باطولوجيا الأكاديمي العربي

هل هناك أكاديمي يُمكن تسميته بالعربي، من دون الحديث عن أكاديمية عربية؟ الحديث هنا عن أكاديمي عربي، ليس من باب التسليم بوجود أكاديمية عربية بوصفها تقليداً علمياً وبيداغوجياً قائماً بذاته، فطالما ارتبطت المعرفة الحديثة عامة، والعلوم الحديثة خاصة، بالممارسة الأكاديمية، أيْ بالمؤسسة الجامعية على وجه الدقة. دون أنْ يعني ذلك أن وجود جامعات أو تناسلها في السياق العربي هو بمثابة اعتراف ضمني بأننا بصدد تقليد أكاديمي، كما هو شأن تقليد يونان القديمة المتمثل في «أكاديمية أفلاطون» أو «بيت الحكمة» كتقليد عربي، أو «جامعة الزيتونة» في تونس، أو»جامعة القرويين» في فاس. لا أبداً. ما أقصده بالأكاديمي العربي هنا، هو من يحمل هذه الصفة، أو من يقدم نفسه على أساسها، انطلاقاً من انتمائه للجامعة، كمؤسسة اجتماعية حديثة، أو لإحدى مؤسساتها، بوصفه «أستاذاً باحثاً». وهو ليس عربياً إلا لكونه ينتمي إلى مجتمعات تعتبر نفسها عربية، كيفما كانت مكوناتها الإثنية الأخرى.
بهذا المعنى أتحدث عن أكاديمي عربي، لكن دون أنْ يعني ذلك إلغاء لخصوصية هذه الأكاديمية، التي يعود جزء كبير منها إلى السياق المجتمعي لصاحبها، فضلاً عن مساره الدراسي وتكوينه الجامعي، علاوة على تخصصه الجامعي ومكانته في السوق الأكاديمية.
لا يخفى على أحد شكوى المثقفين العرب المستمرة، منذ عقود خلت، من الوضع الثقافي الراهن للمثقفين العرب أنفسهم، خاصة الأكاديميين منهم، بما هو وضع متأزم. طبعاً هو ليس وليداً للحظة، وليس مفصولاً عن الوضع العام للمجتمعات العربية، لكنه تفاقم اليوم أكثر من الأمس. فمثقف جامعة اليوم ليس هو مثقف جامعة الأمس. إن الأكاديمي العربي اليوم يعاني من هشاشة علمية كبيرة وقصور فكري رهيب. إنه يُعاني من حالات مرضية غائرة، قد تحتاج إلى تحليل دقيق. نخص منها والحالة هذه: حرف الدال المرضي، حرف الأكاديمي العربي وكلمته، وهو دال «الدكتور» العزيز على مثقفينا العرب اليوم، في كل طلعة إعلامية من طلعاتهم، وفي كل منشور من منشوراتهم.. لماذا هو دال مرضي؟ إنه ليس مرضياً إلا لكونه يخفي القصور الحقيقي للمثقف العربي: لا يأخذ من الوظيفة الأكاديمية إلا صفتها الاسمية، بما هي صفة ثقافية رمزية واجتماعية بالضرورة.
الدال المَرَضي
متى سيتعلم المثقف العربي أنْ يترك لعمله، كيفما كان شكله، سواء كان مقالاً أم بحثاً أم دراسة أم كتاباً أم نصاً، الحديث عن صاحبه بدل الدال المرضي الذي لا يعبر إلا عن فعل باطولوجي غائر، ورأسمال إشهادي للعب الاجتماعي على المناصب والمنافع، الناتج عن وهم الوظيفة؟
لا أعرف ما المصلحة الكامنة وراء تسطير حرف الدال المَرَضي، دال الـ»دكتور» لتعريف أسماء الكتاب والباحثين، إلى درجة يُسطَّرُ فيها ذلك الدال، أو ما يحل محله من مشتقاته المتناسلة، بخط غليظ وبارز بعناية فائقة، قد يخفي عنوان العمل نفسه، فينقلب نتيجة لذلك، هذا الدال المَصكوك، من دال إلى مدلول بالمعنى السيميولوجي للعبارة. دائماً ثمة منفعة ثاوية وراء الإلحاف على ترسيخه كعلامة سلطة، أو إرادة قوة، سلطة صاحب النص على القارئ؛ ليس الأمر مجرد تأثيث لأغلفة الكتب والمؤلفات والنصوص؛ لا يتعلق الأمر والحالة هذه بمجرد صفة أكاديمية بقدر ما قد يتعلق الأمر بإضفاء نوع من المشروعية السلطوية على فعل الكتابة والتأليف والبحث، انطلاقاً من اعتراف المؤسسة المتمثل في الصفة المهنية والعلمية التي تمنحها للذات الأكاديمية.

متى سيدع الأكاديمي العربي دراسته لتتحدث عن فاعليتها المعرفية، أما كونه دكتوراً فهذا لا يُضفي أي قيمة معرفية، بقدر ما يضفي نوعاً من المشروعية الأكاديمية على عمله.

 لا أؤمن بالمراتبية الاجتماعية لأصحاب النصوص، سواء كانوا دكاترة أم غيرهم، مهما كانت مكانتهم في السوق الثقافية العربية وغير العربية.. كما أنني لا أقدس النصوص أبداً، كيفما كانت مكانة أصحابها في السوق المعرفي. متى سيدع الأكاديمي العربي دراسته لتتحدث عن فاعليتها المعرفية، أما كونه دكتوراً فهذا لا يُضفي أي قيمة معرفية، بقدر ما يضفي نوعاً من المشروعية الأكاديمية على عمله. وما ينتج عن ذلك من سلطوية للنص على القارئ، التي تعود إلى المراتبية الاجتماعية لصاحبه وإلى المكانة الرمزية لاسمه، كعلامة تجارية في السوق المعرفية. لماذا لانزال نحكم على النص انطلاقاً من المكانة الرمزية التي يحظى بها الكاتب؟ أولم يحن الوقت بعد لنتعلم قراءة النص، بعيداً عن الرأسمال الرمزي لصاحبه في السوق الثقافية؟
من هنا تستمد سوسيولوجيا النص مشروعيتها الإبستيمولوجية في أي قراءة، لذلك ينبغي علينا في كل قراءة أنْ نقتل رمزياً أصحاب النصوص، التي لم تستقل نسبياً عن أصحابها. من خلال الوقوف عند موقع أصحابها ومكانتهم في حقولهم المعرفية من ناحية، وكذا التساؤل عن مصلحتهم الاجتماعية، وراء كتابة نصوصهم من ناحية ثانية، بالإضافة إلى الكشف عن مراتبيتهم الاجتماعية من ناحية ثالثة، بغض النظر عن المفعولات العلائقية للشروط السالفة في النص، بغية تحرير النص، ولو مؤقتاً، من سلطوية مراتبية صاحبه، ومن ثم موضعة النص والتعامل معه على نحو فعال: أيْ التعامل معه كمفعول معرفي.
في نهاية هذا التحليل، لا يُمكن للمرء أنْ يغض النظر عن ظاهرة مرضية أخرى مسكوت عنها، لا تقل مرضية عن سابقتها، بقدر ما ترسخها، وهي تعتبر عندنا سمة أكاديمية مميزة، باعتبارها علامة على التفوق الأكاديمي والرصانة الأكاديمية، لكنها في حقيقة الأمر ليست أكثر من حالة مرضية، تحتاج إلى الكثير من التحليل النفساني الدقيق، ألا وهي مُضاعفة المصادر والإحالات، خاصة الأجنبية منها، إلى درجة يتحول فيها البحث إلى توثيق أو تحفيظ، ويتحول معه الباحث إلى موثق عقاري لممتلكات الباحثين الفكرية والعلمية، أما هو، فلم يعد في حاجة إلى تفكير.. لم يعد أكثر من برنامج توثيقي، يوثق ما جاء به الآخر، أي بحث هذا؟ وأي أكاديمية هذه؟ إنه العُقم بعينه.. أولسنا أمام تراثوية مقنعة؟
لعلّ مُضاعفة الإحالات والمراجع في الكتب والبحوث والدراسات، لا تُعبّر بالضرورة عن إبداعيّة الباحث وتمرُّسه، بقدر ما تُحطّ مِن قيمة العَمل مهما كان مجاله المعرفي أو ميدانه البحثي، خاصّة عندما تتحوّل تلك الإحالات والمراجع إلى أداة تقنية لإضفاء قيمة عِلمية مضافة، أو تقديم مشروعية إبستيمولوجية مفقودة للعَمل المعني.. والحال أنّ عملية المُضاعفة تلك لا تعبّر في نهاية المطاف إلاّ عن عجز العمل وصاحبه، حيث يُصبح هذا الأخير بمثابة موثق، ويغدو عمله نتيجة لذلك: بمثابة رزنامة مِن الإحالات، لكيلا نقول بيبليوغرافيا. إنّ الإحالات والمراجع ضرورية لأيّ عمل كان، وفي أيّ مجال معرفي كان، لكن الإكثار منها أو بالأحرى مضاعفتها أكثر مِن اللازم، دون فائدة تُذكر، وعلى حساب الفعالية، لا يغدو أكثر مِن تكديس وحشو لمعلومات، وأعلام، وعناوين لا طائلة منها. باختصار شديد: إنّ مُضاعفة الإحالات دون جدوى، يؤدي إلى العجز التام، وإلى فقر مدقع، فهي تُجهض أي محاول للخلق والإبداع قبل أنْ تولد. أما عن سيادة المراجع الأجنبية، ولو كان ذلك مفهوماً في بعض الأحيان، فإنه ليس أكثر من تجسيد لهشاشة الصورة التي يرسمها العربي عن نفسه.. إنها علامة على تقهقر.
ألا تغدو باطولوجيا الأكاديمي العربي، انعكاساً متوحشاً لهشاشة الصورة التي يُعاني منها الكائن العربي؟ أم العكس.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي عثمان لكعشمي. أعجبني المقال جدًا وأتفق تماما معك، لكن إستعمال مصطلحات علمية دون الإشارة إلى معنى تقريبي لها بالعربية يجعل القارئ أحيانًا أنه غير واثق من فهمه للنص. مثلًا باطلوجيا، سبسمولوجيا، إبيستمولوجيا … أعرف تقريبًا معانيها، لكن كنت أتمنى لو تم توضيح المعنى بشكل تقريبي بين قوسين.

إشترك في قائمتنا البريدية