنا بالذاكرة لسنوات سنجد مئات المُسلسلات من هذا النوع الجذاب قام ببطولتها نجوم كبار، فنور الشريف على سبيل المثال قدم في بداياته مسلسل «مارد الجبل» وسعيد عبد الغني قدم مسلسل «الغربة» وقدم عبد الله غيث مسلسل «البركان» في أول ظهور تلفزيوني درامي لإلهام شاهين منذ أكثر من أربعين عاماً، عن قصة الكاتب الكبير ثروت أباظة «شيء من الخوف» حيث جسدت إلهام دور فؤاده الذي قدمته شادية سينمائياً مع النجم الكبير محمود مرسي في فترة الستينيات.
وبشكل عام فإن الالتفات لظاهرة المُسلسلات الجنوبية التي تدور أحداثها حول قضايا الثأر في صعيد مصر مسألة ضرورية وحتمية وإعادة النظر فيها واجبة ومهمة منعاً لزيادة العنف وحرصاً على تقليل التوتر بالمناطق المُلتهبة لضمان السلامة العامة للمواطن.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية